تتطلع الكثير من الأعين لتجارب النجاح الرائع فى شرق آسيا، وتدور التساؤلات عن السر فى نجاح هذه المجتمعات، بينما مازلت بلادنا العربية تبحث عن سبيل للحاق بركب المتقدمين. النهضة لا تأتى من فراغ، والقراءة المتعمقة تبين أن لمجتمعات شرق آسيا ماضيا وتاريخا متميزا تكمن فيه جذور النهضة الحالية. المقارنة العادلة والمفيدة بين خبرات بلادنا وما جرى فى معجزات شرق آسيا الاقتصادية تتطلب نظرة شاملة فى أمور المجتمع والثقافة والسياسة والاقتصاد، تذهب عميقا فى طبقات الزمن لتبحث عن جذور النهضة التى ازدهرت هناك، وعن أسباب النهضة المراوغة عندنا.
تبين المقارنة أن الاستقلال والمعرفة هما مفتاح حل لغز التقدم. فبينما خضعت بلادنا لحكم سلالات أجنبية متعاقبة لفترات طويلة، كان آخرها الحكام المماليك والعثمانيين، خضعت بلاد شرق آسيا لحكم سلالات وطنية، ارتبط نموها وازدهارها برفاهية المجتمع وتقدمه. يسرى هذا على الصين واليابان، كما يسرى على كوريا التى نلقى عليها هنا بعض الضوء.
حرص الكوريون على حماية بلادهم من نفوذ الأجانب، وحتى عام 1882 كان دخول الأجانب إلى كوريا محرما، ويعاقب المخالفون بعقوبات قاسية تصل إلى الإعدام. المفارقة هى أنه بينما تم إغلاق كوريا أمام الأجانب، فإن البلاد شهدت نهضة معرفية هائلة نبتت وازدهرت داخليا. تحتفل كتب التاريخ الكورى بالملك سيجونج الذى تولى الحكم عام 1398، وظل يحكم البلاد لمدة 31 عاما، وتقول عنه إنه كان محبا للعلم، كون مجلسا للعلماء، وترأس مجموعة من العلماء قاموا بوضع أسس الهجائية الكورية المكونة من 28 حرفا، تم تخفيضها بعد ذلك إلى24 حرفا، وتم جمع الحروف فى مقاطع لسهولة وسرعة الكتابة والفهم، فى واحد من أكثر النظم اللغوية ذكاء فى العالم، وقد فتح تطوير اللغة الكورية آفاق التعليم للبسطاء، بدلا من اللغة الصينية الصعبة.
كان الكوريون قد طوروا الطباعة بحروف متحركة قبل ذلك بسنوات قليلة، إذ يرجع تاريخ أول مطبعة من هذا النوع إلى عام 1377، أى قبل مطبعة يوحنا جوتنبرج فى ألمانيا بأكثر من خمسين عاما. سمح اختراع المطبعة وتطوير اللغة بإحداث نهضة علمية كبرى، فتم فى القرن التالى تأليف وطباعة إنسوكليبديا مكونة من 112 جزءا، غطت كل جوانب الفكر والمعرفة المعروفة فى هذا الجزء من العالم فى هذا الوقت المبكر. كما تم أيضا طباعة مرجع طبى ألفه عشرات الأطباء الممارسين، فخرج هذا المرجع الضخم فى 264 جزءا، يضم كل الوصفات والتشخيصات المعروفة فى شرق آسيا.
لن أخوض كثيرا فى وصف الحياة العقلية والفكرية فى بلادنا فى المرحلة المقابلة، ولكن يكفى أن أشير إلى أن المطبعة لم تدخل إلى مصر إلا فى القرن التاسع عشر، وأن الإنتاج الفكرى فى بلدنا تمحور فى أغلبه حول الدين والغيبيات. تحدث الرحالة فولنى الذى زار مصر فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر عن حالة المعرفة والفنون والصنائع فى مصر فقال إن الجهل الشائع بين جميع الطبقات يمتد بمفاعليه إلى جميع فروع المعارف الأدبية والطبيعية والعلوم والفنون الجميلة،وأن الفنون الميكانيكية لا يزال أبسطها فى دور نشأته، وأشغال النجارة والحدادة والأسلحة بعيدة عن الإحكام والإتقان. أما السلع والبضائع الحديدية وأنابيب البنادق فتستورد من الخارج، وأنك لا تستطيع فى القاهرة أن تجد ساعاتيا يصلح لك ساعتك إلا بعد جهد جهيد، وهو غالبا من الأوروبيين.وأن الصاغة فى القاهرة أكثر عددا مما هم فى حلب وأزمير، ولكنهم أعجز من أن يحكموا تركيب حجر كريم. وفى القاهرة يصنعون البارود، ولكنه من النوع الخشن. وهناك معامل للسكر، لكن النوع الأبيض منه كثير التكاليف غالى الثمن. والأنسجة الحريرية على شىء من الإتقان، ولكنها أقل إتقانا بمراحل من مثيلاتها فى أوروبا وأغلى ثمنا.
كانت الحياة الفكرية مليئة بالخرافات، ومن ذلك ما أرخ له الجبرتى عن السيد على بن عبدالله بن أحمد العلوى الحنفى سبط آل عمر ، الذى وصفه بصاحبنا ومرشدنا، وحكى عن تبحره فى علوم الجان، أو ما يسمى علم الأوفاق. كان هذا فى زمن تمتع فيه البخارى بقوة سحرية، وكان لقراءته بركة تحل بمجرد نطق نصوصه، ومثلما يتقرب الناس لله بالدعاء وقت الغمة، فإنهم كانوا يرجون رحمته بقراءة البخاري؛ ومن ذلك أنه فى الثامن والعشرين من رجب 1203 هجرية، أى 1788 ميلادية، ورد مرسوم من السلطان العثمانى، فعقد الباشا الديوان وقرأ عليهم الأمر الوارد من الباب العالى، الذى أمر فيه بقراءة صحيح البخارى بالأزهر، والدعاء بالنصر للسلطان على الموسقو، أى الروس، بعد أن تغلبوا واستولوا على قلاع ومدن عظيمة من مدن المسلمين، وأن يجرى الدعاء للسلطان بعد الأذان فى كل وقت، وأمر الباشا بتعيين عشرة من المشايخ من المذاهب الثلاثة يقرأون البخارى فى كل يوم، ورتب لهم فى كل يوم، مائتين نصف فضة، لكل شيخ عشرون نصفا، ووعدهم بتقريرها لهم على الدوام بفرمان أصدره.
الاعتقاد فى البخارى أمر قديم، وربما كان أقدم ما جاءنا مكتوبا فى هذا هو ما جاء فى فتح البارى لابن حجر العسقلانى، بأن صحيح البخارى ما قرئ فى شدة إلا فرجت، ولا ركب به فى مركب فغرق. ومازلنا إلى اليوم نتجادل حول البخارى، بينما أصبحت كوريا من ضمن الدول الصناعية الأكثر تقدما فى العالم.