تمتلك إيران نفوذًا كبيرًا داخل العراق، وهو أمر لا يمكن إرجاعه إلى قوة إيران فقط- مع الاعتراف بقوة الأذرع الخارجية لها- ذلك لأن هذا النفوذ الإيراني في العراق يتعلق بمتغيرات كثيرة مرت على الدولة العراقية فخلفت مكامن ضعف وبوادر أزمات عمدت طهران إلى استغلالها على الوجه الأمثل. وقد اعتمدت طهران في مد نفوذها في العراق على شقين- خصوصًا بعد الغزو الأمريكي – وكان أحد الشقين سياسي بحيث نجحت في إيصال ساسة من الشيعة الذين يميلون كل الميل لإيران إلى رأس النظام السياسي في العراق، ومن جهة أخرى لم تغفل الجانب العسكري أو الميليشياوي عن طريق جمع الميليشيات الشيعية تحت راية الحشد الشعبي إبان مواجهة تنظيم داعش الإرهابي في العراق. وعلاوة على ذلك، لم تغفل إيران مسألة السيطرة الاقتصادية التي تخلق لها مواطن نفوذ سياسي. وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
أولًا) مسارات التدخل الإيراني في العراق:
- المسار السياسي: كان دعم الحكومات الشيعية التي أخلت لها واشنطن الساحة، أولى الخطوات التي حرصت عليها طهران للتداخل في النظام السياسي في العراق ومن هنا عملت طهران على استغلال الولاءات المذهبية في المجتمع العراقي مع التأكيد على فكرة الطاعة لولاية الفقيه-وما تبعها من الترويج للمظلومية الشيعية.
- المسار العسكري: لطالما اعتمدت إيران على قدراتها العسكرية في بسط طموحتها السياسية على التوازنات الإقليمية والأمثلة على ذلك عديدة، ومنها جماعة الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق- ومن هنا يمكن الإشارة إلى أن السفراء الإيرانيين الذين عينتهم طهران في بغداد بعد عام 2003 خدموا جميعاً في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني مما يوحي بحجم الهيمنة العسكرية حتى على التوجهات السياسية للجمهورية الإسلامية. وتستغل طهران في ذلك الطبيعة الفتية للمجتمع العراقي؛ فتعمل على تجنيد الفئات الشابة ليصبحوا أعضاء في ميليشياتها، وقد نجحت في ذلك فأصبحت تمتلك مكونًا عسكريًا في العراق ممثلًا في عدد من الفصائل العسكرية التي تدين لها بالولاء وتوفر لهم دعمًا ماديًا، مما يسهم في السيطرة السياسية.
- المسار الاقتصادي: تستغل الجمهورية الإسلامية النواحي الاقتصادية لدعم نفوذها السياسي في العراق؛ ورغم أن الأمثلة على ذلك كثيرة ولكن تكفي الإشارة إلى الضغط الذي تمارسه إيران باللعب على وتر نقص الطاقة الكهربائية في العراق كونها هي من تقوم بتصدير الغاز إلى العراق وذلك على مدى 16 عامًا بأسعار تفوق متوسط الأسعار العالمية في الوقت الذي يحترق فيه الغاز العراقي المصاحب لعمليات استخراج النفط ولا يتم استغلاله. فضلًا عن أن العراق يستورد أيضًا من إيران ما يقرب من 1200 ميجاوات من الكهرباء عن طريق أربعة من الخطوط الناقلة، في الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة العراقية بشكل مستمر أن مستويات تصدير الغاز الإيراني لم تصل بعد إلى المستوى المتفق عليه، مما يوحي بأن إيران ربما تستخدم الغاز كسلاح سياسي أيضًا.
ثانيًا) محددات الدور الإيراني في الأزمة السياسية الحالية:
ورغم تعدد أوجه الهيمنة الإيرانية في العراق إلا أنها وخلال الأزمة السياسية الحالية تسعى للتحرك دون أي استعراض للقوى والنفوذ حتى وإن كان ذلك بشكل مؤقت ويمكن إرجاع ذلك لعدد من الأسباب: –
- علاقات طهران الإقليمية: تبنت إيران خلال الآونة الأخيرة استراتيجية جديدة لسياستها الخارجية تقوم على تحسين العلاقات مع دول الجوار، وهو أمر مدفوع بسببين: الأول طمأنة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وإيصال رسالة إلى الغرب بأنها نظام سياسي يمكن الوثوق به ومن ثم المضي قدمًا في التوصل لاتفاق نووي، والثاني هو أنه مسار مواز للمفاوضات النووية بحيث تستفيد من تحسن العلاقات مع دول الجوار في تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي معها دون التوقف عند حدود الوصول إلى اتفاق نووي أو عدم التوصل إليه.
وفي هذا الإطار فقد أطلقت جولات متعددة من المباحثات مع عدد من دول المنطقة مع الأخذ بالحسبان أن نتائج جولات المباحثات لم يتم الإعلان عنها، وقد أعطت هذه الجولات انطباعًا بأن الأطراف منفتحة على الحوار دون المبالغة في التفاؤل لأن أوجه الخلاف بين دول المنطقة وإيران متعددة ومتشعبة. وقد أخذت بغداد على عاتقها رعاية جولات المباحثات بين الرياض وطهران؛ ومن ثم فإن قيام إيران بالضغط وإشعال الأمور في بغداد يهدد بتصفير هذه الجولات والعودة بالعلاقات إلى المربع الأول وذلك لعدة عوامل، منها أن الاقتتال الشيعي – الشيعي سيصرف أنظار العراق عن ملف الوساطة كأمر خارجي إلى الهموم الداخلية، وأن ذلك الاقتتال والتدخل الإيراني المباشر سيؤدي إلى إشعال الأمور وتعطيل العملية السياسية في العراق إلى أجل غير مسمى مما يعود بالعراق إلى آفاق بعيدة عن محيطه العربي. خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الأمر يأتي في توقيت وقعت فيه المملكة العربية السعودية خمسة اتفاقات مع العراق خلال إبريل من العام الماضي بهدف تأسيس صندوق استثماري بين البلدين قوامه حوالي 3 مليارات دولار.
- الاتفاق النووي: لا تريد طهران أن يتأثر سير المفاوضات بينها وبين القوى الكبرى بأي توترات يمكن أن تحدث في العراق؛ وذلك لأن وصول الاحتجاجات إلى المنطقة الخضراء يؤدي إلى الإضرار بمصالح الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى. ذلك علاوة على أن انفلات الأمور في بغداد سيؤثر بشكل كبير على أسعار الطاقة؛ كون العراق لاعب أساسي في معادلة النفط العالمية، مما يضع هذه الدول وسط المزيد من الضغوطات أمام مواطنيها، وقد يكون خيار إيقاف المفاوضات مطروحًا خاصة أن الاتفاق لم يوقع بعد.
- العقوبات الاقتصادية: ضمن سياسة الضغط الأقصى التي مارستها الولايات المتحدة على إيران في فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، تم تصفير صادرات النفط الإيرانية مما أنتج آثارًا بالغة على قدرة إيران على توفير الدعم المادي اللازم لوكلائها وأذرعها في عدد من الدول. ولما كانت العقوبات مستمرة حتى الآن بفعل عدم العودة للاتفاق النووي، فإن إيران لا تزال تعاني من أزمة على الصعيد الاقتصادي؛ وتنبغي الإشارة هنا أن الحرب الروسية – الأوكرانية قد حققت انفراجة اقتصادية لطهران نتيجة للعقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الروسي وما يشكله النفط الإيراني من بديل.
- إيران ومعضلة الأكراد: لا ترغب طهران في أن تشعل صراع شيعي – شيعي ومن ثم ترك الساحة خالية أمام الأكراد والسنة فتفوت على نفسها المكاسب السياسية التي استطاعت الحصول عليها بعد الغزو الأمريكي في 2003. مع الأخذ بالحسبان هنا أن طهران ترى أن الأكراد جزء من الأزمة الحالية بسبب انقسامهم الداخلي وانحياز الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى مقتدى الصدر على حساب الإطار التنسيقي. ولا يخفى كذلك أن إيران تنظر يعبن الريبة لما تقول إنه تنسيق أمني بين أربيل وتل أبيب. ولذلك قامت باعتداءاتها الصاروخية على مبنى قالت إنه كان تابع للاستخبارات الإسرائيلية في أربيل وبررت موقفها بأن الجمهورية الإسلامية لن تقبل أن تكون العراق مصدر تهديد لها.
- الخوف من التداعيات: تدرك إيران تمام الإدراك أن مقتدى الصدر يسيطر على الشارع العراقي وليس فقط على أتباع التيار الصدري لأنه يروج لفكرة محاربة المحاصصة والفساد، وهو ما يمثل عامل ردع لإيران من التدخل المباشر؛ لأنها لو خسرت المعركة أمام الصدر فإن ذلك سيشكل الحلقة الأولى في سلسلة حلقات انهيار نفوذها السياسي في عدد من دول المنطقة، خصوصًا بعد تراجع أسهمها في الانتخابات اللبنانية الأخيرة.
- الاعتماد على الوكلاء: تعتمد طهران حتى الآن على وكيلها في العراق متمثل في الإطار التنسيقي للخروج من الأزمة السياسية الحالية؛ ولذلك رفض نوري المالكي إقصاء البرلمان من الحل السياسي الحالي، وأكد أن الأمور لن تتم حلحلتها إلا عن طريق البرلمان، وفي تأكيد على أن لجوء الصدر للشارع لن يؤسس لعملية سياسية تخالف الدستور العراقي، وفي هذا السياق يسعى الإطار التنسيقي إلى تعديل قانون الانتخابات والمفوضية الانتخابية، وكذلك العودة إلى نظام العد اليدوي بدلاً من النظام الإلكتروني الذي تم اعتماده في الانتخابات الماضية، كما يستهدف تقليص عدد الدوائر الانتخابية ويلقي اللوم على القانون لضعف تمثيلهم في البرلمان.
وفي هذا السياق فقد طرحت إيران عن طريق الإطار التنسيقي حلًا يتمثل في إما وصول الإطار التنسيقي إلى تشكيل حكومة أو العمل على شل العملية السياسية في البلاد عن طريق آلية الثلث المعطل وهو ما حدث قبل انسحاب الصدر ونوابه من البرلمان معتقدًا أنه بذلك يحرج خصومه في التنسيقي وأنهم سيهرولون للبحث عن حلول ولكن ما حدث أن الإطار استغل الأمر لصالحه عن طريق وضع المرشحين الشيعة الذين جاء ترتيبهم في نتائج الانتخابات في المرتبة الثانية مكان النواب المستقيلين، وبالتالي إقصاء الصدر من العملية السياسية الشرعية بعد أن رفض عرض إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس في المشاركة في حكومة ائتلافية. وتعول طهران في اعتمادها على وكلائها على أن المكونات الأخرى داخل العراق لن تنجرف وراء دعوات الصدر لتغيير النظام السياسي؛ لأن الأكراد على سبيل المثال لا يريدون التخلي عن المكاسب التي حصلوا عليها بعد 2003 والتي تضمن لهم مقعد رئيس الجمهورية.
- الهواجس الإيرانية: تخشى إيران من أي انتخابات مبكرة ستؤدي إلى تراجع نفوذها في البرلمان العراقي ولذلك فهي تؤيد الإطار التنسيقي في عدم الذهاب لانتخابات مبكرة قبل وجود حكومة مؤقتة غير حكومة مصطفى الكاظمي التي ساهمت في تغيير النتائج في الانتخابات السابقة- حسب قناعتهم- وتخشى طهران بشكل خاص من حصول الأكراد على نفوذ أكبر في الحياة السياسية العراقية وما يترتب على ذلك من تأثيرهم على قضية تصدير الغاز خارج البلاد بعيدَا عن الحكومة المركزية في بغداد. ولذلك استهدفت الهجمات الإيرانية البنية التحتية لمنظومة الغاز في كردستان أكثر من مرة كرسالة تحذير للعودة إلى المفاوضات مع بغداد، ويضاف إلى ذلك أن موقف طهران من أربيل يتعلق بالصراع التركي – الإيراني على النفوذ في المنطقة وذلك على خلفية الروابط القوية التي تجمع بين أربيل وأنقرة.
استنتاج:
- بالنظر إلى مخرجات جلسة الحوار الوطني التي دعا إليها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وحضرتها القوى السياسية في غياب لحضور التيار الصدري، يمكن فهم أن طبيعة الدور الإيراني في المرحلة السياسية المقبلة في العراق لن تزيد عن محاولات من النوع السياسي للخروج بنتائج تصب في صالح وكلائها في حال جرت انتخابات مبكرة، وفي هذا السياق فقد طرحت جلسة الحوار بالأمس ولأول مرة بشكل “رسمي” سيناريو إجراء انتخابات مبكرة ولكنها علقت هذا السيناريو على أن يكون ضمن الإجراءات الدستورية في الوقت الذي يطالب فيه التيار الصدري بالتحضير لهذه الانتخابات دون إجراء أي تغيير بخصوص قانون الانتخابات ومفوضية الانتخابات وفي ظل وجود حكومة الكاظمي. خصوصًا بعد قرار من مجلس القضاء العراقي بعدم الاختصاص في حل البرلمان وانتظار التيار الصدري لقرار المحكمة الاتحادية في ختام الشهر الجاري. وعلى الناحية الأخرى يتمسك الإطار التنسيقي بعدم إجراء انتخابات في ظل وجود حكومة تصريف أعمال وهو ما يقره الدستور العراقي أيضًا.
- أكدت جلسة الحوار الوطني على عدم جدوى إجراء أي انتخابات مبكرة في حال عدم وجود توافق سياسي- وفي هذا إصرار من إيران والإطار التنسيقي على إشراك التيار الصدري في الحوار وهو ما رفضه السيد مقتدى الصدر بشكل مسبق حينما أصر على عدم المشاركة في أي حكومة ائتلافية وأي حوار مباشر أو غير مباشر مع الإطار التنسيقي.
- تضمنت مخرجات جلسة الحوار الوطني مراوغة سياسية تلجأ إليها إيران بشكل متكرر في تحريك الأمور داخل العراق- ففي الوقت الذي تضمنت فيه مخرجات جلسة الحوار موافقة ضمنية على إجراء انتخابات مبكرة إلا أنها موافقة معلقة على تطبيق الإجراءات الدستورية، ويمكن تفسير ذلك بأن قوى الإطار التنسيقي وإيران يدركون أن حل البرلمان والذهاب نحو الانتخابات المبكرة يعرض مكتسباتهم السياسية للزوال كون هذه القوى تواجه غضب شعبي ” مكتوم” وتيار عراقي أصبح رافضًا لربط مصالح العراق بمصالح أي أطراف إقليمية أو دولية. ومن هنا فإن إيران والإطار التنسيقي يسعيان من خلال الوسائل الناعمة والمراوغات لتوجيه إرادة الصدر نحو منحنيات سياسية آمنة تضمن لهم البقاء دون اللجوء للقوة.