540 ألف برميل نفط يوميًا، تلك هي حصيلة إنتاج مصر اليومي من النفط بفضل جهود حوالي 60 شركة بترول عالمية تعمل في مصر. تركز هذه الشركات استثماراتها بشكل مكثف في مجال البحث عن البترول والغاز في مناطق متفرقة بالجمهورية مثل منطقة البحر المتوسط البحرية كحقل “أبو ماضي”، وحقل “أبو قير”، وحقل “أبو الغراديق”، ومنطقة دلتا النيل التي تحتوي على العديد من الآبار النفطية والغازية، ومنطقة الصحراء الغربية والشرقية التي تشمل حقول النفط والغاز الصحراوية مثل حقل العلمين، ومنطقة خليج السويس والبحر الأحمر.
يعود اكتشاف الغاز الطبيعي في مصر بكميات تصلح للاستهلاك التجاري لأول مرة إلى عام 1967، حين تم اكتشاف حقل “أبو ماضي” في وسط الدلتا، والذي كان يعد بداية الاستكشافات الكبرى للغاز الطبيعي في مصر. تبع ذلك اكتشاف حقل “أبو قير” البحري في البحر المتوسط عام 1969، والذي يعد الحقل البحري الأول في مصر. ثم حقل “أبو الغراديق” في الصحراء الغربية عام 1971، وقد ساهم ذلك في زيادة عمليات البحث والتنقيب في الدلتا والصحراء الغربية وفي مياه البحر المتوسط، حيث بدأ الاستكشاف الأولي فيها في عام 1975. توالت الاكتشافات في السنوات اللاحقة، ويعد الاكتشاف الأهم في العقد الماضي هو اكتشاف حقل ظهر في منطقة البحر الأبيض المتوسط على بعد 200 كيلومتر شمال بورسعيد. وقد ساهم ذلك الحقل في وصول احتياطي مصر من الغاز إلى 2.1 تريليون متر مكعب، مما وضعها في مكانة مرموقة بين الدول الأفريقية من حيث الاحتياطيات (الترتيب الثالث في أفريقيا).
الشريك الأجنبي
في البداية، كانت حقول الغاز الطبيعي في مصر تُسلم للحكومة المصرية دون مقابل. لكن مع بداية استخدام الغاز الطبيعي كوقود في السوق المحلية، خاصة بعد ارتفاع أسعار البترول عالميًا نتيجة لحرب 1973 والثورة الإسلامية الإيرانية، أُدخل بند جديد في الاتفاقيات المبرمة بين مصر والشريك الأجنبي بداية من عام 1980. يتمثل هذا البند في حصول الشريك الأجنبي على بعض المميزات المادية مقابل تسليم تلك الحقول كتعويض للمصروفات التي تكبدها الشريك الأجنبي خلال عمليات المسح والبحث والاستكشاف. وقد تم زيادة المميزات التي يحصل عليها الشريك الأجنبي في عام 1987 ليصبح نصيب الشريك الأجنبي في حقول الغاز مماثلًا لنصيبه في حقول البترول، مع وجود عقد بيع (التزام) من جانب قطاع البترول المصري (الحكومة المصرية) بشراء نصيب الشريك الأجنبي من الغاز بما يعادل سعر المازوت، بهدف تشجيع الاستثمارات الجديدة في البحث والتنقيب بعد انهيار أسعار البترول العالمية.
في عام 1994، تم تعديل الاتفاقيات وزيادة شراء نصيب الشريك الأجنبي ليعادل سعر خليط زيت السويس بدلًا من المازوت. شجع ذلك الشركات العالمية على زيادة التنقيب في المياه العميقة، خاصة تلك التي تتطلب استثمارات ضخمة. وقد تكللت هذه الاستثمارات بالنجاح، حيث تم اكتشاف العديد من الاحتياطيات. دفع هذا الأمر الحكومة إلى إجراء تعديل في اتفاقية سعر الغاز بداية من عام 2000، ليتم تعديل سعر الغاز بحيث يضع حدًا أقصى لسعر الغاز الطبيعي الذي يحصل عليه الشريك الأجنبي عند سعر 2.65 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، مهما ارتفع سعر البترول الخام.
تشير متابعتنا لتطور تعاقدات مصر وتعاملاتها مع الشريك الأجنبي إلى أن الحافز الرئيسي للتوسع في عمليات البحث والتطوير بقطاع الطاقة هو زيادة الحوافز التي يحصل عليها الشريك الأجنبي أو سعر الطاقة الذي تلتزم الحكومة المصرية بشرائه من الشريك الأجنبي. ومن ثَمّ، فإن حدوث أزمة نقص عملة وتأخر سداد مستحقات الشركات الأجنبية نظير ما يتم توريده من طاقة محليًا يؤثر بشكل مباشر في عمليات البحث والتطوير، ومن ثَمّ على تطور قدرات الإنتاج لمصر واحتياطي الطاقة. ربما لدينا تاريخ صعب في التعامل مع الشريك الأجنبي والتأخر في سداد مستحقاته، خاصة بعد الفترة التي مرت بها مصر من أحداث خلال الفترة 2011 – 2012 وثورة يونيو 2013. حيث تسببت تلك الأحداث في وقف عجلة القطاعات الإنتاجية بمصر؛ مما أدى إلى انخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى 15.33 مليار دولار، وخلق أزمة عملة محليًا؛ الأمر الذي راكم مستحقات الشريك الأجنبي لدى الحكومة المصرية لتصل إلى حوالي 7.4 مليارات دولار قبل أن تقوم الحكومة المصرية بسداد مبلغ 2.1 مليار دولار لشركات الطاقة الأجنبية في عام 2014، ليبقى دين بحوالي 4.1 – 4.5 مليارات دولار أمريكي تم سدادهم في وقت لاحق. الجدير بالذكر أن تصاعد أزمة الديون في مصر كان لها أثر سلبي على إعاقة عمليات الاستثمار بقطاع الطاقة، وبذلت الحكومة المصرية جهودًا مضنية لإعادة جذب تلك الشركات للعمل بالسوق المصري، حيث ساهمت خطة سداد مستحقاتهم في نجاح الحكومة المصرية في توقيع 6 اتفاقيات جديدة للبحث عن البترول والغاز في مناطق متفرقة في الصحراء الغربية وخليج السويس والبحر المتوسط.
التاريخ يعيد نفسه
كان للأزمات الإقليمية الكبيرة التي مرت بها مصر خلال الفترة الماضية أثر كبير في عودة أزمة ديون مستحقات شركات البترول المتأخرة، لتصل إلى 3.2 مليارات دولار. فقد تسببت أزمة حرب إسرائيل على غزة في وقف إمدادات الطاقة لمحطات الإسالة المصرية، وكان للخلل الفني في حقل ظهر الذي دفع الإنتاج للانخفاض بشكل ملحوظ في الفترة السابقة، بالإضافة إلى تزامن ذلك مع حلول فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة وزيادة استخدام أجهزة التبريد، أثر كبير في تحول مصر لاستهلاك جزء كبير أو كل الحصة التصديرية التي كانت تصدرها مصر للخارج. وهذا ما دفع الحكومة المصرية لشراء واستهلاك حصة الشريك الأجنبي من إنتاج الغاز والطاقة في مصر. وفي ظل أزمة النقد الأجنبي التي مرت بها الحكومة المصرية قبل مارس 2024، فقد قررت الحكومة المصرية إرجاء سداد مستحقات الشركات الأجنبية لحين انفراج الأزمة.
انفراج الأزمة
بحلول مارس 2024، ومع توقيع صفقة رأس الحكمة وتوصل الحكومة المصرية لاتفاق مع صندوق النقد الدولي لإجراء المراجعتين الأولى والثانية لبرنامج التعاون، والتي رافقها اتخاذ البنك المركزي المصري لعدد من السياسات النقدية التشددية لاحتواء التضخم وإعادة تسعير الجنيه المصري بسعره العادل وفقًا لقوى العرض والطلب في السوق، حدثت انفراجة كبيرة في سوق النقد الأجنبي في مصر. استطاع البنك المركزي المصري إغلاق الرصيد المدين لصافي البنوك الأجنبية بالبنوك المصرية، وتم الإفراج عن شحنات جمركية بحوالي 10 مليارات دولار.
كان قطاع الطاقة المصري على موعد للاستفادة من هذه الانفراجة، حيث وضعت الحكومة المصرية خطة لسداد المستحقات المتأخرة لشركات البترول، ليتم سداد 3.2 مليارات دولار على ثلاثة أقساط حتى يونيو 2025. يبدأ سداد الدفعة الأولى في أكتوبر 2024 بمقدار 1.2 مليار دولار أمريكي، ثم يتم سداد المبلغ المتبقي على قسطين؛ مليار دولار لكل منهما. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة المصرية سبق وأن سددت حوالي 1.3 مليار دولار في يونيو 2024، لتخفض مستحقات شركات البترول الأجنبية والعاملة في مجال استكشاف واستخراج النفط والغاز من 4.5 مليارات دولار في مارس 2024 إلى 3.2 مليارات دولار في يونيو 2024.
ومن الجدير بالذكر أن تراكم مستحقات شركات النفط العاملة في مصر خلال الفترة الماضية كان سببًا في تأجيل طرح 10 – 12 مناقصة دولية للتنقيب عن النفط والغاز بمناطق البحر الأحمر وجنوب الوادي وجنوب مصر. حيث إن سداد مستحقات شركات البترول الأجنبية العاملة في مصر يعد شرطًا أساسيًا لنجاح تلك المناقصات، خاصة وأن الحكومة المصرية قد نفذت برنامجًا إصلاحيًا لقطاع النفط والطاقة في الفترة من 2014 – 2016، وقد أثمرت تلك الجهود في اكتشاف أضخم حقل غاز في تاريخ مصر، “حقل ظهر”، والذي حول مصر من مستورد للغاز إلى دولة ذات اكتفاء ذاتي في إنتاج الغاز الطبيعي، بل وتصدره إلى دول الجوار. فربما نحن على موعد مع اكتشافات أخرى عملاقة في مجال النفط والغاز خلال السنوات المقبلة 2024 – 2030، أسوة بما حدث في الفترة من 2014 – 2020.