من بين مختلف دوائر السياسة الخارجية المصرية كانت أفريقيا بعد 30 يونيو مصدراً لتحديات عديدة ما بين تلك المتعلقة بقضايا المياه، أو التهديدات الأمنية القادمة من الجنوب والغرب، أو الضغوط التي مارستها بعض دول القارة للتأثير سلباً على وضع مصر في المنظمات القارية والدولية.
ولم تتمثل الاستجابة المصرية لهذه التحديات في الزيادة المطردة في كثافة تفاعلاتها على الساحة الأفريقية فحسب، بل بدت ملامح السياسة المصرية في أفريقيا منذ 30 يونيو واضحة بالتزامها بأربعة قواعد للحركة طوال خمس سنوات. هذه القواعد كانت كفيلة بتأمين المصالح المصرية وإحراز تقدم ملموس في مواجهة كافة التحديات، وتمثلت في:
أولاً: تركيز نطاق الاهتمام والحركة
تبنت السياسة المصرية في أفريقيا منذ 30 يونيو توجهاً نشطاً لكنه كان مركزاً في نطاقه ليتسق مع المحددات الجيوسياسية للمصالح المصرية. فقد نالت مجالات ثلاثة النصيب الأكبر من اهتمام السياسة المصرية هي حوض النيل, والبحر الأحمر والقرن الأفريقي، والساحل والصحراء. وتأتي هذه “الانتقائية” المصرية نتيجة لارتباط المجالات الثلاث بمصالح مصر المصيرية من جانب، وبسبب ما تشهده هذه المجالات في السنوات الأخيرة من تحولات كبرى من جانب آخر.
فمنذ عام 2009 مثلت دول حوص النيل مصدراً أساسياً لتهديد أمن مصر المائي سواء بمحاولة فرض إطار جماعي لتنظيم تقاسم مياه النهر لا يعترف بأي من المعاهدات الدولية السابقة التي تحدد الحقوق المصرية وتحميها، أو بشروع إثيوبيا في بناء سد على النيل الأزرق سيؤثر بالسلب على حصة مصر المائية إذا تم وفق التصورات الإثيوبية وحدها. أما البحر الأحمر والقرن الأفريقي فقد شهد في السنوات الأخيرة تتنامياً في نشاط الحركات الإرهابية استتبع حضوراً دولياً غير مسسبوق في صورة قواعد عسكرية تابعة لقوى دولية عظمى وكذلك لقوى إقليمية يتبنى بعضها توجهات مهددة للأمن المصري. وأخيراً فرضت دائرة الساحل والصحراء تحديات جسيمة على الأمن المصري خاصة بعد تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا وتدفق الأسلحة والمقاتلين على الساحة الليبية المتصلة بتيارات الإرهاب المتصاعدة في النيجر ومالي وبوركينا فاسو وشمال نيجيريا.
هذا التركيز في الجهود المصرية أسفر عن تقدم كبير في المجالات الثلاثة، ففي حوض النيل تمكنت مصر من بناء علاقات قوية مع دول الإقليم ساهمت في تقارب وجهات النظر، كما أعلنت إثيوبيا أخيراً التزامها بعدم المساس بحصة مصر من مياه النيل بعد تمسكها لسنوات برفض الاعتراف بالحقوق المصرية المكتسبة. وفي البحر الأحمر مارست مصر أدواراً حيوية بالتنسيق مع شركائها الدوليين والإقليميين بحيث لم تتأثر الملاحة البحرية في قناة السويس سواء بالحرب الدائرة في اليمن أو بالأوضاع المضطربة في الصومال، كما أدت الجهود المصرية لوضع حدود للتواجد التركي في سواكن ليقتصر على البعد التنموي دون العسكري.
وشهد الساحل والصحراء دوراً مصرياً عسكريا وسياسياً بالتنسيق مع دول الإقليم وعلى رأسها تشاد جسده التحسن الملحوظ في الأوضاع الأمنية خاصة في المناطق المجاورة لمصر بعد أن أصبح تطهير شرق ليبيا من الجماعات الإرهابية وشيكاً بانطلاق العملية الأمنية في درنة.
ثانياً: دعم مستمر وحصري للدولة الوطنية
أكدت السياسة المصرية منذ 30 يونيو دعمها للدولة الوطنية في أفريقيا باعتبارها الفاعل الشرعي الوحيد صاحب السيادة حفاظاً على مكتسبات القارة بعد نضال ممتد من أجل الاستقلال. وفي مختلف ممارسات السياسة المصرية في أفريقيا كان هذا المبدأ حاضراً بقوة وبعدة أوجه تمثل أحدها في تقديم الدعم المباشر للمؤسسات الرسمية الممثلة للدولة، والامتناع المطلق عن دعم أي حركة انفصالية أو تنظيم ينازع الدولة سيادتها، بجانب الدعوة لتحجيم دور الدول غير الأفريقية من التأثير على وحدة دول القارة وسلامتها الإقليمية.
فعلى الرغم من حساسية ملف العلاقة مع إثيوبيا وحاجة مصر لأوراق ضغط لتحفيز المفاوض الإثيوبي على المضي قدماً في المسارات التوافقية، امتنعت مصر عن استغلال الوضع السياسي المضطرب في إثيوبيا منذ 2015 حين نشطت الكثير من التنظيمات السياسية ذات الخلفية الإثنية والتي سعى بعضها للمطالبة بالانفصال، وهي المطالب التي لم تلق من الجانب المصري أي دعم أو تعاطف.
وحافظت مصر على هذا النهج حتى في الحالات التي تعاني من غياب شبه كامل للدولة، فقد دعمت مصر وحدة الصومال برفضها الاعتراف بأي من الأقاليم الساعية للانفصال، وبالمشاركة الفاعلة في إعادة تأهيل الجيش الصومالي ليكون قادراً على استعادة السيطرة على كامل إقليم الدولة. وبالرغم من محاولة العديد من الدول الأفريقية تقسيم ليبيا أو تقويض مساعي توحيد مؤسساتها السياسية، عملت مصر على دعم المسار السياسي منفتحةً على كل الأطراف الليبية الفاعلة ذات الشرعية.
ثالثاً: تغليب معيار الفاعلية في اختيار الأدوات
أثبتت السياسة المصرية في أفريقيا منذ 30 يونيو قدرة كبيرة على استخدام عدد من الأدوات المتنوعة تتناسب مع طبيعة التحدي الذي تواجهه. حيث شهد استخدام الأداة العسكرية طفرة غير مسبوقة في حماية المصالح المصرية. فنتيجة لما فرضه الوضع الأمني في ليبيا من تهديدات على مصر تم الإعلان عن ضربتين جويتين استهدفتا نقاط تمركز الجماعات الإرهابية داخل الأراضي الليبية عامي 2015 و2017. كما أكدت مصر قدرتها على التواجد الفعال في البحر الأحمر خصوصاً بعد الطفرة في تسليح القوات البحرية وإعادة تنظيمها بتخصيص الأسطول الجنوبي لحماية مصالح مصر في البحر الأحمر.
وسياسياً، استخدمت مصر أكثر الأدوات فاعلية في معالجتها لمختلف القضايا مع الدول الأفريقية إذ اعتمدت على عقد اللقاءات رفيعة المستوى بين أصحاب القرار من الجانبين، الأمر الذي انعكس في زيادة ملحوظة في اللقاءات الرئاسية. كذلك استغلت مصر مكانتها المركزية في سياقات إقليمية خارج أفريقيا لتحقيق نجاحات في الدوائر الأفريقية المختلفة. فعلى سبيل المثال تمكنت مصر من التضييق على تمويل السد الإثيوبي مستغلة علاقاتها الاستراتيجية بعدد من الدول والهيئات المانحة، كما تمكنت من الاحتفاظ بدور محوري في تأمين مياه البحر الأحمر بالترتيب مع عدد من الدول الخليجية، بالإضافة لتوظيف علاقة مصر بعدد من الدول الأوروبية المتوسطية في تعزيز الدور المصري السياسي والعسكري في دائرة الساحل والصحراء خصوصاً في الملف الليبي.
رابعاً: حسابات دقيقة للتكلفة والعائد
كانت مصر آخر الدول الأفريقية انضماماً للتكتلات الاقتصادية حين نالت عضوية الكوميسا في عام 1999، وكان لهذا التأخر ما يبرره. فعلى العكس من الاتحاد الأوروبي، لا يصب التكامل الاقتصادي الأفريقي في مصلحة الدول الأقوى اقتصادياً، وإنما يحملها أعباء أكبر من أي دولة أخرى. ومع التزام مصر الكامل بتحقيق الأهداف المجمع عليها والمتعلقة بتكامل دول القارة الأفريقية سياسياً واقتصادياً، اعتمدت المواقف المصرية منذ 30 يونيو على حسابات دقيقة للتكلفة والعائد، بحيث يكون التكامل الأفريقي معززاً للمصالح المصرية وغير منتقصاً من سيادتها. فعلى الرغم من التزام مصر المتجدد بكونها واحدة من خمس دول تتحمل العبء الأكبر من نفقات الاتحاد الأفريقي، تحفظت مصر على صيغة قرارات قمة كيجالي لعام 2016 والمتعلقة بالإصلاح المالي للمنظمة القارية والتي اعتبرتها مصر متجاوزة في بعض جوانبها للسيادة المصرية في المجال المالي.
كذلك حرصت مصر على تعزيز التكامل الاقتصادي الأفريقي باستضافتها لمؤتمر التكتلات الثلاث (كوميسا-سادك-شرق أفريقيا) وعقدها منتديات الاستثمار في أفريقيا والتي كان لها بالغ الأثر على الاقتصاد الأفريقي عموماً وعلى الاقتصاد المصري خصوصاً والذي زادت حصته من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الموجهة لأفريقيا منذ عام 2014 ليحتل المرتبة الثالثة بعد جنوب أفريقيا ونيجيريا. هذه الصيغة للتكامل الاقتصادي مع الدول الأفريقية مثلت جزءً هاماً من برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري والذي مكنها من أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في القارة الأفريقية بعد الدولة النفطية نيجريا متقدمة للمرة الأولى على جنوب أفريقيا عام 2016.