يعكس توصيف وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس”، خلال زيارته الأسبوع الجاري إلى طرابلس، للمرحلة الحالية في ليبيا بأنها مرحلة “الهدوء الخادع”، تقييمًا دقيقًا لطبيعة التطورات والتفاعلات الجارية في ليبيا، لا سيما في ضوء مخرجات زيارة وزيري الدفاع التركي والقطري، وتدشين التحالف الثلاثي “التركي، القطري، الوفاق” في طرابلس، إضافة لكونه توصيفًا يعكس كمّ التحديات والتعقيدات المركبة التي يشهدها مسار برلين، واحتمالات وصوله إلى نقطة اللا عودة، وتحوله إلى مسار لـ”الوساطة” كان يُعول عليه كمسار انتقالي شامل للأزمة الليبية.
على الجانب الآخر؛ يعيد ظهور وزير الدفاع القطري في طرابلس تسليط الضوء على دور الدوحة المستقبلي في ليبيا في إطار متلازمة الشراكة التركية-القطرية. فواقعيًّا، لم تكن قطر خارج معادلة التفاعلات الليبية خلال مرحلة الصخيرات، وإنما كانت بعيدة عن الأضواء، بالنظر لعدة عوامل منها ظهور الجيش الليبي كقوة عسكرية منظمة تمكنت من ضبط المشهد الأمني في مساحة واسعة من البلاد في الشرق والجنوب. إضافة إلى مشاركة حلفائها، لا سيما الإخوان المسلمين، في الكيانات السياسية المنبثقة عن الصخيرات. فضلًا عن عدم قدرتها في كل الأحوال على التحرك بشكل منفرد، ودائمًا ما تحتاج إلى حليف أو شريك ترافق ظله. وبالتالي، ترتبط العودة بحدوث متغير في تلك العوامل. وعلى الرغم من أن العنوان الاستراتيجي للدور القطري في ليبيا وأهدافه ودوافعه لم تتغير منذ عملية إسقاط النظام السابق التي كان لقطر الإسهام الأكبر فيها بعد حلف “الناتو”؛ إلا أن هناك متغيرًا في التكتيكات للتكيف مع طبيعة المرحلة الحالية.
وبشكل عام، لم تكن هذه العودة مفاجئة، في إطار سياسة “العناق الاستراتيجي” التي يتبعها الطرفان، فقد استقدمت قطر تركيا لإنشاء قواعد عسكرية في إطار الأزمة الخليجية، ثم انتقل الطرفان معًا إلى الساحة الصومالية، والتعاقب ثم التوازي في التواجد على الساحة الليبية. إضافة إلى أن الدوحة لعبت دور الممول لهذا المشروع خلال الفترة السابقة. كذلك، فإن قطر تمثل “واجهة عربية” قابلة للتوظيف في إطار المشروع التركي في ليبيا ومشروعها الإقليمي في المنطقة العربية، وهو السياق الذي تبادله الطرفان التركي–الوفاق في تجديد الترحيب بالدور القطري. فقد جاء حديث “إبراهيم قالين”، المتحدث باسم الرئاسة التركية، تعقيبًا على الزيارة بالإشارة إلى “الرفقة” القطرية لتركيا.
وتعكس قراءة الزيارة اتجاهات الحلف الثلاثي “تركيا– قطر– الوفاق”، والتي تتمركز حول تعزيز مشروع “التمكين” بتعزيز أدواته المختلفة بشكل استباقي لفرض أمر واقع على الأرض، ويعتمدون في هذه الاستراتيجية على عاملين رئيسيين محل توافق قطري–تركي، هما: الوكيل السياسي المتمثل في مجموعة الوفاق الموالية بهدف إعادة إنتاجها مرة أخرى في المستقبل كإطار سياسي، والأداة العسكرية لتأمين وتوفير الحماية لهذا المشروع كإطار أمني وعسكري.
أولًا- المسار السياسي: تكتيك العرقلة وخطوات استباقية
الهدف المرحلي هو تعطيل المسار السياسي بهدف كسب الوقت للتمكن من الحصول على أكبر قدر ممكن من الحصول على توقيعات “الوفاق” على الاتفاقيات العديدة التي يتم تمريرها دون الرجوع للبرلمان ودون الكشف عن مضمونها، وهو أمر لافت، فكمّ الاتفاقيات الخارجية التي وقّعتها الوفاق منذ استدعاء تركيا غير مسبوق مقارنة بكافة الحكومات الليبية المتعاقبة، وكذلك تسارع توقيع تلك الاتفاقيات الأمنية والعسكرية المتوالية والحصرية لتركيا وقطر، فضلًا عن أنه لم يسبق أن وقعت حكومة في دولة غير مستقرة أو حتى في حالات الدول المستقرة في الإقليم هذا الكم من الاتفاقيات، الأمر الذي يعكس اتجاه فرض أمر واقع قبل إطلاق مسار التسوية للحصول على ختم الوفاق كمعطى إجباري على حكومة مستقبلية.
هناك مؤشر آخر يؤكد هذا الاتجاه، وهو الحوار الجاري حاليًا في جنيف للجنة المصغرة الخاصة بإزالة العقبات أمام مسار التسوية، والذي يشهد مماطلة من مجموعة الغرب المشاركة في اللجنة، من خلال تقديم أطروحات مقابلة لإعلان القاهرة ومبادرة المستشار “عقيلة صالح” لاستنزاف الوقت في جدل سياسي، واستنزاف البعثة الأممية، إذ لم يكن من قبيل المصادفة التحرك التركي-القطري حاليًّا على المستوى العسكري بالتوازي مع تعثر مسار مجموعة 5+5 العسكرية برعاية الأمم المتحدة لإعلان وقف إطلاق النار ومن ثم العودة إلى مسار برلين، وهو أحد التعقيبات الرئيسية على زيارة “ماس” التي تكشف بدورها هي الأخرى عن العديد من الإشكاليات، إذ يبدو أن هناك إخفاقًا متعمدًا في مسار برلين. وهناك تحديات كبيرة أمام عملية استئنافه، وهناك تمليحات واضحة من “ماس” بعدم القدرة على تجاوز العراقيل الراهنة أمام الحل السياسي.
هناك أيضًا تلميح وزير خارجية الوفاق “محمد سيالة” في المؤتمر الصحفي مع نظيره الألماني بأن “ستيفاني وليامز” القائمة بأعمال رئيس بعثة الدعم في ليبيا لا ترغب في الاستمرار بعملها في أكتوبر المقبل، في حين أن هذا الموقف لم يصدر عن “وليامز”، بل على العكس تسعى إلى الإسراع في استئناف المسار السياسي قبل موعد التجديد لها في الموعد المقرر، وهو مؤشر آخر على أن الوفاق وحلفاءها يسعون إلى إبعاد “وليامز” عن المسار الحالي حتى يتم تعيين مبعوث جديد لاستغلال الوقت كفرصة للمزيد من التمكين حتى يُلم المبعوث القادم بأبعاد الملف وتطوراته.
ثانيًا- المسار العسكري.. بناء كيان عسكري موازٍ وزيادة وتطوير القدرات
السياق الحالي يبدو كاشفًا عن اتجاه زيادة وتطوير البنية العسكرية التحتية والأساسية، فخلال المرحلة السابقة سيطرت تركيا على قاعدتي “الوطية” و”معيتيقة”، وتعمل على تأهيل هذه القواعد بما يناسب طبيعة العمل العسكري المستهدف. فللمرة الأولى ستكون هناك إمكانية لتشغيل أسراب الطائرات دون طيار في تلك القواعد إلى جانب المقاتلات العسكرية. وتشير العمليات العسكرية في الأشهر الأخيرة التي قادتها أنقرة ضد الجيش الليبي اعتمادها الرئيسي على “الدرونز” (بيراقدار، العنقاء) بشكل مكثف، وتمول قطر الشراكة من خلال الصندوق السيادي إنتاج هذه الطائرات. كما تم إمداد هذه المواقع مؤخرًا بمنظومات دفاعية متنوعة على الأرجح أنها أصبحت قيد التشغيل.
لكن الجديد -في هذا السياق- هو الاتجاه لبناء قاعدة بحرية تركية–قطرية مشتركة، وهو ما تم الاتفاق عليه خلال الزيارة وفق التسريبات والتصريحات الإعلامية، حيث سيتم بناء ميناء بحري ذي طابع عسكري في مصراتة إلى جانب الميناء البري الذي سربت تقارير في وقت سابق أن تركيا وقطر اتفقتا خلال الشهور السابقة على إعادة تأهيله وتم توقيع اتفاقية “امتياز” مع الوفاق في هذا الصدد. وبالتالي تصبح مصراتة قاعدة مزدوجة (اقتصادية، عسكرية) للمشروع التركي-القطري. كما سيتم إنشاء مركز تنسيق عسكري ثلاثي في مصراتة، ما يعني أن قطر سيكون لها حضور أيضًا في القواعد الأخرى، وهو ما ألمحت إليه تصريحات العديد من مسئولي الوفاق تحت عنوان زيادة الدعم العسكري.
المسار الآخر، هو اتجاه بناء كيان عسكري موازٍ للجيش الوطني، وهو ما يمكن الإشارة إليه من خلال عدة مؤشرات، في مقدمتها الاتفاق على برامج تدريب جديدة، دون الإشارة إلى تفاصيل في هذا الصدد، لكن الاجتماع مع أمراء المحاور الموالين للوفاق والاتفاق على إرسال مدربين عسكريين من قطر يؤكد مساعي الحلف الثلاثي لبناء كيان عسكري موازٍ، من خلال الاعتماد على الفصائل العسكرية وشبه العسكرية، لا سيما في مصراتة والزنتان والتي لم تنضم للقيادة العامة، وهي خبرة لا تمتلكها قطر، حيث تعتمد بالأساس على الدور التركي. والأمر الجوهري الآخر في هذه النقطة يتعلق بالاعتراف بالكيان الذي سيتولد في الأخير، خاصة أن الملاحظ من قبل هو أن هناك اعترافًا بالانقسام العسكري ومجموعة 5+5 هي ترجمة لذلك، فهناك عسكريون من الشرق يعادلهم آخرون من الغرب.
ويُعتقد بشكل مرحلي أن الاعتماد الرئيسي سيكون على ميليشيات المرتزقة، لمعالجة نقاط الضعف في الانتشار العسكري في الغرب الليبي وفق برنامج إعادة بناء القدرات والتطوير. فقد كشفت صحيفة “صومالي جارديان” عن اتجاه قطري-تركي لاستثمار البنية العسكرية الصومالية التي شكلها الحليفان في مقديشو على مدار السنوات الخمس السابقة، إضافة إلى اتجاه أنقرة للالتفاف على القيود الأوروبية المتنامية في المرحلة الحالية على استمرار الإمدادات العسكرية وجيوش المرتزقة إلى ليبيا عبر المتوسط. وكذلك يبدو أن هناك عملية إعادة نظر في تجربة نقل المرتزقة السوريين على جبهات القتال في ليبيا، والتي على ما يبدو أنها كانت لمرحلة مؤقتة، ومجرد ورقة للمساومة يمكن التضحية بها.
ثالثًا- دوافع كاشفة
التكتيكات الاستباقية التي تتبعها تركيا وقطر حاليًّا في ليبيا تعكس اتجاهًا لفرض أمر واقع يُشكل تحديًا يصعب تغييره في المستقبل في ظل طبيعة التفاعلات الحالية، وذلك في سياق عدد من الدوافع:
1- بنية عسكرية تؤمّن وجودًا دائمًا: حالة التسلح (التركية–القطرية) تعكس نمطًا بنيويًّا لتأمين وجود دائم، وليس تسلحًا تكتيكيًّا في إطار معادلة اشتباك ميدانية بين طرفي صراع، أو سباق تسلح بين قوى محلية متصارعة وفق تنظير هايكو ماس “الهدوء الخادع”؛ بل إن الأمر يتجاوز مجرد إحداث فارق في موازين القوى الحالية ليميل لصالح الغرب. فإحداث فارق الآن لن يتم بدعم الجيش الليبي بالأسلحة، وهناك طرف آخر يتم دعمه ببناء قواعد بأكملها.
2- المنطقة منزوعة السلاح ومخطط التقسيم: جاءت الإشارة الأمريكية إلى هذه المنطقة في لقاء السفير الأمريكي “ريتشارد نولارند” مع المستشار “عقيلة صالح” رئيس البرلمان الليبي الذي تحفظ عليه بقوة، وتم تسويقها في زيارة وزير الخارجية الألماني، وتلقفتها تركيا، حيث أكد “قالين” القبول المبدئي للفكرة، والتي تعني عمليًّا تقسيم البلاد (شرق-غرب)، فما هو شكل الترتيبات الأمنية في تلك المنطقة منزوعة السلاح، ومن يتواجد فيها، هل قوى دولية أم شركات أمنية أم قوة شرطية ومن ستتبع؟ من جهة فإنها تقطع الطريق على مبادرة “صالح” في تحويل سرت إلى عاصمة مؤقتة خلال الفترة الانتقالية لإنهاء التحيزات الجهوية حتى يمكن التوصل إليها في الاتفاق السياسي في المستقبل. ومن جهة أخرى تسعى إلى إضعاف ورقة الضغط التي يرتكز عليها الجيش الليبي بإبعاده عن نسق دفاعه الأول حاليًّا.
3- المناورة مع روسيا للوصول إلى صفقة: بيان الكرملين الصادر بالتزامن مع الزيارة التركية القطرية، حول اتصال بين الرئيسين بوتين-أردوغان، يعكس هو الآخر لهجة مختلفة نسبيًا تميل إلى تقارب روسي–تركي بشأن التوصل لتفاهم مشترك باللغة الدبلوماسية أو “صفقة” وفق الخبرات المشتركة بينهما في ليبيا، لا سيما مع تأكيد أنقرة على أن التقارب مع موسكو سيكسب تحالفها المشترك كل شيء، ويخسر الباقون جميعًا. في المقابل، هناك تقديرات تميل إلى أن روسيا متأرجحة هي الأخرى، وإن لم يكن تحالفها هشًّا مع المشير “حفتر” القائد العام للجيش الليبي، فهو ليس متينًا أيضًا، مقارنة بطبيعة التحالفات المناظرة على الأقل في الغرب الليبي أو حتى سوريا، فحفتر لم يوافق على منحها امتيازات التحالف المطلوب، لا سيما بناء قواعد عسكرية، وفي ظل وجود “فاجنر” فالعلاقة التعاقدية بين الطرفين لم تتطور أكثر من مستوى الخبراء والمستشارين.
في الأخير، يمكن القول إن مرحلة الخداع الحالية في المشهد الليبي هي بالأساس مرحلة مناورة لحلف المصالح المشتركة الثلاثي في ليبيا “تركيا– قطر– الوفاق”، وتظهر فيها قطر كالعائد إلى مشهد الحصاد لجني المزيد من الفرص والمكاسب، وتعزيز أدوات اللعب وخلط الأوراق لفرض أمر واقع جديد لتوجيه المسار السياسي في الاتجاه الذي يؤكد على تلك المصالح في المستقبل. وبالتالي، في المقابل هناك تساؤل يطرح نفسه: هل لا تزال أمام القوى والمؤسسات الوطنية في ليبيا فرصة لإحباط مخطط الحلف الثلاثي؟ المؤكد أن المعركة الحالية أصبحت معركة سياسية في المقام الأول تتطلب أدوات وقدرات معادلة أكثر احترافية ودهاءً في القدرة على المناورة المضادة، وخلق أوراق ضغط جديدة وموزاين قوى مضادة أكثر فاعلية وتأثيرًا.