على الرغم من الجهود المكثفة التي قام بها الجانبان الروسي والتركي لإنجاح اتفاقهما المشترك بشأن محافظة إدلب، والذي تم التوصل إليه في سبتمبر الماضي (2018) في مدينة سوتشي الروسية بين الرئيسين التركي “رجب طيب أردوغان” والروسي “فلاديمير بوتين”؛ إلا أن الفترة الأخيرة في إدلب شهدت مجموعة من التطورات التي تكشف عن تحديات تُهدد بإفشال هذا الاتفاق وعودة التوتر للمنطقة.
ويمكن رصد عددٍ من التطورات السلبية على هذا المستوى والتي من بينها ما يلي:
– استمرار تشدد جبهة فتح الشام (القاعدة) مع الجانب التركي، حيث عرضت شروطها على أنقرة للخروج بصفقة في إدلب تحفظ مصالحها الأساسية. وتركزت هذه المفاوضات والتي جرت مع مسئولين عسكريين واستخباراتيين أتراك حول شروط انسحابها من الطريقين الدوليين السريعين “إم 4″ و”إم 5” بين حلب حماة واللاذقية، وفق ما جاء في اتفاق سوتشي الروسي التركي في سبتمبر الماضي. وتركزت شروط جبهة فتح الشام في: توقف أنقرة عن ممارسة ضغوطها على التنظيم لحل نفسه، ووقف تحريضها الفصائل الموالية لها ضد التنظيم في مناطق سيطرته في إدلب، بالإضافة إلى تسليم الأتراك بالإبقاء على “حكومة الإنقاذ” التابعة للتنظيم، أو إعطائه حصة معقولة في حال تشكيل حكومة مشتركة مع الحكومة المؤقتة التي يديرها الائتلاف السوري المعارض. وتشترط “تحرير الشام” أيضًا إدارة تركيا للطريقين الدوليين “إم 4″ و”إم 5” دون تدخل روسي، وانسحاب عناصر التنظيم 7 كيلومترات عنهما بدلًا من 10 كيلومترات، كما هو وارد في اتفاق سوتشي.
– تأكيد مواقع معارضة أن المناطق المحيطة بطريق دمشق حلب تشهد استنفارًا عسكريًّا بدأته “جبهة فتح الشام” التي استقدمت مجموعات عسكرية إلى محيط مدينة معرة النعمان ودارة عزة بريف حلب الغربي. واعتبرت تلك المصادر أن هذا الانتشار في محيط مدينة معرة النعمان التي تسيطر عليها فصائل “الجبهة الوطنية للتحرير” الموالية لتركيا يُمثل ابتزازًا لتركيا وفصائلها. كما أشارت أنباء أخرى إلى أن الجبهة تسعى لإكمال سيطرتها على الطريق الدولي بتوجيه أنظارها إلى مدينة معرة النعمان، وأن ذلك أدى إلى رد فعل مضاد من قبل جماعتي “أحرار الشام” و”نور الدين زنكي” في تلك المنطقة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مواجهات دامية بين الطرفين.
والتداعيات التي خلّفتها التطورات الأخيرة في محافظة إدلب أدت إلى خلل ونوايا سيئة من جميع الأطراف المنخرطة في تطبيق اتفاق سوتشي، خاصة في ضوء عودة الحديث عن عملية عسكرية من النظام، حيث أدى الهجوم الذي قامت به جماعات مسلحة من إدلب على محافظة حلب إلى تجدد المطالبات من جانب بعض أنصار النظام السوري بالتحلل مما يتضمنه الاتفاق المشترك بين موسكو وأنقرة بشأن إدلب، والقيام بعملية عسكرية تحسم مصير المدينة، وتفوّت الفرصة على الجماعات الإرهابية المتحصنة بها والتي تستنزف الدولة السورية من خلالها. يُضاف إلى ذلك أن الجانب الروسي نفسه بدأ يقتنع تدريجبًّا بأن تطبيق اتفاق سوتشي لن يتم بنجاح دون عمل عسكري ضد الأطراف العاصية له، وبما يُجبرها على الالتزام به، هذا بالإضافة إلى تجدد محاولات النظام تبرئة نفسه من تهمة الكيماوي، حيث وجد النظام السوري في هجوم الجماعات المسلحة الأخير على حلب فرصة لمحاولة قلب الطاولة، وذلك بالتأكيد على أن الجماعات الإرهابية المتحصنة في إدلب وبعض مناطق ريف حلب هي من يملك الأسلحة الكيماوية والغازات السامة، وأنها هي من أقدمت على استخدام تلك الأسلحة المحرمة دوليًّا في المرات التي قام الغرب فيها بإدانة الجيش السوري.
من ناحية أخرى، فقد تلاحظ تغير النظرة الروسية لجدوى الاتفاق حول إدلب، حيث بات الجانب الروسي يرى أن الرهان على إعطاء تركيا مزيدًا من الوقت لمساعدتها في إضعاف الجماعات الإرهابية لن يُجدي طويلًا، وأن التجربة أظهرت أن عامل الوقت تستفيد منه تلك الجماعات التي نجحت في توسيع نطاق سيطرتها إلى مناطق خارج إدلب.
وفي إطار تقييم الوضع بصفة عامة في شمال سوريا، نشير إلى ما يلي:
– أن تركيا تستثمر علاقاتها الوثيقة بالتنظيمات الإرهابية في سوريا كأداة رئيسية لتنفيذ رؤيتها لمستقبل الدولة السورية، خاصة تنظيم فتح الشام (القاعدة)، وأحرار الشام (الإخوان المسلمين)، وجيش الإسلام (السلفي)، وقد تبلور ذلك مؤخرًا في محاور أهمها عدم تنفيذ التزاماتها بانسحاب القوات العسكرية لتلك التنظيمات من منطقة خفض التوتر في إدلب، لتبقى تلك القوات أوراق ضغط على النظام السوري، ولعدم تحقيق مزيدٍ من المكاسب في أية جهود للتسوية السياسية للأزمة.
كما أنّ نجاح هذه التنظيمات في إعادة الانتشار خارج محافظة إدلب إلى مناطق في ريف حلب وريف حماة يهدف لاستنزاف القوات الحكومية السورية، والمساومة بذلك في إطار التعامل مع روسيا لدفعها إلى تفهم المطالب التركية في المناطق الكردية، وأن تكون تركيا طرفًا رئيسيًّا في تحديد مستقبل سوريا، كما أن إعادة انتشار التنظيمات الإرهابية في تلك المناطق يتزامن مع سعي تركيا إلى فرض سيطرة على أجزاء من تلك المناطق، واعتبارها أراضي تابعة لتركيا.
– أن مجمل الحركة الجارية في إدلب والمناطق المجاورة لها تقف وراءها تركيا، وتحظى برضى أمريكي لتوافق الاستراتيجيات، ولا يزال يجري حوار بخصوصها مع روسيا التي بادرت بتوجيه ضربة حيوية لمراكز تلك التنظيمات، متجاوزة بذلك حدود الاتفاقية الخاصة بإدلب بين الطرفين.
ويشير تحليل ما يجري في شمال سوريا ومنطقة إدلب بصفة خاصة، إلى أن هناك حرصًا تركيًّا، وبرضى أمريكي ومساندة قطرية، على استمرار الفصائل الإرهابية التي تم تهجيرها إلى المنطقة لتبقى المتاجرة بقضية مكافحة الإرهاب، ولتبقى المنطقة ميدانًا لتجميع الكوادر الإرهابية بتأثيرات ذلك سلبيًّا على الاستقرار في سوريا والمنطقة.