واحدة من المناطق المعتمة في العلاقة مع الغرب هي كيفيةبناء رؤية موحدة لمواجهة المحتوى المتطرف أو المحرِّض على الكراهية على شبكةالمعلومات الدولية “الإنترنت”، إذ لم يتم التوصل بعد مع الشركاء الدوليينإلى تعريفٍ متَّفقٍ عليه بشأن ظاهرة الإرهاب، ولم تتفق الأطراف المعنية على توصيفطبيعة “خطاب الكراهية”، وبالتالي يصبح الكلام عن بناء استراتيجية أورؤية موحدة ضربًا من التفاؤل الزائد، إلا أن الأمر لا يجب أن يحول دون محاولةتقديم صيغة أفضل للتعاون في تلك القضية الحيوية، إذ إن هناك ضرورة ملحّة لمناقشةقضايا مثل: تحسن الممارسة المهنية، وبناء القدرات (من خلال التدريب وورش العمل)،وخلق مساحات آمنة للشباب على الشبكة الدولية، وتبادل الخبرات في الحقل الإعلامي.ودون تلك الصيغ ربما لن تجدي كل تلك المبادرات التي تهدف إلى بناء “قواعدبيانات” لمواجهة المحتوى المتشدد أو المحرض على الكراهية، سواء في مصر أو علىالمستوى العربي أو الدولي.
“
موقف الصحافة في الداخل المصري لم ينلْ ما يستحقه من الاهتمام على مدى قرابة مائة عام في التصديللفكر المتطرف الذي تسرّب إلى الحياة العامة بصورة أكثر وضوحًا بعد ظهور الجماعة الأم لتيار الإسلام السياسي “جماعة الإخوان المسلمين المحظورة رسميًّا” قبلأكثر من ٩٠ عامًا
“
الصحافة وظاهرة التشدد والتطرف:
في جلسة غير علنية بمقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، قبل شهور، حدثت مكاشفة حول موقف كل الأطراف من قضية مواجهة المحتوى المتطرف، وتناول كاتب هذه السطور من منظور تاريخي تعامل الصحافة المصرية مع ظاهرة التشدد والتطرف الديني، حيث تطرّق إلى أن موقف الصحافة في الداخل المصري لم ينلْ ما يستحقه من الاهتمام على مدى قرابة مائة عام في التصدي للفكر المتطرف الذي تسرّب إلى الحياة العامة بصورة أكثر وضوحًا بعد ظهور الجماعة الأم لتيار الإسلام السياسي “جماعة الإخوان المسلمين المحظورة رسميًّا” قبل أكثر من ٩٠ عامًا. كان التيار التنويري في الصحافة المصرية رائدًا في التصدي لكثيرٍ من فكر الجماعة، وبخاصة أفكار “سيد قطب” الأب الروحي لتيارات العنف في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، والممتد تأثيره حتى الآن.
وقد مضت معارك الصحافة المصرية دون أن يمنحها الغرب حققدرها في مناخ سياسي ناصب التيار القومي العداء قبل أكثر من نصف قرن. وعندما نشر “لورنسرايت” كتابه الأشهر “البروج المشيدة” قبل نحو ١٣ عامًا صدم القراءالغربيين بالتفاصيل العميقة لحملة الإرهاب الحديثة والأفكار التي تُلهم الإرهابيين،والدور المحوري لشخصية “سيد قطب”. كما لم ترصد الدوائر الغربية معركةمواجهة موجة التشدد في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على الرغم منحقيقة أن السياسات الغربية الرسمية لعبت دورًا في نشر أفكار “الإسلامالسياسي” في حقبة مواجهة الشيوعية، والتي بلغت ذروتها بحرب أفغانستان ورعايةحملة الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي السابق. كل هذه التطورات سقطت من الذاكرة عندمابدأ الحديث عن مساحات التفاهم المتبادل في أعقاب هجمات ١١ سبتمبر الإرهابية، كمالو أن التاريخ بدأ منذ وقوعها.
“
واحدة من نقاط الخلاف التي تحتاج إلى نقاش موسع هي كيفية النظر إلى “المحتوى”، فالذي يُنظر إليه على أنه “حرية التعبير” في بلد ما يمكن أن يُعتبر في بلد آخرتحريضًا على العنف. إنها مشكلة حاسمة تحتاج إلى حلٍّ من خلال التعاون مع الآخر.
“
لم تجد الأدبيات المصرية حول التطرف طريقها إلى المجال الغربي، ليس فقط بسبب حاجز اللغة، ولكن أيضًا بسبب المركزية الغربية. لقد عرضت وسائل الإعلام التقليدية المصرية، الصحف بأشكالها القديمة، خطر “التطرف”، وحاربته منذ ما يقرب من تسعة عقود، وواجهت الصحف الراسخة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين أيديولوجيا الإخوان المسلمين، واستمر “السرد المضاد” في التيار السائد للصحافة المصرية في إظهار موقف صارم ضد الأيديولوجيات المتطرفة بغض النظر عن التغييرات السياسية في البلاد.
لقد لعبت الصحافة المصرية نفسها دورًا أساسيًّا في رفض الأيديولوجيا الانقسامية للإخوان المسلمين بعد وصولهم للحكم قبل ست سنوات. في الواقع، مرة أخرى، ذهب موقف الصحافة المصرية دون أن ينال الاهتمام اللائق في الدوائر الخارجية، الغربية تحديدًا، وهو أمر يتسق مع سياسة استبعاد جماعة الإخوان المسلمين من الأيديولوجيات المتطرفة رغم أن أفكارها هي القاطرة لممارسات العنف، وهو بدوره أوصل مؤسسات تفكير مهمة في الدائرة الأوروبية إلى الحديث عن استخلاصات تقول إن الجماعة الإرهابية هي “جدار حماية ضد التطرف”.
واحدة من نقاط الخلاف التي تحتاج إلى نقاش موسع هي كيفية النظر إلى “المحتوى”، فالذي يُنظر إليه على أنه “حرية التعبير” في بلد ما يمكن أن يُعتبر في بلد آخر تحريضًا على العنف. إنها مشكلة حاسمة تحتاج إلى حلٍّ من خلال التعاون مع الآخر.
استطاعت الصحافة الحديثة، التقليدية والرقمية، فيمجتمعاتنا، أن تشارك في استعادة (الحفاظ على) قيم المجتمع المدني المعتدل فيمواجهة اتجاهات التطرف رغم الكثير من الإشكاليات والتقاطعات الحادة، وهي قيمة لا يُحسنالداخل تقييمها ولا يقدرها الخارج. وبما أن الصحافة الحديثة قد انتقلت أكثر إلىالعصر الرقمي، فمن المستحسن توسيع العلاقة بين المؤسسات الأوروبية والمنظماتالإعلامية في مصر (وباللغة العربية) من أجل فهم مشترك لما نعنيه بالروايات المضادةمن جانب جماعات التطرف، وتقديم الروايات البديلة الممكنة التي تقدم صور الاعتدالبشكل أفضل مما هي عليه اليوم في وسائل الإعلام الدولية.
“
تحتاج مشاركة وسائل الإعلام في عملية مكافحة التطرف عبر الإنترنت إلى استراتيجية متماسكة. ومن ناحيةٍأخرى، تتطلب المشاركة الفعّالة للوسائط الإعلامية تعاونًا واسعًا بين مختلف الأطراف في الداخل والخارج
“
من التقليدي إلى الإلكتروني:
المتطرفون أفضل من الحكومات بشكل عام على المستوى العالمي في استخدام التكنولوجيا، وفي حرية الحركة، والعمل في الفضاء الحر غير الخاضع للتنظيم. ولمّا كانت الدراسات الحديثة ترى أن وسائل الإعلام التقليدية ما زال بإمكانها أن تكون وسيطًا قويًّا في عمليات مواجهة الروايات المتطرفة؛ فإنه ينبغي على وسائل الإعلام الجماهيرية إعادة تصور/ إعادة تنشيط دورها بمساعدة من الحكومات والمؤسسات رفيعة المستوى.
من ناحية أخرى، تحتاج مشاركة وسائل الإعلام في عملية مكافحة التطرف عبر الإنترنت إلى استراتيجية متماسكة. ومن ناحيةٍ أخرى، تتطلب المشاركة الفعّالة للوسائط الإعلامية تعاونًا واسعًا بين مختلف الأطراف في الداخل والخارج. فعلى سبيل المثال، فإن كسر الحواجز الثقافية يحتاج إلى مزيد من تبادل الأفكار، وفهم أكثر لسياقاتنا الوطنية من أجل تأثير أفضل على سلوك الجمهور المستهدف. وبما أن مصر تواجه شبكات إرهابية متعددة الطبقات، محليًّا وإقليميًّا، فإن الاستراتيجية الوطنية تركز بالأساس على زيادة وعي عامة الناس تجاه تهديدات التطرف عبر الإنترنت في أعقاب الثورة الشعبية في ٣٠ يونيو عام ٢٠١٣. ومثلما لعبت وسائل الإعلام المحلية دورًا حاسمًا في الثورة الوطنية؛ فإن المستقبل يتطلب حشد طاقات وسائل الإعلام الوطنية، التقليدية والرقمية، لمواجهة ودحر أفكار المتطرفين في المجال العام.