تُعد الشعاب المرجانية من أكثر النظم البيئية البحرية تنوعًا وحيويةً، إذ تدعم نحو ربع الحياة البحرية وتوفر سُبل عيش لملايين البشر حول العالم. إلا أن هذه الكائنات الحساسة باتت تواجه تهديدًا خطيرًا يتمثل في ظاهرة “ابيضاض الشعاب المرجانية”، التي تحدث عندما تفقد الشعاب لونها نتيجة تعرضها لضغوط بيئية شديدة، وعلى رأسها ارتفاع درجات الحرارة وتحمض المحيطات بسبب تغير المناخ. ومع تكرار موجات الابيضاض بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، أصبحت الشعاب المرجانية مؤشرًا واضحًا على صحة محيطاتنا وعلى حجم الأثر البيئي الذي تسببه الأنشطة البشرية.
أكدت تقارير الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) ، أن العالم يشهد حاليًا رابع حدث عالمي واسع النطاق لابيضاض الشعاب المرجانية منذ عام 1998؛ حيث تضررت ما يقرب من 84% من الشعاب المرجانية عبر 83 دولة ومنطقة حول العالم. هذه الظاهرة لا تهدد فقط التنوع البيولوجي البحري، بل تمس أيضًا الأمن الغذائي والاقتصادات المحلية؛ مما يستدعي تحركًا عالميًا عاجلًا للحد من أسباب الابيضاض وتعزيز جهود حماية الحياة البحرية لضمان استدامة النظم البيئية، والحد من تأثيرات تغير المناخ.
مكونات الحياة البحرية
تعد الحياة البحرية واحدة من أهم عناصر الحياة على الأرض، حيث تغطي المحيطات أكثر من 70% من الأرض وتضم تنوعًا مذهلًا من الكائنات الحية، إذ تحتضن المحيطات والبحار أكثر من 80% من التنوع البيولوجي العالمي. تشمل مكونات الحياة البحرية؛ العوالق النباتية والحيوانية، التي تشكل قاعدة الشبكات الغذائية، والأسماك بمختلف أنواعها، والثدييات البحرية كالحيتان والدلافين، إضافةً إلى اللافقاريات مثل القشريات والرخويات، والنباتات البحرية مثل الأعشاب والطحالب، وأخيرًا الشعاب المرجانية التي تُعد من أكثر الأنظمة البيئية تنوعًا. تؤدي هذه الكائنات دورًا حيويًا في استقرار المناخ، إنتاج الأكسجين، تنظيم دورة الكربون، وتوفير الغذاء.
تلعب الشعاب المرجانية دورًا محوريًا في النظام البيئي البحري، فهي موطن لحوالي 25% من جميع الكائنات البحرية رغم أنها تغطي أقل من 1% من قاع المحيطات. توفر هذه الشعاب أماكن للغذاء والتكاثر والحماية لملايين الأنواع، من الأسماك الصغيرة إلى الثدييات البحرية. بالإضافة إلى أهميتها البيئية، تمثل الشعاب المرجانية شريان حياة اقتصادي للعديد من المجتمعات الساحلية؛ حيث تسهم في قطاع السياحة وصيد الأسماك. كما أن الشعاب المرجانية تلعب دورًا حاسمًا في حماية السواحل من التآكل والعواصف، عبر امتصاص قوة الأمواج وتقليل الأضرار التي قد تلحق بالشواطئ والمستوطنات البشرية. علاوة على ذلك، تعتبر بعض الكائنات المرتبطة بالشعاب مصدرًا مهمًا لاكتشاف أدوية جديدة؛ حيث تُقدّر القيمة الاقتصادية العالمية للخدمات التي تقدمها الشعاب المرجانية بنحو 2.7 تريليون دولار سنويًا. ففي الولايات المتحدة وحدها، توفر الشعاب المرجانية حماية من الفيضانات تُقدّر بـ1.8 مليار دولار سنويًا، وتُسهم في الاقتصاد بقيمة تصل إلى 3.4 مليارات دولار سنويًا من خلال السياحة وصيد الأسماك. مما يجعل حماية هذه النظم البيئية ضرورية للمجتمعات.
ظاهرة ابيضاض الشعاب المرجانية
ابيضاض الشعاب المرجانية هو ظاهرة تحدث عندما تفقد الشعاب المرجانية ألوانها الزاهية وتتحول إلى اللون الأبيض. إذ أن الشعاب المرجانية تعيش في علاقة تكافلية مع طحالب مجهرية صغيرة تُسمى زوزانثيلا (zooxanthellae)، وهي التي تزودها بالطاقة من خلال التمثيل الضوئي وتمنحها ألوانها الجميلة، عندما تتعرض الشعاب المرجانية لضغوط بيئية، مثل ( ارتفاع درجات حرارة المياه – التلوث – تغير نسبة الملوحة – تغير نسبة حموضة المياه) فإنها تطرد هذه الطحالب من أنسجتها؛ مما يؤدي إلى فقدان اللون وتحولها إلى الأبيض، وإذا استمرت هذه الحالة لفترة طويلة ولم تستعيد الطحالب حالتها الصحية، قد تموت الشعاب المرجانية بالكامل، ونفقد الحياة البحرية.
في تقرير صادر عن الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) إبريل 2025، تواجه الشعاب المرجانية تهديدات غير مسبوقة بسبب التغير المناخي منذ يناير 2023؛ حيث كان عام 2024 هو الأشد سخونة على الإطلاق، والأول الذي تجاوز فيه ارتفاع درجة الحرارة العالمية 1.5 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الصناعة؛ مما أسهم في رفع درجة حرارة المحيطات إلى مستوى قياسي أعى بثلاثة أضعاف الرقم القياسي السابق في جميع أنحاء العالم؛ حيث وصلت درجة الحرارة إلى متوسط 20.87 درجة مئوية في عام 2024، وعليه تعرض ما يقرب من 84% من الشعاب المرجانية العالمية لمستويات عالية من الإجهاد الحراري (DHW) تجاوز 7 درجات مئوية لمدة أسابيع في عدة مناطق؛ مما أدى إلى حدوث أكبر ابيضاض للشعاب المرجانية مسجل حتى الآن. تُهدد هذه الظاهرة التنوع البيولوجي البحري وسبل عيش نحو مليار شخص يعتمدون على الشعاب المرجانية كمصدر للغذاء والدخل والحماية الساحلية.
يتوقع علماء المناخ أن تختفي نسبة تتراوح بين 70% و90% من الشعاب المرجانية بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين في حال حُصر الاحترار العالمي عند عتبة 1.5 درجة مئوية مقارنةً بمعدلات ما قبل الثورة الصناعة. كما أن 99% من الشعاب المرجانية مهددة بالزوال في حال ارتفاع معدلات حرارة الأرض بمقدار درجتين مئويتين. على الرغم من أن التزامات الدول حاليًا بالحد من الانبعاثات الكربونية تقود العالم نحو مناخ أكثر دفئًا بمقدار 3.1 درجة مئوية بحلول نهاية القرن وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
المناطق الأكثر تضررًا من ابيضاض الشعاب المرجانية
وفقًا لتقرير الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، تأثرت أكثر من 83.7% من الشعاب المرجانية في 83 دولة ومنطقة منذ بداية عام 2023. وقد تضررت مناطق متعددة حول العالم بشكل كبير، من أبرزها:
- الحاجز المرجاني العظيم (أستراليا): حيث شهدت عدة مناطق ابيضاضًا للشعاب المرجانية بنسبة تراوحت من 38% إلى 80%. وهو أكبر حالة ابيضاض شهدها منذ عام 2016.
- البحر الكاريبي وفلوريدا (الولايات المتحدة): في بعض المناطق، وصلت درجات حرارة المياه إلى (38.3 درجة مئوية)؛ مما أدى إلى حالات ابيضاض شديدة ووفاة كاملة لبعض الشعاب.
- المحيط الهادئ (جزر سليمان وبابوا غينيا الجديدة): تم الإبلاغ عن حالات تبييض واسعة النطاق في هذه المناطق وهي مناطق لم تكن قد تأثرت بشكل كبير في السابق؛ مما يشير إلى توسع نطاق الظاهرة.
- المحيط الهندي (البحر الأحمر والخليج العربي): تأثرت الشعاب المرجانية في البحر الأحمر والخليج العربي بشكل كبير، على الرغم من اعتبارها سابقًا مناطق مقاومة للحرارة. حيث تم تسجيل حالات تبييض في مناطق مثل خليج العقبة.
- جنوب شرق آسيا (فيتنام والفلبين وإندونيسيا): في فيتنام، خاصة بالقرب من نها ترانج، تواجه الشعاب المرجانية خطر الانهيار، حيث تبقى 1% فقط من الشعاب في حالة صحية جيدة. تم توثيق حالات تبييض في الفلبين وإندونيسيا.
هل تأثر البحر الأحمر بتغير المناخ
كشفت دراسة ميدانية حديثة من جمعية المحافظة على البيئة (HEPCA)، عن تعرض الشعاب المرجانية على طول الساحل المصري للبحر الأحمر لظاهرة ابيضاض الشعاب المرجانية واسعة النطاق خلال صيف 2023، نتيجة ارتفاع درجات حرارة المياه بشكل غير مسبوق. أظهرت النتائج أن المناطق الجنوبية، خاصة في وادي الجمال وخليج لحمي جنوب مرسى علم، كانت الأكثر تضررًا مقارنة بالمناطق الشمالية مثل خليج السويس وخليج العقبة، التي سجلت نسب ابيضاض أقل. كما تبين أن أنواع الشعاب الأكثر حساسية للإجهاد الحراري هي (ميلليوبورا ومونتيبورا وبوراتيس وستايلوفورا)؛ حيث أظهرت مستويات مرتفعة من التضرر. واللافت أن الشعاب في الأعماق (8-10 أمتار) كانت أكثر تأثرًا بالابيضاض مقارنة بتلك الموجودة على الحواف الضحلة (2-5 أمتار). ومن خلال الدراسة تبين ازدياد حدة موجات الحرارة وزيادة الاجهاد الحراري على طول سواحل البحر الأحمر وظهرت النتائج كما في الشكل التالي:
شكل (1): الاجهاد الحراري على طول البحر الأحمر خلال موجات ابيضاض الشعاب
أعوام 2012- 2020- 2023
ورغم حدة الظاهرة، أظهرت الدراسة مؤشرات إيجابية بشأن قدرة الشعاب المرجانية على التعافي، إذ أن حوالي 72.2% من المستعمرات المرجانية المصابة أبدت علامات تعافٍ خلال 45 يومًا فقط، مع تسجيل تعافٍ كامل في أكثر من 50% منها. وقد أثبتت أنواع مثل بوراتيس قدرتها العالية على الصمود والتجدد؛ مما يعطي الأمل في استعادة الشعاب لحيويتها مستقبلًا. وهناك جهود مستمرة لحماية الشعاب المرجانية في البحر الأحمر. في سبتمبر 2024، أطلقت مصر مشروعًا بقيمة 14 مليون دولار لحماية حوالي 100 ألف هكتار من الشعاب المرجانية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وصندوق التمويل العالمي للشعاب المرجانية.
وأوصى التقرير بمجموعة من الإجراءات لدعم حماية الشعاب منها:
- إدارة المصايد بشكل مستدام
عن طريق إنشاء مناطق محمية (No-Take Zones) يمنع فيها الصيد نهائيًا. وتطبيق مواسم صيد محددة وتوعية المجتمعات المحلية بأساليب صيد مستدامة.
- التحول إلى ممارسات بشرية مستدامة
من خلال تقنين الأنشطة السياحية والبحرية بما يتناسب مع قدرة الشعاب على التحمل (Carrying Capacity). وتشجيع السياحة البيئية والغوص المسئول للحد من الضرر المباشر.
- ترميم الشعاب المرجانية بالتكاثر الجنسي
من خلال إنشاء حضانات مرجانية لإعادة زراعة أنواع مقاومة للحرارة. والتركيز على المناطق المتدهورة مثل قبالة سواحل الغردقة.
- إعلان الشعاب الكبرى كـ “منتزه وطني“
العمل على اعتماد “الشعاب الهامشية الكبرى” كحديقة وطنية لحمايتها قانونيًا على المستوى القومي.
- تعزيز التعاون المؤسسي والمجتمعي
تعزيز الشراكة بين الجهات الحكومية والمنظمات البيئية، والمجتمعات المحلية لدعم جهود الحماية والرصد. وإشراك السكان المحليين في قرارات إدارة الموارد البحرية
- دعم البحث والرصد المستمر
تنفيذ برامج مراقبة دورية لحالة الشعاب، وتحديث استراتيجيات الحماية بناءً على النتائج العلمية.
وأخيرًا، تماشيًا مع تحقيق الهدف الرابع عشر من الأهداف العالمية للتنمية المستدامة ” الحياة تحت الماء” ، حذر علماء البيئة من أن استمرار الظواهر المناخية القاسية وخاصة موجات الحرارة الشديدة دون تدخل حقيقي سيؤدي إلى فقدان معظم الشعاب المرجانية. حيث إن خفض الانبعاثات الكربونية الضارة وتقليل ظاهرة الاحتباس الحراري والعمل الدولي والعالمي على تحقيق أهداف اتفاقية باريس للتحول للطاقات النظيفة والوقوف عند درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية أصبح أمرًا واجبًا وضروريًا على كافة المستويات. فالتأثيرات السلبية للتغيرات المناخية أصبحت تؤثر في كل ما حولنا، ويجب العمل على زيادة الاستثمارات في تقنيات الترميم البحري، وتعزيز المناطق البحرية المحمية، وتقليل التلوث والصيد الجائر لدعم مرونة الشعاب المرجانية. إلى جانب رفع الوعي العالمي حول أهمية هذه النظم البيئية وتشجيع الدراسات التي تركز على تطوير أنواع شعاب مرجانية مقاومة للحرارة.
المصادر:
- https://www.theguardian.com/environment/2024/nov/19/graveyard-of-dead-coral-great-barrier-reef-bleaching-damage?
- https://www.alarabiya.net/science/2025/04/23/%D8%A3%D8%B5%D8%A7%D8%A8-84-%D9%85%D9%86%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D8%A8%D9%8
- https://preview.hepca.org/files/resources/a2f75-SCIENTIFIC%20NEWS%20REPORT.pdf