تناول مؤخراً منتدى الدفاع الأفريقى قضية التهديدات والمخاطر التى تؤرق معادلة الأمن البحرى الأفريقى بصورة عامة، باعتبار أن القارة الأفريقية تمتلك ما يزيد على 30 ألف كيلومتر من السواحل البحرية، مما يجعل ثرواتها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلامة والأمن فى البحار والمحيطات التى تحيط بالقارة من كافة الاتجاهات، وبالنظر أيضاً إلى 38 دولة من أصل 54 دولة هى مجمل دول القارة الأفريقية، متاخمة للبحار والمحيطات، وتعتمد عليها بشكل رئيسى فى السفر والتجارة والعديد من سبل العيش. وهى نسبة تكاد تقترب من نحو 70% من مجمل الدول التى يضمنا معها الكثير من المصائر المشتركة، فضلاً عن رئاسة مصر الآن للاتحاد الأفريقى، فى فصل من فصول الطموح المشروع لإحداث نقلة نوعية فى العمل المشترك وفى الاضطلاع بقيادة وإدارة هذا الدور الذى غاب لعقود، لكنه على أى الأحوال يعود اليوم مسلحاً بتلك الرغبة.
أول ما يلفت الانتباه أنه توجد فى كل من منطقتَى شرق وغرب أفريقيا، مدونات لقواعد السلوك البحرى. هذه المدونات تشتمل على معايير للتعاون بين الدول فى مكافحة الجرائم البحرية، وعلى رأسها جريمة «القرصنة». وقد قيّمت المنظمة البحرية الدولية فى العام 2009 «مدونة جيبوتى» باعتبارها تأتى فى المرتبة الأولى، خاصة أن هذه المدونة تهدف إلى تشجيع التدريب الإقليمى وتبادل المعلومات، ولم تغفل فى الوقت ذاته ضرورة تطوير التشريعات الوطنية وبناء القدرات. وقد جرى تطوير لعناصر المدونة فى 2017، ليشمل، بجوار القرصنة وأعمال السطو المسلح، غيرها من الجرائم التى بدأت تبرز على شاشات الرصد والمتابعة، ومنها التهريب والاتجار فى الأسلحة بأنواعها، والمخدرات، والاتجار فى البشر، والصيد غير المشروع، وسرقة النفط الخام وبيعه بطرق غير قانونية، والتخلص غير المشروع من النفايات.
فى العام 2013 وقعت دول غرب ووسط أفريقيا «مدونة ياوندى» لقواعد السلوك البحرى فى الكاميرون، استلهاماً مما جرى بنجاح فى شرق القارة. واشتملت على ذات المهددات والخروقات القانونية السالفة، مع إلزام أعضائها من الدول الموقعة، بالتعاون فى مجال الأمن البحرى عبر تبادل المعلومات وإبلاغها للأطراف المعنية من الدول، داخل إطار المدونة. وأضافت إعطاءها الحق للقوات البحرية لتلك الدول بأن تقوم بأعمال اعتراض للسفن المشتبه فى قيامها بأنشطة غير مشروعة، والقبض على المجرمين ومحاكمتهم، مع تقديم كافة أشكال الرعاية للأطقم البحرية الذين قد يتعرضون لجرائم أو مخاطر من أى نوع، والالتزام بإعادتهم إلى أوطانهم.
عندما وصلت القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية ذروتها فى عامَى 2010 و2011، استدعى ذلك تدخل ثلاث دوريات بحرية دولية، فضلاً عن الجهود الأمنية التى تكبّدتها شركات الشحن الخاصة، من أجل الحد من تلك الظاهرة، خاصة مع طابعها المعقد، حيث كانت عصابات القرصنة تقوم بالقبض على السفن ذات النشاط غير القانونى، والاعتماد على فدية سريعة، فى الوقت الذى لم تكن فيه شركات النقل البحرى ترغب فى لفت الانتباه إلى ممارسات الصيد غير الشرعى التى تقوم بها. وملمح آخر من التعقيد كان يجرى بحق سفن نقل السلاح المهرب إلى فصائل الإرهاب والنزاع المسلح بالصومال، كنوع من «فرض إتاوة» مرور لسفن وشركات لم تكن لتثير ضجة حول ما تقوم به. حينها كان القراصنة الصوماليون يهاجمون السفن، إما بقوارب صغيرة يقودها مسلحون محترفون، أو بقوارب أكبر أطلقوا عليها «السفن الأم»، وفى كلتا الحالتين يتم الصعود على متن السفن الضحية لإجبارها على التوجه إلى الأراضى الصومالية. ومن ثم تجرى الصفقات التبادلية على البر، أو يطالبون بالفدية مقابل أفراد الطاقم والسفينة ذاتها.
عندما اعتبر 2011 عام الذروة، الذى قلب الساحل الأفريقى الشرقى لفوضى عارمة من النشاط الإجرامى المسلح، وامتد ليصل إلى الجانب الآخر فى خليج عدن، كانت الإحصاءات المسجلة تتحدث عن 239 حالة قرصنة أو هجوم مسلح، ومع غير المسجل يصل العدد لنحو 500 حالة فى عام واحد. وعلى أثر الجهود الدولية المشار إليها، والتى بذلت القوات التابعة لحلف «الناتو» فيها النصيب الأكبر، تراجع العدد ليصل إلى 16 حالة فى 2015. إلا أن المشهد الآن يعاود إنتاج الخطر فيه بأساليب أكثر تطوراً، خاصة مع تنامى الصراع المستمر فى اليمن، ودخول المهربين الإيرانيين الذين يبحثون لهم عن وكلاء فى تلك المسارات البحرية، من أجل ضمان تزويد الحوثيين بما يمكّنهم من الاستمرار فى حالة الاقتتال الداخلى، ليرتفع العدد فى 2016 إلى 27 حالة، ثم إلى 54 حالة فى 2017، مما يؤشر إلى المزيد من التهديد الأمنى الذى أرجعته الأسباب، فى جانب منه، إلى إنهاء «حلف الناتو» لعملية «Ocean Shield» فى ديسمبر 2016، والتى ساهمت بقدر كبير فى الانحسار الذى شهدته المنطقة قبلاً. وهذا ينقل اليوم العبء على عاتق القوى الرئيسية بالقارة، وربما فى القلب منه الاتحاد الأفريقى، عبر بعض من تحالفات دوله التى يمكنها القيام بتلك المهام تحت راية الاتحاد ودون انتظار للقوى الدولية الأخرى لمعاودة التدخل من جديد، فمنها من هو رابض على سواحل جيبوتى وأريتريا وينتظر ذرائع سانحة للتدخل بأعمال مراقبة ومجابهة بحرية عسكرية، ستجد ترحيباً دولياً من دون شك.
الدول التى تمتلك قواعد بحرية فى تلك المنطقة، وغيرها ممن هو موجود بقوات عسكرية فى الصومال على وجه التحديد، مثل تركيا، تستلزم الانتباه الاستباقى لما يمكنها أن تقوم به، سعياً وراء مساحات أكبر لنفوذ يُعد خصماً منطقياً من دوائر الحركة والعمل لمصر بوجه خاص، وحيث يمكن اعتبار هذا الملف لدى مصر فيه العديد من الميزات النوعية، والقوة البحرية القادرة على إنفاذ ما قد تراه واجباً، تزامناً مع رئاسة الاتحاد الأفريقى، ما يجعل الأمر من الواجب أن يُبحث بتعمق داخل أروقة الاتحاد، ويمثل افتتاحية إيجابية لشراكات عسكرية وأمنية وفق المهددات الجديدة التى تناوش السواحل الأفريقية.
*نقلا عن صحيفة “الوطن” المصرية، نشر بتاريخ ٢٦ فبراير ٢٠١٩.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية