أثارت محاولة تمرد مجموعة “فاغنر” الانتباه إلى إمكانات التأثير التي تمكنت المجموعة من اكتسابها منذ تأسيسها عام 2014 وصولًا إلى اللحظة الراهنة. تنبع قوة تأثير “فاغنر” من النجاحات الميدانية التي استطاع عناصر المجموعة تحقيقها في أفريقيا والشرق الأوسط وفي ميدان الحرب في أوكرانيا. وبناءً عليه، صار يُنظر إلى المجموعة باعتبارها إحدى أدوات الدولة الروسية بالخارج، وأنها تعمل بالوكالة لصالح وزارة الدفاع الروسية، وهو الأمر الذي أكد عليه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في السابع والعشرين من يونيو الماضي بشأن حصول “فاغنر” على تمويل كامل من وزارة الدفاع وميزانية الدولة الروسية.
على الرغم من نجاحها بالفعل في تلبية أهداف السياسة الخارجية الروسية، سلط تمرد قائدها الضوء حول تنامي طموح المجموعة وسعيها نحو اكتساب المزيد من المكانة والنفوذ داخل هياكل مؤسسات الدولة الروسية. وعلى الرغم من احتواء التمرد، تبرز تساؤلات حول مستقبل التعامل الروسي مع “فاغنر”، في ميدان الحرب في أوكرانيا وكذا في أفريقيا والشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، تبرز أهمية الساحة السورية كمنطقة اختبار محتملة، ولا سيما في ضوء المكانة القيادية التي فرضتها روسيا داخل سوريا، فضلًا عما حققته “فاغنر” بالفعل من حضور عسكري واقتصادي، الأمر الذي يصبح معه من المهم دراسة تطور نشاط المجموعة داخل سوريا، ومدى ما قد يحمله التمرد من انعكاس على هذا النشاط.
سوريا وظهور “فاغنر”
على الرغم من أن أول انتشار ملحوظ لـ”فاغنر” قد جرى في أوكرانيا عام 2014، تشير العديد من الدراسات إلى الصراع في سوريا باعتباره ساحة نشاط سابقة. قبل تأسيس “فاغنر”، تم إنشاء ما يسمى بـSlavonic Corps، أو “الفيلق السلافي” وهي شركة عسكرية خاصة، تأسست في هونغ كونغ عام 2013 من قبل اثنين من موظفي شركة Moran Security Group، وهي شركة أمنية (غير عسكرية) قانونية تمثلت مهامها في حراسة البنية التحتية وتقديم خدمات حماية لكبار الشخصيات. وتشير دراسات إلى أن الحكومة السورية هي التي تعاقدت مع مجموعة “موران” الأمنية لمساعدة قوات الحكومة السورية في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنها لم تكن على قدر المهمة المنوط القيام بها. لذا كان القرار بتأسيس كيان جديد وهو “الفيلق السلافي”.
تم نشر عناصر من الفيلق في سوريا عام 2013، وتمثلت مهمته في مساعدة القوات السورية في إعادة السيطرة على منشآت النفط من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية. ولكن نتيجة للعديد من مشاكل التنسيق مع الحكومة السورية وأخرى لوجستية متعلقة بتلقيهم أسلحة قديمة وبأعداد غير كافية، انتهت المهمة القتالية الأولى للفيلق في سوريا بهزيمة كبيرة بالقرب من دير الزور، وتم نقل الناجين إلى روسيا، وتم حل الشركة. وبعد فترة قصيرة، تم تأسيس مجموعة “فاغنر” على يد “ديمتري أوتكين”، الذي كان عضوًا في مجموعة “موران” الأمنية وشارك في صفوف “الفيلق السلافي” في سوريا. وفي عام 2014، استقال “أوتكين” من مجموعة “موران” وأسس مجموعة “فاغنر”. وبذلك، بدأ نشاط “فاغنر” الذي كان أكثر وضوحًا خلال العمليات الروسية في أوكرانيا عام 2014 حيث تشكلت مجموعات قتالية من وحدات مرتزقة تحت إشراف من المخابرات الروسية، وقام الجيش الروسي بتزويدهم بالتدريب والأسلحة؛ إلا أنهم ظلوا بعيدًا عن لعب أي دور عسكري رئيسي. وذلك، وصولًا إلى منتصف عام 2015، والقرار الروسي بالتدخل العسكري الجوي لصالح النظام السوري، تم حينها تشكيل مجموعات قتالية أكبر، للعمل كجزء من الوحدة العسكرية الروسية. خضعت المجموعة لرقابة صارمة من قبل أجهزة الأمن الروسية، وتولّت مهام القتال البري جنبًا إلى جنب مع القوات السورية والإيرانية. وفي هذا الإطار، كلف الكرملين “يفجيني بريغوجين” بالإشراف العام على تشكيل المجموعة، فيما تولى “أوتكين” قيادتها. ونتيجة لنجاحات “فاغنر” الميدانية في سوريا، عُهد إلى المجموعة بإجراء عمليات خارجية جديدة ولا سيما بالقارة الأفريقية، والتي تهدف بالأساس إلى تعزيز المصالح الروسية بالخارج.
تطور حضور “فاغنر” داخل سوريا
شكلت “فاغنر” مكونًا رئيسيًا للعمليات الروسية في محافظة اللاذقية وفي منطقة شرق سوريا، كما كان لها دور رئيسي في استعادة مدينة تدمر من تنظيم الدولة الإسلامية. كما شاركت قوات “فاغنر” في حراسة حقول نفط والسيطرة على حقول أخرى، علاوة على إسهامهم في التدريب والعمل الاستخباري، وتوفير إحداثيات للطيران والمدفعية، فضلًا عن تدريب وتجنيد سوريين بهدف إرسالهم إلى ليبيا وأوكرانيا.
تُشير تحليلات إلى أن مشاركة قوات “فاغنر” في سوريا قد تضمنت فوائد عدة، أهمها نفي القيادة الروسية حجم الانتشار العسكري الروسي الواسع هناك، إلى جانب تقليل أرقام الخسائر البشرية في صفوف المقاتلين الروس، فمرتزقة “فاغنر” غير مقيدين في صفوف الجيش الروسي، وبالتالي لن يثير الانخراط العسكري الروسي في سوريا أي اعتراض شعبي. في المقابل، توفر عمليات “فاغنر” في سوريا عوائد مادية للمجموعة نفسها، حيث يُشار إلى اتفاق في ديسمبر 2016 بين الحكومة السورية ممثلة في “المؤسسة العامة للنفط السورية” وشركة “إيفرو بوليس” – المؤسسة من جانب “بريغوجين” قبل أشهر من توقيع الاتفاق-، ينص على استعادة السيطرة على حقول وبنى تحتية نفطية وتوفير الحماية لها، مقابل الحصول على 25% من عوائد الإنتاج، لمدة خمس سنوات. وإلى جانب “إيفرو بوليس”، تبرز صلات أيضًا بين مجموعة “فاغنر” مع شركتي “ميركوري” و”فيلادا” اللتين حصلتا في نهاية عام 2019 على حقوق تنقيب عن النفط في سوريا، وأيضًا مع شركة “كابيتال” التي أبرمت مع الحكومة السورية اتفاقًا عام 2021 يمنحها حق التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط.
لم يكن الميدان الأوكراني هو موضع الخلاف الأول بين المجموعة ووزارة الدفاع الروسية، فقد كان الميدان السوري هو ساحة الخلاف الأولى التي مهدت لتفجر الخلاف الراهن، وخروجه إلى العلن. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى حدثين رئيسيين مؤسسين لهذا الخلاف. يرتبط الخلاف الأول بمعركتي “تدمر” الأولى والثانية خلال نهاية عام 2016 وبداية عام 2017، لعدم تزويد القوات الروسية العاملة في سوريا لقوات “فاغنر” بالسلاح الكافي خلال فترة المعركة، مما تسبب في تأخر العملية ووقوع خسائر كبيرة في صفوف المجموعة في معركة طرد التنظيم من المدينة. وبعد انتهاء المعركة، قامت وزارة الدفاع الروسية بتوزيع الأوسمة والنياشين لقادة عسكريين في القوات الروسية والمليشيات المحلية السورية، للشجاعة التي أبدوها في معركة “تدمر”، فيما لم تتلقَّ قوات “فاغنر” الطرف الرئيسي في المعركة أيًا منها، وهو ما اعتُبر تجاهلًا وسرقة لجهود “فاغنر” ونسبتها للقادة العسكريين الروس.
يستند الخلاف الثاني إلى ما لاقته قوات “فاغنر” من هزيمة بالقرب من مدينة “دير الزور” على يد القوات الأمريكية، فبراير 2018. فقد دفعت القيادة العسكرية الروسية قوات فاغنر للتقدم إلى منطقة “خشام” شرق دير الزور، للسيطرة على معمل غاز “كونيكو”، أهم معامل الغاز في سوريا، المسيطر عليه من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” والقوات الأمريكية، في ظل وعود هذه القيادة بتقديم حماية جوية كاملة لقوات “فاغنر” البرية، سواء من الطيران الروسي أو أنظمة الدفاع الجوي، بالإضافة لتعهدهم بتقديم التحذير في حال وجود أي مستجدات لضمان إنجاح العملية، لكن لم يتم تنفيذ أي من تلك الوعود. فقد قامت القوات الأمريكية بقصف قوات “فاغنر” جويًا ومدفعيًا، مما تسبب في مقتل ما لا يقل عن 200 عنصر من تلك القوات وجرح العشرات، إضافة لتدمير عشرات الآليات العسكرية لتلك القوات، الأمر الذي اعتبرته قيادات “فاغنر” خيانة مباشرة لها، ولا سيما مع ما أُثير لاحقًا بشأن نفي الجانب الروسي للجانب الأمريكي في اللحظات الأولى لتقدم تلك القوات وجود أي عناصر لهم بتلك المنطقة، كما صرح “ديمتري بيسكوف“، المتحدث باسم الكرملين، في أعقاب الهجوم، بأن الكرملين لا يعرف شيئًا عن المواطنين الروس الذين قد يكونون على الأرض في سوريا باستثناء جنود القوات المسلحة الروسية. وفيما بعد، أقرت موسكو بمقتل خمسة من مواطنيها في تلك الهجمات وسقوط “عشرات” الجرحى، موضحة أنهم جميعًا “توجهوا إلى سوريا بمبادرة منهم”.
سوريا وتداعيات تمرد فاغنر
في أعقاب النجاح في احتواء التمرد داخليًا، سارعت موسكو إلى طمأنة شركائها بشأن استمرار عمليات “فاغنر” في مناطق أفريقيا وسوريا، واستمرار الدعم الروسي المقدم إلى هذه الدول. في سوريا على وجه التحديد، أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى لقاء الرئيس السوري “بشار الأسد” مع نائب وزير الخارجية الروسي “سيرجي فيرشينين” يوم السادس والعشرين من يونيو، وتأكيده على أن “فاغنر” لن تعمل في سوريا بشكل مستقل. وبحسب الصحيفة، تلقى مقاتلو “فاغنر” في اليوم التالي لهذا اللقاء أوامر بالذهاب إلى قاعدة “حميميم” بمدينة اللاذقية، وأنهم استجابوا لهذه الأوامر.
فيما أشارت وكالة رويترز إلى قيام القيادة الروسية في سوريا بالتعاون مع السلطات السورية باتخاذ تدابير سريعة ضد عناصر “فاغنر” لمنع اتساع التمرد، وتضمنت هذه التدابير قطع خطوط الاتصالات الهاتفية ليل الثالث والعشرين من يونيو (بالتزامن مع التمرد) لمنع التواصل فيما بينهم مع “فاغنر” في روسيا أو حتى مع الأقارب هناك. وبحلول صباح الرابع والعشرين من يونيو، جرى استدعاء نحو اثني عشر قائدًا من “فاغنر” إلى قاعدة “حميميم”، وتم إصدار أوامر لمقاتلي المجموعة بتوقيع عقود جديدة مع وزارة الدفاع الروسية أو مغادرة سوريا على الفور. من جانبها، نفت “قناة روسيا اليوم” نقلًا عن مصادر سورية وجود أي نشاط أو هيئات تابعة للمجموعة في سوريا، وأكدت أن التحقيقات التي جرت داخل قاعدة “حميميم” مع عناصر كانت على “صلة ارتباط” مع “فاغنر” سابقًا، وأن الأمر كله “لم يتعد كونه إجراءً احترازيًا”.
وإلى جانب هذه الإجراءات الاحترازية، عملت روسيا على تأكيد استمرار توليها زمام القيادة العسكرية داخل الأراضي السورية، واحتفاظها باليد العليا، وهو ما يمكن الاستدلال عليه عبر استمرار العمليات العسكرية الروسية –بالتعاون مع الجيش السوري- ضد آخر معاقل المعارضة السورية المسلحة في إدلب، إلى جانب تنامي حوادث اعتراض مقاتلات روسية لمسيرات أمريكية داخل الأجواء السورية.
بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، يبلغ العدد الإجمالي لعناصر “فاغنر” في سوريا نحو خمسة آلاف عنصر، من بينهم نحو ثلاثة آلاف سوري، فيما يحمل الباقون جنسيات روسية إلى جانب جنسيات أخرى من دول الاتحاد السوفيتي سابقًا والبلقان. في المقابل، أكدت مصادر سورية لـرويترز أن وجود مجموعة المرتزقة في سوريا صغير نسبيًا، يتراوح بين 250 و450 فردًا، أو ما يقرب من عُشر القوة العسكرية الروسية المقدرة. تنتشر عناصر “فاغنر” في المناطق الغنية بالموارد، ويتضمن هذا انتشارًا بأكبر حقول الغاز الطبيعي والنفط في سوريا، كحقول الشاعر والمهر وجزر وجهار.
وحتى الوقت الراهن، لا يبدو أن هناك تغيرات كبيرة قد حدثت في سوريا، لا سيما أن دور “فاغنر” داخل سوريا لم يكن منفصلًا أو مستقلًا عن القيادة العسكرية هناك التي تتولى زمام المهام العسكرية وتتواجد بشكل صريح داخل العديد من المواقع السورية، ويظل مستقبل عمل المجموعة في سوريا مرهونًا بمستقبل التعامل الروسي مع المجموعة ككل، وإذا ما سيتم الإبقاء عليها أم حلها أم ضم عناصرها لمجموعات تابعة لشركات عسكرية أخرى.
يدلل الماضي القريب على وجود استراتيجية محتملة تتمثل في حل الشركة وتأسيس مجموعة جديدة تتضمن نفس عناصر “فاغنر” وإنما بمسمى وقيادة مختلفة، مثلما حدث سابقًا مع “الفيلق السلافي”، أو أن يتم نقل تلك العناصر إلى العمل في شركات عسكرية أخرى. في سوريا، تتواجد بالفعل العديد من الشركات العسكرية الروسية أبرزها شركات Redut, Vegacy, E.N.O.T، إلى جانب مجموعة أخرى من الشركات العسكرية المرتبطة بحماية وتأمين أعمال شركات مملوكة للدولة، ولا سيما في مجالات استخراج المعادن والنفط وأعمال البناء والنقل.
خلاصة القول، لا يزال لدى روسيا مصلحة استراتيجية قوية في الحفاظ على حضور المجموعة بالخارج لتأكيد استمرار احتفاظ روسيا بمكانتها الدولية، فضلًا عن شكل العلاقة غير الرسميّة مع “فاغنر” التي تتيح لروسيا إمكانية عدم تحمل تبعاتها المباشرة، فـ”فاغنر” هي شركة عسكرية ليس لديها أي وجود قانوني داخل الدولة الروسية. وبالتالي، يظل ما هو متوقع حدوثه لاحقًا، فيما يتعلق بالتعامل مع المجموعة داخل سوريا، وربما في مواقع الحضور الأخرى، هو إجراء تغييرات لبعض المواقع القيادية بهدف إضعاف الصلات مع “بريغوجين” وتقويض نفوذه في مقابل تعزيز العلاقات مع الكرملين، وضمان استمرار تلبية المجموعة للمصالح الروسية بالخارج، والتأكد في الوقت نفسه من إحكام السيطرة على أنشطة الشركات العسكرية الأخرى للحيلولة دون حدوث أي محاولة تمرد جديدة.