اختارت بكين أن تجري مناورتها البحرية الأحدث، في وقت متزامن مع انعقاد قمة “حلف الناتو” في ليتوانيا، بحيث تبدأ في 10 يوليو وتستمر إلى 14 من هذا الشهر. كما أعلنت الصين أنها ستشهد مشاركة واسعة لقطعها البحرية المتطورة وستجري بالذخيرة الحية، واختيرت مياه “خليج بوهاي” الواقع شمال شرق الصين كي تكون مسرحا لتنفيذ التمرينات العسكرية. هذه المناورات الصينية التي يكاد لا يخلو شهر منها، بدأت تمثل “أداة رد” تستخدمها بكين إزاء كل ما تعتبره مهددا لصيغة “الاستقرار الأمني”، المعتمد لديها والذي تحاول فرضه وترسيخه في مجالها الحيوي الذي لا يخلو من هواجس واشكاليات.
بداية هذا الشهر أكد الرئيس الصيني شي جين بينج؛ أمام قمة منظمة شنغهاي أن بلده تسعى إلى “حفظ السلام الإقليمي”، معلنا أن تحقيق هذا السلام مسؤولية مشتركة لبلدان الإقليم عليها أن تعمل معا لتحقيقه على المدى الطويل. هذا الخطاب يحمل نبرة سلام هادئة تستخدمها الصين عادة في المحافل الدولية والإقليمية، فيما يسير جنبا إلى جنب معها تنامي غير مسبوق في رفع كفاءة وجاهزية قواتها العسكرية، وكما يبدو تمثل المناورات العسكرية أبرز الأدوات التي تستخدمها من أجل تحقيق ذلك، آخرها المناورة المتطورة التي جرت إبريل الماضي وتضمنت “محاكاة” لفرض حالة تطويق كامل لجزيرة تايوان. وفيها شاركت وحدات من القوات البحرية الصينية وأسراب من سلاح الجو، في عمليات مشتركة للتدريب على عمليات عزل الجزيرة عن محيطها الإقليمي، واللافت أنها جاءت حينها ردا على زيارة رئيسة تايوان تساي إينج وين للولايات المتحدة. خرج البيان الصيني حينها ليوجه انتقادات قاسية لكلا الطرفين، حين ذكر بأن ما يوصف بـ”رحلة ترانزيت”، هو في الواقع استفزاز كبير بمحاولة الاعتماد على الولايات المتحدة سعيا للاستقلال.
الجيش الصيني بات اليوم يحتل المرتبة الثالثة عالميا؛ بالمقارنة مع جيوش 145 دولة في العالم، لكن الأهم أن قواته البحرية صنفت الأولى عالميا في عام 2023. موقع “جلوبال فاير بور” الأمريكي مهتم بهذا الأمر بالطبع، لذلك أصدر إحصائية مؤخرا جاء فيها أن سفن الدوريات البحرية تمثل أكبر جزء من حجم الأسطول الصيني، حيث تقدر بنحو 35% من قوته، تليها الغواصات التي تمثل 18% ثم قوة الكورفيتات التي تبلغ 17%. الغواصات على وجه الخصوص التي تمثل تلك النسبة تملك منها الصين (78 غواصة)، تضعها في المرتبة الأولى عالميا في هذا السلاح، ومثلها الفرقاطات التي تعد أيضا أضخم قوة في العالم بعدد (43 فرقاطة). وعلى مستوى القطع التي تضم أسلحة مشتركة تمتلك الصين حاملتي طائرات، وثلاثة حاملات مروحيات تجعلها في المرتبة الثالثة عالميا، فيما لديها ثاني أضخم قوة مدمرات في العالم (50 مدمرة). وبالنظر للحرص الصيني على أن يحتل أسطوله البحري هذه المكانة المتقدمة، وهو الأضخم بالفعل (730 قطعة بحرية) متنوعة، هذا يعكس حجم الشواغل والاهتمام الصيني بترسيخ تفوقه الكاسح في إقليم يتنازعه التنافس والتحالفات.
المناورات الجديدة الجارية الآن، تشهد للمرة الثانية في شهرين متتالين مشاركة روسية، بعد مشاركة موسكو للصين في التدريبات الجوية التي جرت في السادس من يونيو الماضي. هذه المرة كون المناورة بحرية تخصصية فقد شارك الجيش الروسي بالفرقاطتين “جروميكي” و”سوفيرشيني”، اللذان ينتميان إلى أسطول المحيط الهادي الروسي الذي يقع مركزه الرئيسي بمدينة “فلاديفوستوك”، التي تعد أكبر ميناء في الشرق الأقصى الروسي. في ظل حالة التنافس والحرص على انفاذ الرسائل الدالة المتبادلة بين كافة الأطراف، كان هناك تعمد روسي في ابحار الفرقاطتين في مضيق تايوان بالقرب من جزيرة “أوكيناوا” اليابانية، وهو ما استلزم استنفارا عسكريا في كلا من تايبيه وطوكيو، قبل أن تعلن السلطات الصينية استقبالهما في أحد الموانئ البحرية بمنطقة شنغهاي. هذا يعكس بالطبع مستوى عال من التنسيق العسكري بين الصين وروسيا، وحرصهما على التأكيد على ذلك طوال الوقت وبأساليب وأنماط متنوعة، تعزز درجة التفاعل الاستراتيجي العسكري بين الدولتين.
هذه المنطقة الجغرافية ومجالها الحيوي باتت على صفيح ساخن من الأحداث والتفاعلات، تدفع لحالة استنفار عسكري متنامي لكافة الأطراف يعظم من هواجس وقوع انفلات مفاجئ غير محسوب. أحدث تجليات هذا التسارع شهدته سماء كوريا الشمالية في تجربة اطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات، تم اطلاقه على مسار معلق بلغ ارتفاعه (6000 كم) وامتد مداه لمسافة (1000 كم). المراقبون وخبراء الدول المعنية وبالأخص اليابان أشاروا إلى أن تجربة الاطلاق تلك، حطمت العديد من الأرقام القياسية كونها تعد الأطول لرحلة صاروخية من هذا النوع. رحلة الصاروخ الكوري الشمالي استغرقت 74 دقيقة وهي الأطول زمنيا بالفعل، من احدى عشرة تجربة اطلاق سابقة شهده النصف الأول من هذا العام وحده، فيما قامت بيونج يانج بإجراء (37 اطلاق صاروخي) مشابه في عام 2022. بعد انقضاء تلك المدة الزمنية الاستثنائية سقط الصاروخ الكوري؛ خارج المنطقة الاقتصادية الحصرية لليابان في بحر اليابان، على مسافة نحو 250 كيلومترا غرب جزيرة أوكوسيري في “هوكايدو”. لتسارع طوكيو في تقديم احتجاج شديد اللهجة عبر القنوات الدبلوماسية الصينية، معتبرة استمرار إطلاق كوريا الشمالية للصواريخ بما في ذلك الصواريخ الباليستية، وغيرها من الأعمال ذات الصلة، تشكل تهديدا للسلام والأمن في اليابان والمنطقة والمجتمع الدولي، وأنها غير مقبولة.
تزامن الاطلاق الكوري الشمالي لتلك التجربة الصاروخية اللافتة؛ تزامنا مع المناورة العسكرية الصينية الروسية المشتركة، يكشف نمطا من الاصطفاف غير الآمن، فهناك ضغوط خطيرة تمارس على مصالح المحاور الموجودة بهذا النطاق الجغرافي، وربما فتحت الحرب الروسية الأوكرانية هذه الضغوط على مزيد من الأخطار. فليس ببعيد عن ذلك التصعيد مصالح راسخة للولايات المتحدة وبعض من شركاءها، لن تتخلف كثيرا عن هذه الأنماط من التصعيد والتلويح باستخدام القوة العسكرية، أو بالأقل رفع جاهزيتها لمواجهات يشوبها غموض كبير، حتى وإن باتت أقرب من أي وقت مضى.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية