دخلت صناعة الصحافة في العالم منعطفًا جديدًا في الآونة الأخيرة بعد أن اتضحت الصورة فيما يتعلق بقدرة “الصحافة الإلكترونية” على أن تحل محل الصحافة الورقية، وتستبدل النموذج السائد في صناعة الأخبار على مدى أكثر من ثلاثة قرون بآخر يعتمد على التكنولوجيا الحديثة سريعة التطور التي أصابت الصناعة بحالةٍ من الجنون في السنوات الأخيرة، ثم استفاقت على تقييم سلبيٍّ بشأن مستقبل الصحافة الرقمية. فقد أظهرت الأرقام الأخيرة صعوبة انتعاش صناعة الأخبار وازدهارها اعتمادًا على النشر الإلكتروني وحده، ومن ثم بات ضروريًّا البحث عن طرق جديدة لجني إيرادات وتحقيق أرباح دون التبشير فقط بزوال الصحافة الورقية وحدها، والاعتماد على فرضية تراجع إيرادات الصحافة الورقية من الإعلانات لمصلحة الصحافة الرقمية.
في نقاشٍ مع أحد المديرين التنفيذيين الكبار في صناعة الصحافة الفرنسية، قال الرجل: “لا توجد صحيفة يومية واحدة تحقق أرباحًا من الصحافة دون أنشطة أخرى”، وكان يعني أن المؤسسات الإخبارية في حالة بحث دائم عن أنشطة غير صحفية تُعيد التوازن المالي إليها. في الوقت نفسه، تعمل الصحف الكبرى اليوم على إقامة تحالفات للتفاوض مع محركات البحث الشهيرة ومواقع التواصل الاجتماعي على عوائد أفضل من الإعلانات والمساحات المتميزة التي تُتيح تنوعًا يجعل المؤسسات الصحفية أكثر ربحية عما هي عليه اليوم.
على سبيل المثال، أقامت الصحف الفرنسية تحالفًا أُعلن عنه في نوفمبر 2018 من أجل التفاوض مع شركات مثل “جوجل” و”فيسبوك” على الحقوق المختلفة، سواء الخاصة بنشر المحتوى أو الخاصة بعوائد الإعلانات (٨٠٪ من عوائد إعلانات الديجيتال تأتي من جوجل وفيسبوك بشكل عام). كما أن المؤسسات الإعلامية العالمية تعمل اليوم على ملاحقة تطورات السوق من خلال الدخول في أنشطة غير صحفية Non-Media Activities.
وأكثر النماذج نجاحًا اليوم يتمثل في شركة “أكسيل سبرينجر” الألمانية المعروفة Axel Springer التي تحقق اليوم نسبة كبيرة من الأرباح من الدخول في أنشطة التسويق الإلكتروني، وإجراء معاملات تجارية على نطاق واسع، جعل منها الشركة الأقوى في السوق الأوروبية في غضون سنوات قليلة، بما صعّب من مهمة شركات الميديا الأخرى في منافستها بعد أن قامت “سبرينجر” بالاستحواذ على شركات متخصصة، مثل شركة تسويق عقاري كبرى في فرنسا وشركات أخرى في عموم القارة الأوروبية.
ويمكن القول إن الصورة بدأت في الاتضاح في العامين الأخيرين، حيث تكشّف للشركات الكبرى أن الاعتماد على كلٍّ من الاشتراكات في النسخ الإلكترونية -أو تسويق المحتوى- وعوائد الإعلانات الإلكترونية ليس خيارًا مربحًا أو قادرًا على تعويض خسائر الصحافة الورقية، سواء في تراجع مبيعات النسخ الورقية، أو تراجع عوائد الإعلانات في تلك الصحف.
في مقال مهم بصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية (عدد ١ فبراير ٢٠١٩) يقول ماثيو جارهان Matthew Garrahan، إن المجموعات الإخبارية باتت تبحث عن نموذج الأعمال المتجاوز لمسألة الاعتماد على الإعلانات. ويشير الكاتب إلى أن الصحافة لم تعد تربح بمفردها، بدليل أن هناك صحفًا إلكترونية شهيرة، مثل: “هافينجتون بوست” (المملوكة لشركة الاتصالات فرايزون)، و”بازفيد وجانيت” والأخيرة هي ناشر صحيفة “يو. إس. أيه توداي”، تقوم بتسريح العمالة بالمئات بعد أن هوت أحلام تحقيق الصحافة الرقمية لأرباح من الإعلانات، وصارت شركات المحتوى الإلكتروني مقومة أكثر من إمكانياتها الفعلية بكثير. ويرى الكاتب أن شهية القراء إلى الأخبار ما زالت مفتوحة، وهو ما يُعطي أملًا في القدرة على تطوير ما هو موجود. كما أن تحويل أرقام الدخول على مواقع كبيرة مثل “هافينجتون بوست” و”بازفيد” إلى مكاسب مادية ما زال تحديًا كبيرًا، خاصة في ظل سيطرة “جوجل” و”فيسبوك” على النصيب الأكبر من كعكة الإعلانات الإلكترونية.
وبالنسبة لصحف مثل “نيويورك تايمز” و”فاينانشال تايمز” و”وول ستريت جورنال”؛ فإن الاشتراكات في النسخ الإلكترونية أصبحت مصدرًا ثابتًا للعائدات تعتبر اليوم بمثابة تعويض عن خسائر تلك الصحف في إعلانات النسخ الورقية. كما أن المالكين لصحف شهيرة مثل “واشنطن بوست” و”لوس أنجلوس تايمز” يقومون بضخ أموال حتى تقف تلك المطبوعات على أرض صلبة، وتبني قواعد راسخة في سوق الاشتراكات الإلكترونية، والحصول على عوائد من أنشطة أخرى. في المقابل، توجد تجربة صحيفة “الجارديان” البريطانية التي تمكّنت من خلال علامة تجارية مهمة في سوق الصحافة الدولية ومن خلال المحتوى الجيد، من الحفاظ على القراء المتابعين لها، وهم من يمولون فعليًّا الصحيفة الإلكترونية، غير أن اختبار مسألة الاعتماد على تبرعات القراء أو التحول إلى نظام الاشتراكات كليًّا paywall ما زال في طور الاختبار فيما يخص تجربة مهمة مثل تجربة “الجارديان”.
التطورات السابقة تشير إلى أن سوق صناعة الأخبار يمر بتقلبات حادة لأسباب عديدة، أهمها ضعف نموذج الديجيتال الذي كان الاعتقاد السائد أنه سوف يكتسح الصحافة الورقية وينطلق إلى مرحلة جديدة من التطور، غير أن ما جرى في الأعوام الأخيرة من تراجع في أداء المواقع الإخبارية الإلكترونية، وخيبة الأمل في عوائد الإعلانات والاشتراكات، يعجل بضرورة البحث عن بدائل. المعضلة أن نموذج الديجيتال في الغرب كان يُنظر إليه باعتباره الأفضل والقابل للاستمرار لأمد غير معلوم، إلا أن تجربة الصحافة خارج الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تفترض أن تبحث مناطق أخرى من العالم عن نموذج الأعمال القابل للتعامل مع مشكلات مؤسسات الأخبار فيها، ومن بينها بالقطع مصر والمنطقة العربية، وهو ما سنتطرق إليه في مقال آخر.