بعد أن تمت التهدئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة منذ ساعات، بدأ تصعيد جديد داخل تل أبيب، وتعرضت حكومة “بنيامين نتنياهو” لأزمة نتيجة انقسام الرأي داخل الحكومة الإسرائيلية حول قبول التهدئة ووقف إطلاق النار. ولم تكن استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي “أفيجدور ليبرمان” هي المظهر الوحيد لهذا الانقسام، بل هناك اتجاه يبدأ في التشكل حول وضعية الأمن الإسرائيلي ذاته، بغض النظر عن الأهداف السياسية التي ابتغتها الحكومة الإسرائيلية من وراء هذه العملية في غزة.
ست دلالات:
يكشف قرار الحكومة الرئيسية بقبول التهدئة مع الفصائل الفلسطينية المقاومة عن ست دلالات رئيسية، تتمثل في:
أولًا- فقدان قوة “الردع الإسرائيلي”، فرغم إدراك قيادة حركة “حماس” قوة جيش الدفاع الإسرائيلي، إلا أن قراراتها لا تستند إلى هذا التقدير، بل على تقييمها للقيود التي تمنع الحكومة الإسرائيلية من اتخاذ قرار الدخول في حرب.
ثانيًا- ضرورة انفصال إسرائيل عن الفلسطينيين، حيث يرى التيار الإسرائيلي اليميني المتشدد الذي يتزايد تأثيره الداخلي طرديًّا، أن التزام إسرائيل “بحل الدولتين” كحل وحيد وضروري هو المسئول إلى حد كبير عن رفضها تحديث الخريطة الاستراتيجية. وفي شرحه لضرورة انفصال تل أبيب عن الفلسطينيين، قال وزير العدل السابق “حاييم رامون”: “إن سيطرتنا على المناطق هي سرطان، ولن أسمح لعدوّي أن يقرر ما إذا كان سيخضع لعملية جراحية لإزالة السرطان أم لا”. وفقًا لهذا التفكير، سترفض “حماس” بشكل طبيعي أي اتفاق لتنفيذ الانفصال في اتجاه السلام والاستقرار. ويُضيف أنه أيد الحفاظ على الفصل الذي تحقق في غزة، لكن الهجوم الإسرائيلي على غزة كان عديم الجدوى، إلا أنه يرى أن إعادة الغزو سوف تدفع مرة واحدة وإلى الأبد إلى الدواء الشافي (المفترض) الذي يقول: “هم هناك ونحن هنا”.
ثالثًا- تزايد هجمات المعارضة ضد رئيس الوزراء “نتنياهو”، لتخليه عن الأمن الإسرائيلي من خلال تقييد استخدام القوة العسكرية ضد حركة “حماس”، وفسرت هذا بأن “نتنياهو” لديه مصلحة في إقامة دولة “حماس” المستقلة في غزة، حيث لا يزال رئيس السلطة الفلسطينية “محمود عباس” راسخًا في رفضه لمبدأ الدولة اليهودية، لذا سيكون من المرغوب فيه أن يحتفظ “نتنياهو” بنظام “حماس”، وأدركت قيادتها إمكانات هذا الوضع وتستغله بالكامل.
رابعًا- الفصل المكاني مع قطاع غزة لم يُفد إسرائيل، حيث يرى الخبراء العسكريون الإسرائيليون أن الفصل من الناحية الميدانية والتقنية لن يكون في صالح تل أبيب. فرغم وجود سور يحدد القطاع، فإن معظم قوات جيش الدفاع الإسرائيلي تعمل داخل المنطقة على أساس نشر القرى الإسرائيلية في جنوب القطاع، مما أوجد إمكانيات تشغيلية مرنة لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي، والتي يمكن أن تصل إلى مناطق معادية من مجموعة متنوعة من الاتجاهات، وذلك من منطلق أن تقصير خطوط الاشتباك أمر مفيد للأمن. فعلى سبيل المثال، يمكن الوصول إلى مخيمات اللاجئين في وسط قطاع غزة من الشمال عبر جيب نتساريم، ومن الشرق عبر حدود القطاع، ومن الجنوب عبر كفار داروم وغوش قطيف.
لكنّ الادعاء بأن تقصير خطوط الاشتباك مفيد للأمن ليس خاطئًا جوهريًّا فقط، بل عكس الحقيقة في القطاع، حيث كانت القدرة على المفاجأة والمرونة والتنقل والسيطرة على المنطقة وحرية العمل مختلفة بشكل أساسي عن تلك الموجودة على طول الشريط الحدودي الحالي لمحيط القطاع.
وتطلّب نشر جيش الدفاع الإسرائيلي قبل تقصير الخطوط في صيف عام 2005 من “حماس” التركيز على جهود الدفاع المجزأة، ومع إعادة انتشار القوات واعتمادها على السياج الأمني في المصفوفات الخطية جعلت السياج نقطة محورية للاحتكاك، وهيّأت الظروف لحركة “حماس” تنظيم قواتها حسب الكتائب، والألوية، وخطوط إطلاق النار، وأنظمة القيادة والسيطرة. وفي هذا الصدد، ساعد الانفصال الإقليمي “حماس”، وأضر بحرية حركة جيش الدفاع الإسرائيلي داخل القطاع، وجعله مكشوفًا ومحاصرًا إذا توافق عمل الفصائل الفلسطينية المختلفة.
خامسًا- التشكيك في قدرة الجيش الإسرائيلي على الحرب في جبهتين. تؤكد الاستراتيجية العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي التي أعلن عن مبادئها الأساسية في أغسطس 2015 قدرته على الحرب في جبهتين في نفس التوقيت، لكن المدى الأخير لإطلاق النار من حماس يتطلب أن تُعيد مؤسسة الدفاع النظر في استعداد جيش الدفاع الإسرائيلي للقتال على جبهتين أو أكثر في وقت واحد، خاصة مع وجود علامات استفهام حول قدرة منظومة القبة الحديدية على الدفاع ضد الصواريخ قصيرة المدى القادمة من القطاع. فإذا حدث تغيير كبير في الضفة الغربية ولجأ الفلسطينيون مرة أخرى لسلاح المقاومة فهل يمكن لإسرائيل التصعيد على كل من جبهتي غزة والضفة الغربية في نفس التوقيت؟
وإذا كان من الصعب تصور هذا الاحتمال بالنسبة لنا، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لبعض التيارات داخل إسرائيل التي تطالب بالانسحاب من الضفة الغربية، ومنهم كبار أعضاء المؤسسة الأمنية السابقة، حيث يرتكز تفكيرهم على الاعتقاد بأن المخاطر المصاحبة للانسحاب والفصل بين الأراضي يمكن تخفيفها من خلال حقيقة أن التفوق المستمر للجيش الإسرائيلي يمكن أن يُزيل في غضون أيام أي تهديد أمني ينطلق من الأراضي التي تخليها إسرائيل.
لكنمنذ بداية عملية أوسلو، تغير شيء مهم في العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، لاتدركه الأولى جيدًا، وهو أنها بدأت الانخراط في عملية التسوية السياسية مع الفلسطينيين، وما تمارسه من تسويف لأكثر من عشرين عامًا لا بد أن ينتهي إماباعترافها أنها لن تكمل التسوية وتُعيد حالة الاحتلال وتكسب أعمال المقاومةالفلسطينية مشروعية قانونية، أو أن تواجه أنصار اليمين المتشدد داخلها وتكمل عمليةالتسوية مع الطرف الفلسطيني الذي أعطى تل أبيب الفرصة مع الأسف لمزيدٍ من التسويفبانقسامه الطويل الذي أنهك الشعب الفلسطيني ذاته.
سادسًا- تقويض فكرة القوة العسكرية المطلقة لأي جيش، للتغيير في أدوات الحرب وتطبيقاتها المختلفة، فضلًا عن أنها تحد من تأثير فارق القوة العسكرية بمعناه التقليدي. وهذا يعني أن تفوق إسرائيل عسكريًّا لا يمنع من إصابتها ببعض الخسائر المؤثرة.
وفي التحليل الأخير، من الممكن أن يؤدي الموقف الأخير الذي شهده قطاع غزة إلى تغييراتفي السياسة العسكرية الإسرائيلية، كما يُنذر بتغييرات سياسية داخل تل أبيب، خاصةبعد أن ظهرت هذه السياسة بدون بوصلة واضحة أو استعداد ملائم.