تحولت مصر من مُصدر رئيسي للغاز الطبيعي إلى مستورد له، في ظل تزايد الاستهلاك، وتراجع الإنتاج المحلي الطبيعي، مما أدى إلى ظهور أزمة انقطاع الكهرباء في الفترة الأخيرة. وتحتاج مصر إلى الغاز الذي يستخدم في تشغيل أغلب محطات توليد الكهرباء، وذلك بعد سنوات كان يتدفق خلالها الغاز المصري إلى الخارج. حيث فرضت أزمة نقص إمدادات الطاقة في مصر تداعيات سلبية خطيرة على العديد من القطاعات الاقتصادية. وعليه تتحرك الحكومة في أكثر من اتجاه لتأمين الكميات اللازمة من الوقود لتشغيل محطات توليد الكهرباء تزامنًا مع الارتفاعات غير المسبوقة في درجات الحرارة وارتفاع الطلب على الكهرباء.
وعليه، قد أضحى ملف الطاقة قضية محورية، وتحقيق أمن الطاقة في مصر يُشكل أمرًا حيويًا لحماية الأمن القومي لها، في وقت تعيش فيه الدولة تحديين رئيسيين؛ الأول: الارتفاع المتزايد في الطلب على الطاقة وتذبذب أسعارها، والثاني: هو تزايد عدد السكان بشكل كبير.
إشكالية الغاز الطبيعي في مصر:
يُعد الغاز الطبيعي من أهم المدخلات المهمة في البنية التحتية لتوليد الطاقة في مصر، إذ كان يمُثل في العام الماضي 2023 نسبة حوالي 51% من مجموع الطاقة الأولية التي يتم إنتاجها في مصر، وكان يُستخدَم في إنتاج حوالي 76.8% من التيار الكهربائي الذي يتم توليده، ولم يكن هذا الاعتماد على الغاز الطبيعي يطرح مشكلة عندما كان هناك فائضًا في مصر.
حيث كشفت بيانات حديثة عن عودة إنتاج مصر من الغاز الطبيعي إلى الصعود خلال شهر مايو الماضي لكن بنسبة زيادة طفيفة بلغت حوالي 0.6% لكنه لا يزال متراجعًا عند المقارنة بالشهر نفسه من عام 2023، وسط استمرار ارتفاع استهلاكه محليًا. حيث ارتفع إنتاج الغاز الطبيعي في مصر إلى حوالي 4.28 مليارات متر مكعب خلال شهر مايو 2024، مقابل 4.26 مليارات متر مكعب في شهر أبريل السابق له، كما هو موضح في الشكل التالي.
على أساس سنوي، يُعد إنتاج مصر من الغاز في شهر مايو الماضي منخفضًا بمقدار حوالي 772 مليون متر مكعب، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي 2023، الذي سجل فيه حوالي 5.06 مليارات متر مكعب، بحسب أحدث الأرقام الصادرة عن مبادرة بيانات المنظمات المشتركة.
وفي السياق نفسه، ارتفع استهلاك مصر من الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء والتدفئة خلال مايو الماضي إلى حوالي 2.92 مليار متر مكعب، مقابل 2.85 مليار متر مكعب في أبريل السابق له، وفي الأشهر الـ5 الأولى من العام الجاري، زاد استهلاك مصر من الغاز الطبيعي إلى 13.85 مليار متر مكعب، مقابل 13.16 مليار متر مكعب في المدة المماثلة من العام الماضي 2023، أي بمقدار صعود حوالي 671 مليون متر مكعب، كما هو موضح في الشكل التالي.
يعتمد قطاع الكهرباء على الغاز لتوليد التيار، وهو الأمر الذي تسبب في تعرُض القطاع لأزمة وعدم قدرته على تلبية الطلب المتزايد على التيار الكهربائي في ظل ارتفاع درجات الحرارة خلال الصيف، لتوقف مصر صادراتها من الغاز المسال، بدءًا من مايو 2024، (استهلاك الكهرباء من الغاز الطبيعي والمازوت زاد عن التوقعات).
علاوة على ذلك، إن استهلاك الكهرباء في مصر لا يزيد عن حوالي 31 جيجاوات (في المعدل الطبيعي)، ولكن هذه الأرقام ارتفعت بشكل واضح خلال الصيف الحالي، حيث وصلت إلى حوالي 37-40 جيجاوات وهذا يُعد أمر نادر الحدوث. حيث ارتفع استهلاك الكهرباء بنسبة حوالي 12% وذلك عن معدلات عام 2022، وهو الأمر الذي استدعى ضرورة توفر كميات إضافية من الغاز الطبيعي والوقود.
إجمالًا لما سبق، تعاقدت مصر في مايو الماضي، من خلال الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس)، مع شركة هوج للغاز المسال النرويجية لاستئجار الوحدة العائمة هوج جاليون للغاز الطبيعي المسال، بهدف المساهمة في تأمين الاحتياجات الإضافية للاستهلاك المحلي من الغاز الطبيعي خلال أشهر الصيف، لذلك بدأت الحكومة في الشهرين الماضيين شراء شحنات الغاز الطبيعي المسال، في خطوة تهدف لتخفيف الضغط على شبكة الكهرباء في مصر. وبشكل عام، تحتاج مصر إلى ثلاث وحدات تغويز على الأقل لتلبية الطلب المتزايد على الغاز الطبيعي في القطاعين الصناعي والتجاري. وبلغ إجمالي الشحنات التي تم التعاقد عليها حتى الآن بلغت حوالي 26 شحنة والتي تُمثل 21 شحنة تعاقدت عليها مصر مطلع يوليو الماضي، بالإضافة إلى 5 شحنات جرى التعاقد عليها عبر مناقصة طرحتها الحكومة نهاية يوليو الماضي لضمان استقرار إمدادات الوقود بالسوق المحلية. حيث جرى استقبال الشحنات الخمس على سفينة إعادة التغويز الموجودة في ميناء سوميد بالعين السخنة، والسفينة الأخرى الموجودة في ميناء العقبة الأردني، كما هو موضح في الشكل التالي صادرات مصر من الغاز المسال خلال الفترة الماضية.
وعليه، يُعد النقص الحاد في الغاز الطبيعي من الأزمات الأكثر إلحاحًا التي واجهها الاقتصاد المصري في الصيف الحالي، وفي المقابل، دفع النمو السكاني المتزايد والسريع في مصر، والمصحوب بتهافت شديد على استخدام الكهرباء. وهنا تجدر الإشارة إلى أن وزارة الكهرباء تحتاج حوالي 135 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميًا، ولتلبية جزء من هذا الاستهلاك الكبير، تستورد مصر وقودًا بأكثر من حوالي مليار دولار شهريًا لتلبية احتياجات شبكة الكهرباء، وتقدر فاتورة وزارة الكهرباء لوزارة البترول حوالي 15 مليار جنيه شهريًا. وفي هذا الصدد تعول مصر كثيرًا على سفن ووحدات تغويز الغاز المسال، فما المقصود بسفن التغويز وما علاقتها بأزمة الكهرباء؟
هنا تجدر الإشارة إلى أن مصر تمتلك بنية تحتية قوية في صناعة الغاز الطبيعي، علاوة على ذلك هناك مصنعو الإسالة والبنية التحتية القوية، والتي تتمتع بها الدولة المصرية في صناعة الغاز الطبيعي، حيث بلغت إجمالي السعة والقدرة الإنتاجية لمصنعي الإسالة بإدكو ودمياط حوالي 12 مليون طن سنويًا، بالإضافة إلى عودة مصنع دمياط للتصدير بعد توقف عن العمل دام لأكثر من سنوات، كما هو موضح في الشكل التالي.
ما أهمية وحدات التغويز؟
بشكل عام، فكرة تحويل مصر إلى مركز إقليمي للغاز الطبيعي المسال تستند إلى فكرتي إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي، وتسييله في معاملها (محطتي دمياط وإدكو) وضخه لدول العالم خاصة أوروبا بعد أزمة الحرب الروسية الأوكرانية وتوقف استيراد الغاز منها، بالإضافة إلى فكرة تطوير البنية التحتية في صناعة الغاز الطبيعي، ومن ضمنها إنشاء وحدات تغويز الغاز المسال (Regasification Unit).
لفهم طبيعة عمل سفن التغويز التي تتجاوز قيمة عقود إيجارها ملايين الدولارات سنويًا، وقد تصل إلى حوالي 100 مليون دولار، لا بد أولًا من معرفة أن الغاز الطبيعي كي يكون آمنًا ويسهل نقله في حالة تصديره من دولة لأخرى على متن السفن البحرية، يجب أن يكون في حالة سائلة؛ لذا يُنقل على متن سفن خاصة مزودة بتوربينات عملاقة لتبريده والوصول به إلى درجة حوالي 162 تحت الصفر التي يتحول عندها إلى صورته السائلة. ويظل الغاز على صورته السائلة حتى يصل إلى الدولة المستوردة وهنا يأتي دور وحدات وسفن التغويز، وهي عبارة عن محطات عائمة يتلخص دورها في استلام شحنات الغاز المستوردة وإعادتها من الصورة السائلة إلى صورتها الطبيعية الصالحة للاستهلاك المباشر (عكس عملية الإسالة تقوم محطات التغويز بتسخين الغاز لكي يعود إلى حالته الغازية الأصلية ويصبح جاهزًا للضخ في أنظمة التخزين أو شبكات التوزيع بالدولة المستوردة).
الغاز الطبيعي المسال، هو غاز طبيعي تمت عملية تسييله (أي تحويله من غاز إلى سائل) في مصانع إسالة الغاز لتصبح عملية نقله أسرع وتخزينه أسهل، كونه يتخذ مساحة أصغر بنسبة حوالي 600 مرة من الغاز الطبيعي وهو في حالته الغازية، وهذا ما يُسهل عملية نقله بين البلدان، وبعد ذلك يعاد تحويله إلى صورة الغازية مرة أخرى، كما هو موضح في الشكل التالي.
وبالنظر إلى إنتاجية الغاز الطبيعي في مصر، نجد أن مصر خلال فصل الصيف الحالي واجهت مشكلة مستدامة في كيفية الموازنة بين التصدير والاستهلاك الداخلي، من جهة؛ ومن جهة أخرى الموازنة بين الزيادة السنوية للاستهلاك الداخلي والإنتاج المحلي (هناك تناقص طبيعي من الغاز الطبيعي الناجم عن تقادم الحقول والسلوك الخزاني المتعارف عليه عالميًا)، وذلك نظرًا لزيادة المجالات التي يتم فيها استهلاك الغاز الطبيعي والزيادة السنوية العالية لعدد السكان الذي يفوق حوالي 105 ملايين نسمة. وعليه جاءت خطوات الحكومة المصرية باستيراد كميات من الغاز المسال لأنه أسهم بشكل كبير في الحد من تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء خلال الفترة الماضية والتي تواكبت مع ارتفاعات غير مسبوقة في درجات الحرارة (وصلت في بعض الأوقات حوالي 47 درجة مئوية) وزيادة معدلات استهلاك الكهرباء.
استكمالًا لما سبق، هناك نقص في وحدات التغويز، وذلك بسبب الإيجارات طويلة الأجل، حيث إنه لا توجد حاليًا وحدات تغويز متاحة للاستئجار من الشركات المصنعة، نظرًا لإطالة مدة عقود الإيجار التي تتراوح عادة بين 10-15 عامًا. وعليه يُشكل مقترح إنشاء وحدة تغويز ثابتة خطوة في غاية الأهمية نحو تعزيز مفهوم أمن الطاقة في مصر، وستساعد في سد الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج المحلي للغاز بمصر، بالإضافة إلى تعزيز البنية التحتية في صناعة الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط. بالإضافة إلى أن هناك توسع ملحوظ في أنشطة البحث والاستكشاف في مصر وذلك بعد نجاح الحكومة فى خفض مستحقات الشركات الأجنبية، وبالتالي يؤكد مقترح إنشاء وحدة تغويز ثابتة ثقة الشركاء الأجانب في إمكانات مصر ومناخ الاستثمار في مجالات الطاقة المختلفة. وسوف تُسهم الوحدة أيضًا في ضمان إمدادات ثابتة ومستدامة (موثوقة) من الغاز الطبيعي مع ضمان استمرار تأمين احتياجات الدولة من الوقود اللازم لتشغيل المحطات وتلبية الطلب المحلي المتزايد من الغاز الطبيعي، وبالأخص في فترات الطلب المتزايد (الصيف)، بالإضافة إلى تعزيز سلاسل توريد الغاز الطبيعي.
الحل لن يعتمد فقط على جزئية الإمدادات الخارجية من شحنات الغاز المسال، ولكن يجب التركيز على السيطرة على نمو الاستهلاك المحلي وتخفيضه لأنه يُسهم في تناقص معدلات الإنتاج المصري من الغاز الطبيعي.
إجمالًا لما سبق، زيادة معدلات الاستهلاك المحلي وعدم وجود معادلة متزنة بين معدلات الاستهلاك ومستويات الإنتاج للدولة، يترتب عليها زيادة وفجوة كبيرة في فاتورة الاستيراد، مما يترتب عليه أعباء وضغوط على موازنة للدولة.
ولذلك ستشهد الفترة المقبلة تعزيز عمليات البحث والاستكشاف في مجالي النفط والغاز الطبيعي وذلك لما تمتلكه مصر من احتياطيات مؤكدة وضخمة، بالإضافة إلى جذب العديد من الشركات العالمية، وضخ استثمارات كبيرة في هذا الملف. حيث إنه من المتوقع أن تعمل الحكومة على الاهتمام بضرورة الإسراع في زيادة رقعة الحفر الاستكشافي وبالأخص في مياه غرب البحر المتوسط، بالإضافة إلى البحر الأحمر، مما يُساهم في تعزيز مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة، بالإضافة إلى سرعة تنمية حقل نرجس ووضعه على خريطة الإنتاج.
البعد الأهم في صناعة الغاز الطبيعي:
ينتظر إنتاج مصر من الغاز الطبيعي دعمًا من آبار جديدة خلال العامين الجاري والمقبل، وهو الأمر الذي يُسهم في زيادة إمداداتها لتقليل حدة الأزمة الراهنة التي تواجه مصر وأدت إلى عودتها للاستيراد. تركزت الجهود المكثفة في الآونة الأخيرة على زيادة إنتاج مصر من الغاز على إسراع عمليات البحث والاستكشاف، إلى جانب سداد جزء من مستحقات شركات النفط العالمية وذلك لحثها على مواصلة ضخ الاستثمارات بصورة أكبر. حيث إن زيادة معدلات الاستهلاك المحلي وعدم وجود معادلة متزنة بين معدلات الاستهلاك ومستويات الإنتاج للدولة، يترتب عليها زيادة وفجوة كبيرة في فاتورة الاستيراد، مما يترتب عليه أعباء وضغوط على موازنة للدولة، ولذلك ستشهد الفترة المقبلة تعزيز عمليات البحث والاستكشاف في مجالي النفط والغاز الطبيعي لما تمتلكه مصر من احتياطيات مؤكدة وضخمة، بالإضافة إلى جذب العديد من الشركات العالمية، وضخ استثمارات كبيرة في هذا الملف، ويوضح الشكل التالي تطور احتياطيات مصر المؤكدة من الغاز الطبيعي.
وعليه يمكن القول، من المتوقع أن تعمل الحكومة على الاهتمام بضرورة الإسراع في زيادة رقعة الحفر الاستكشافي وبالأخص في مياه غرب البحر المتوسط، بالإضافة إلى البحر الأحمر، مما يُسهم في تعزيز مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة، بالإضافة إلى سرعة تنمية حقل نرجس ووضعه على خريطة الإنتاج. ولذلك، وضعت مصر خططًا استكشافية مكثفة بغرض الاستفادة من الاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي.
وفي نهاية الشهر الماضي، طرحت وزارة البترول والثروة المعدنية، مزايدة جديدة للتنقيب عن الزيت الخام والغاز الطبيعي في 12 منطقة بالبحر المتوسط ودلتا النيل، وتمتد فترة تلقي العروض في المزايدة حتى 25 فبراير 2025. حيث تشمل المزايدة عشرة قطاعات بحرية وقطاعين بريين، بحسب وزارة البترول والثروة المعدنية. تأتي هذه المزايدة في إطار جهود الدولة لجذب استثمارات جديدة، وفق استراتيجيتها الرامية إلى استغلال الفرص الواعدة في مجال البحث عن البترول والغاز الطبيعي، وخاصةً في البحر المتوسط لما يمتلكه من إمكانات كبيرة كحوض واعد للغاز الطبيعي.مجمل القول،شهد ملف الطاقة في مصر خلال العام الجاري مزيجًا غير متجانس تمثل في انخفاض مستويات إنتاج الغاز الطبيعي مع ارتفاعات غير مسبوقة في درجات الحرارة وتزايد الطلب المحلي على الطاقة. وعليه سعت مصر إلى تنويع مصادر الطاقة المختلفة؛ مما يدعم من خططها لسد الفجوة الحالية بين مستويات الإنتاج ومعدلات الاستهلاك المحلي، والعمل على أن تكون هناك استقلالية كبيرة في أمن الطاقة خاصةً في منطقة ليست بمنأى عن الصراعات الإقليمية، من خلال تعزيز جذب الاستثمارات الخارجية بمجال الطاقة وبالأخص في ملف الغاز الطبيعي، وهو ما يُعد حلًا آخر من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، لأن الغاز الطبيعي سيبقى مصدرًا موثوقًا ولعقود طويلة، فيما يتعلق بتوليد الكهرباء، أو مصدرًا للصناعة فقط.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة