العنوان الأكثر تعبيرًا عن الأجواء التي تسبق بدء الانتخابات العامة في إسرائيل المقرر عقدها في التاسع من أبريل القادم هو: سعي أغلب الأحزاب الإسرائيلية لإزاحة “بنيامين نتنياهو” عن مقعد رئيس الحكومة الذي يشغله منذ عشرة أعوام، وهو هدف يختلف عما كانت المعارضة الإسرائيلية -وعلى رأسها حزبا يش عتيد والعمل- تضعه لنفسها وهو إنهاء حكم اليمين. فما زالت استطلاعات الرأي تبين أن جبهة أحزاب اليمين بأطيافه المختلفة، تتفوق على أحزاب اليسار والوسط والأحزاب العربية، وأن الحكومة القادمة ستكون يمينية بالضرورة. وكانت الأحزاب المناوئة لـ”نتنياهو” تأمل في أن يتم تقديمه للمحاكمة في تهم الفساد التي حققت فيها الشرطة الإسرائيلية على مدى العامين الماضيين، غير أن المستشار القضائي للحكومة المنوط به اتخاذ هذا القرار فضل تأجيله إلى ما بعد إجراء الانتخابات ربما خشية من اتهامه بالتأثير عمدًا في موقف الناخب الإسرائيلي لصالح أحزاب المعارضة. في هذا الإطار، يبدو أن أحزاب المعارضة الإسرائيلية لم يعد أمامها سوى محاولة إسقاط “نتنياهو” عبر الضغط من أجل تقديمه للمحاكمة في قضايا الفساد، وليس عبر منافسة حزبية، أو عبر طرح سياسات بديلة لسياساته.
أزمة النظام السياسي الإسرائيلي
محاولة إزاحة “نتنياهو” عبر الطرق القضائية تعكس في الواقع الأزمة الممتدة للنظام السياسي الإسرائيلي منذ مطلع الألفية، حيث بات بوضوح أن ثقة الإسرائيليين في الديمقراطية كنظام قد تدهورت بشدة. وقد أظهرت تقارير المعهد الديمقراطي الإسرائيلي منذ ذلك الوقت كيف تحول الناخبون نحو تفضيل الزعيم القوي على الآليات التي تميز عملية اتخاذ القرار في النظم الديمقراطية بمؤسساتها المعروفة وعلى رأسها البرلمان. صحيح أن الديمقراطية في جانبها الإجرائي ستظل قائمة ولا يمكن المساس بها، لكن المحتوى الحقيقي تحول نحو البحث عن الزعيم القوي والتصويت للحزب الذي يرأسه بغض النظر عن البرنامج الذي يطرحه الحزب، وهو ما حدا بـ”شلومو أفينيري” (أستاذ العلوم السياسية بالجامعه العبرية، ومدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية الأسبق) للقول بأن الأحزاب السياسية في إسرائيل تعاني من أزمة مزدوجة: الفراغ الفكري والسيطرة الشخصية، وأن الضجة الإعلامية حول السياسات العامة باتت مرتكزة على “الشخصنة”، والنتيجة هي زعزعة بنية الأحزاب، فبدلًا من وجود أحزاب تستند إلى عضوية مستمرة وناشطة، وأنشطة على مستوى الفروع، وعقد المؤتمرات وحلقات النقاش السياسية والأيديولوجية، نشأت “مؤسسة التسجيل” التي سمحت لكل من يريد الانضمام رسميًّا إلى الحزب قبل فترة قصيرة من الانتخابات والمشاركة في قرار تحديد المرشحين.
“بني جانتس” في مواجهة “نتنياهو”
في ظل أزمة النظام السياسي الإسرائيلي التي أشرنا إليها، تحاول أحزاب المعارضة الإسرائيلية تقديم مرشح قوي يمكنه منافسة “نتنياهو” على المستوى الشخصي. ولأن الاعتقاد السائد بأن قضية الأمن هي التي تستحوذ على اهتمام الناخب الإسرائيلي، فإن الدفع برجال ينتمون إلى المؤسسة العسكرية يمكن أن يكون عامل طمأنة للناخب، ويسحب من ادعاءات “نتنياهو” بأنه وحده القادر على أداء هذه المهمة في ظل نجاحاته في تحقيق الردع على الجبهة الشمالية (سوريا ولبنان) على مدى عشرة أعوام كاملة، بدليل عدم قيام “حزب الله” بأي عملية كبيرة ضد إسرائيل بالرغم من الضربات التي وجهتها إسرائيل له، وكان آخرها كشف الأنفاق التي كان قد حفرها إلى داخل الحدود الإسرائيلية في مطلع العام الجاري 2019. كما تباعدت عمليات الاشتباك الواسع النطاق مع حركة حماس على الجبهة الجنوبية؛ فبعد أن دخلت إسرائيل في حروب كبيرة معها في أعوام ٢٠٠٩، ٢٠١٢، ٢٠١٤، أي بفارق عامين أو ثلاثة بين كل مواجهة، فإن “نتنياهو” يخوض الانتخابات هذه المرة بعد أن ضمن لإسرائيل أمنًا ممتدًّا على مدى خمس سنوات كاملة منذ آخر مواجهه كبيرة مع حماس عام ٢٠١٤.
وللتقليل من ادعاء “نتنياهو” بأنه الوحيد القادر على تلبية الاحتياجات الأمنية لإسرائيل، تشكلت قائمة “كاحول لافن” بقيادة رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق “بني جانتس”، ومعه أيضًا “يائير لبيد”، رئيس حزب يش عتيد. وضمت القائمة إليها جنرالات آخرين (موشيه يعلون رئيس أركان ووزير دفاع سابق، ورئيس أركان الجيش الأسبق غابي أشكنازي، ونائبين سابقين لرئيسي جهاز الشاباك والموساد). وتبدو هذه التشكيلة وكأنها توحي للناخب الإسرائيلي الذي يشكل الأمن هاجسه الأول، أن تحالف “كاحول لافن” يضم خبراء أمنيين يفوقون من حيث الكفاءة نتنياهو (الذي لا ينتمي للمؤسسة العسكرية). لكن هل سينجح هذا التحالف بجنرالاته في إقناع الناخب الإسرائيلي باستبدال هؤلاء بنتنياهو؟
واقع الأمر، إن الدفع بالجنرالات لواجهة العمل السياسي لم يكن ناجحًا على الدوام في إسرائيل. على سبيل المثال، لم يتمكن حزب العمل من إيقاف تدهور تمثيله في الكنيست عندما اختار الجنرال “عميرام متسناع” لقيادته في عام ٢٠١٤. كما فشل “إيهود باراك” الذي كان أكثر قادة إسرائيل خبرة في المجال الأمني (الذي شغل مناصب عديدة منها مدير المخابرات العسكرية، ورئاسة الأركان، ووزارة الدفاع) في إعادة حزب العمل إلى الواجهة مرة أخرى عندما عاد لرئاسته عام ٢٠٠٩ وحتى عام ٢٠١٣.
تحالف “كاحول لافن” المنافس لنتنياهو يحاول التركيز على قضيتين مركزيتين في سعيه لإسقاط “نتنياهو”. الأولى، هي قضية الأمن، حيث صرح “بني جانتس” بأنه الوحيد القادر على لجم حماس، مذكرًا الناخبين بأنه أعاد غزة إلى العصر الحجري عندما كان رئيسًا للأركان (يقصد حرب عام ٢٠١٤). القضية الثانية، هي فساد “نتنياهو”، حيث ردد رئيس تحالف “أزرق أبيض” الجنرال احتياط “بيني غانتس” مرارًا أثناء حملته الانتخابية أن رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” تلقى ١٦ مليون شيكل في إطار قضية كسب غير مشروع ضخمة تتعلق بصفقة شراء غواصات من ألمانيا بلغت قيمتها مليارات الشواكل، ووصف ذلك بأنه أكبر قضية فساد أمني في تاريخ إسرائيل. ورد عليه الليكود ومدير حملة “نتنياهو” متهمًا إياه بالكذب، لأن التحقيقات أشارت إلى عدم ضلوعه شخصيًّا في القضية وإن طالت بعض المقربين منه.
خدعة الاستطلاعات
في ٢١ فبراير 2019، أظهر استطلاع للرأي، استنادًا إلى القناة الإسرائيلية (١٣)، أن تحالف “أزرق-أبيض” سيحصل على ٣٦ مقعدًا، في حين سيحصل حزب الليكود على ٢٦ مقعدًا. لكن استطلاعًا مماثلًا لنفس المحطة في ١٢ مارس أظهر تراجعًا كبيرًا لتحالف “كاحول لافن”، حيث تنبأ بحصوله على ٣١ مقعدًا بفارق ثلاثة مقاعد فقط عن الليكود (٢٨ مقعدًا)، فيما توزعت النتائج للأحزاب الأخرى على النحو التالي: حزب أو قائمة تحالف اليمين ٧ مقاعد، العمل ٧ مقاعد، الجبهة العربية للتغيير ٧ مقاعد، ميرتس ٦ مقاعد، يهدوت هتوراه ٦ مقاعد، اليمين الجديد ٦ مقاعد، العربية الموحدة والتجمع ٥ مقاعد، شاس ٥ مقاعد، إسرائيل بيتنا ٤ مقاعد، هوية ٤ مقاعد، كلنا ٤ مقاعد.
ومن الضروري الإشارة إلى أن هذه الاستطلاعات لا تعكس بدقة توجهات الناخب الإسرائيلي، حيث لا يزال ما بين ٢٥٪ إلى ٣٥٪ من عينات معظم الاستطلاعات تشير إلى أن أفرادها لم يحددوا بعد لمن سوف يعطون أصواتهم. كما تبقى المفاجآت التي تحدث نتيجة تغيير الناخبين لتوجهاتهم قبل الانتخابات بساعات واردة بشكل كبير. وقد سبق لـ”شيمون بيرتس” -أحد زعماء حزب العمل تاريخيًّا- أن قال بمرارة تعقيبًا على خسارته الانتخابات أمام “نتنياهو” عام ١٩٩٦: “الاستطلاعات مثل العطر من الرائع أن تشمها، ولكن الخطر أن تبتلعها”، في إشارة إلى الاستطلاعات التي رشحته لفوز كاسح على خصمه قبل يوم واحد من إجراء الانتخابات.
لكن بافتراض أن النتائج المحتملة للانتخابات المقبلة في إسرائيل ستنتهي إلى تمثيل متقارب بين الليكود وكاحول لافن -أعلى بثلاثة مقاعد لأي منهما على الآخر- فإن الاحتمالات نفسها تُرجّح أن كتلة اليمين ستحظى بتفوق يزيد بخمسة مقاعد على الأقل عن كتلة أحزاب الوسط واليسار (كاحول لافن، العمل، ميرتس، الأحزاب العربية)، وهو ما يعني أن فرص “نتنياهو” في قيادة الائتلاف المقبل في إسرائيل تبقى كبيرة، حيث لن يكون تفوق “كاحول لافن” بمقعدين أو ثلاثة كافيًا لتشكيل ائتلاف يستبعد كتلة اليمين بأكملها. وحتى إذا ما تمكن من إقناع بعض أحزاب اليمين بمشاركته في تشكيل الحكومة، فسيعني ذلك وقوعه تحت ضغط ابتزازها الدائم له، وستكون حجر عثرة أمام تمرير أية سياسات اقتصادية واجتماعية وأمنية تختلف عن تلك التي يقرها اليمين بكل أطيافه.
ملاحظات ختامية
أزمة النظام السياسي في الدولة العبرية تظلل الانتخابات العامة المقبلة؛ فالدولة العبرية التي يفاخر قادتها بأنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط أصبحت في نظر العديد من المراقبين داخل إسرائيل وخارجها “دولة شرق أوسطية” بامتياز ولا تمت للنموذج الغربي بصلة. فما يجري فيها من استمرار حزب الليكود وزعيمه “بنيامين نتنياهو” في السلطة على مدى عشر سنوات كاملة، وتمرير قوانين عنصرية مثل قانون القومية، ومحاولات النيل من استقلال المحكمة العليا، وتقييد حركة منظمات المجتمع المدني، والهجوم المستمر على الصحافة، ومحاولة السيطرة على الإعلام من جانب “نتنياهو”؛ كل هذه المظاهر تشي بأن إسرائيل باتت تعاني من أمراض المجتمعات المجاورة لها، وعلى رأسها التشكيك في جدارة الفكرة الديمقراطية نفسها كأساس للحكم. وبالتالي، يصعب الجزم بأن اليمين بشكل عام، و”بنيامين نتنياهو” بشكل خاص، سوف يخسر الانتخابات القادمة، فالناخب الإسرائيلي منذ عقدين من الزمان بات يفضّل اختيار الرجل القوي على رئيس حكومة مخلص للديمقراطية، والتي تفترض أن اختيار الرئيس يجب أن يكون على أساس برنامجه الانتخابي وليس بناء على شخصه. وقد برهن “نتنياهو” على قوته عبر تمكنه من البقاء في السلطة عشر سنوات متتالية، ولم يسبقه إلى ذلك في تاريخ الدولة سوى مؤسسها وأول رئيس وزراء لها “ديفيد بن جوريون”. في الوقت نفسه، لم يعد من أمل لخصومه سوى أن تسقطه الأحكام القضائية في جرائم الفساد المتهم بها. وحتى لو حدث ذلك بعد الانتخابات المقبلة، فإن إسرائيل قد تدخل في أزمة كبيرة إذا ما عجزت عن توفير رجل قوي بمواصفات “نتنياهو”، خاصة وهي تواجه أخطارًا أمنية متعددة، والحاجة إلى اتخاذ قرار حيال مشروع الرئيس “ترامب” لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهو قرار لن يكون سهلًا.