عقدت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري سبعة اجتماعات خلال عام 2024، اتسمت بسياسات نقدية متباينة لمواجهة التحديات الاقتصادية المستمرة. وشهدت هذه الاجتماعات رفع معدلات الفائدة الأساسية بمقدار 8% (800 نقطة أساس)، بينما قررت اللجنة تثبيت أسعار الفائدة في خمسة اجتماعات أخرى، بدأ البنك المركزي المصري تطبيق سياسة التشديد النقدي منذ مارس 2022، استجابةً للتداعيات الاقتصادية التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية. فقد أدت هذه الحرب إلى زيادة معدلات التضخم العالمية وارتفاع أسعار السلع، نتيجة اضطرابات سلاسل الإمداد. وكان لهذه التحديات تأثيرات سلبية ملحوظة، خاصةً على الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة، من أبرز التداعيات التي واجهتها هذه الاقتصادات، خروج الاستثمارات الأجنبية قصيرة الأجل (الأموال الساخنة) بحثًا عن معدلات فائدة أعلى في الأسواق التي تبنّت سياسات التشديد النقدي، مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا. هذا التحول زاد من الضغوط على الاقتصاد المصري؛ مما استدعى استجابات نقدية مدروسة لضمان الاستقرار المالي والحد من تأثيرات التضخم المستوردة، من خلال هذه السياسات، يسعى البنك المركزي إلى تحقيق التوازن بين دعم النمو الاقتصادي وكبح التضخم، في ظل بيئة اقتصادية عالمية شديدة التغير.
منذ مارس 2022، قام البنك المركزي المصري برفع أسعار الفائدة بإجمالي 19% (1900 نقطة أساس)، لتستقر أسعار الفائدة الأساسية حاليًا عند مستوى 27.25% و28.25% و27.75% لأسعار عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية على الترتيب، وعند 27.75% لسعر الائتمان والخصم.
يهدف البنك المركزي المصري إلى تحقيق سلامة النظام النقدي والمصرفي واستقرار الأسعار، في إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة، وفقًا لقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020، وذلك من خلال تحقيق معدل تضخم منخفض ومستقر على المدى المتوسط، وتحقيق استقرار الأسعار، وكذلك التقليل من تقلبات النشاط الاقتصادي الحقيقي عن طاقته الإنتاجية الكاملة، أو ما يسمى بفجوة الإنتاج.
بالتوازي مع ذلك، ينتهج البنك المركزي سياسة تحرير سوق الصرف الأجنبي، سعيًا لتحقيق السعر العادل للعملة المحلية مقابل سلة العملات الأجنبية، وخاصة الدولار الأمريكي.
مسار التضخم خلال سبع سنوات
نجحت جهود البنك المركزي المصري خلال السنوات القليلة الماضية في وضع التضخم على المسار النزولي بهدف السيطرة على توقعات التضخم، وذلك منذ أن أعلن البنك المركزي عن معدل التضخم المستهدف في مايو 2017. وفي ديسمبر 2022، حددت لجنة السياسة النقدية معدلات التضخم المستهدفة خلال الفترة القادمة عند مستوى 7٪ (± 2 نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2024، ومستوى 5٪ (± 2 نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2026. وقد تم تصميم سياسة تحديد أسعار العائد لتحقيق استقرار الأسعار مع تقليل التقلبات في الاقتصاد الكلي. علاوة على ذلك، يسهم احتواء التضخم في تعزيز تنافسية السلع والخدمات المصرية، وبالتالي تقليل الضغوط على سعر الصرف على المدى المتوسط.
في اجتماعها قبل الأخير لعام 2024، الذي عُقد الشهر الماضي، توقعت لجنة السياسة النقدية في بيانها أن يستمر معدل التضخم في الارتفاع حتى نهاية العام الحالي، وأنه قد يتجه للارتفاع من جديد، مدفوعًا بتصاعد التوترات الجيوسياسية، وبوادر عودة السياسات الحمائية، واحتمالية أن يكون لإجراءات ضبط المالية العامة تأثير يتجاوز التوقعات. إلا أن اللجنة أشارت إلى أنه من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم على نحو ملحوظ بدءًا من الربع الأول من عام 2025، مع تحقق التأثير التراكمي لقرارات التشديد النقدي والأثر الإيجابي لفترة الأساس.
“وفي ضوء التطورات على المستويين المحلي والعالمي، ترى اللجنة أن الإبقاء على أسعار العائد الأساسية للبنك المركزي دون تغيير يُعد مناسبًا إلى أن يتحقق انخفاض ملموس ومستدام في معدل التضخم. وتشير اللجنة إلى أنها ستواصل اتباع نهج قائم على البيانات لتحديد مدة التشديد النقدي المناسبة، وذلك بناءً على تقديرها لتوقعات التضخم، وتطور معدلات التضخم الشهرية، وفاعلية آلية انتقال السياسة النقدية. كما ستواصل اللجنة متابعة التطورات الاقتصادية والمالية عن كثب وتقييم آثارها في التوقعات الاقتصادية، ولن تتردد في استخدام جميع الأدوات المتاحة لديها لكبح جماح التضخم”، وفقًا لما ذكرته اللجنة في بيانها.
تشير توقعات لجنة السياسة النقدية إلى دعم كبير لسيناريو تثبيت أسعار الفائدة حتى نهاية 2024، خاصةً وأن قراءات التضخم المنتظر إعلانها خلال ديسمبر ستعكس مستويات التضخم لشهر نوفمبر، كما أن قراءات يناير سوف تعكس حسابات التضخم لشهر ديسمبر، وهي من الأشهر التي من المتوقع أن تستمر فيها مستويات التضخم في الارتفاع، بناءً على توقعات اللجنة في بيانها.
فيتش تتوقع انحسار التضخم تدريجيًا
ويدعم رؤية البنك المركزي ما توقعته وكالة فيتش -إحدى أكبر وكالات التصنيف الائتماني العالمية- في تقريرها الصادر في نوفمبر، والذي أعلنت فيه رفع التصنيف الائتماني لمصر. وأشارت الوكالة إلى انخفاض التضخم في مصر إلى 26.4% في سبتمبر مقارنةً بـ 35.7% في فبراير، متوقعةً تباطؤ التضخم إلى 12.5% بنهاية السنة المالية 2025، التي تنتهي في يونيو 2025، مدعومًا بتأثيرات أساسية كبيرة، وتحسن التوقعات، واستقرار العملة بشكل عام. كما قدَّرت انخفاض التضخم إلى 10.6% بنهاية السنة المالية 2026، التي تنتهي في يونيو 2026.
وعليه، توقعت الوكالة أن يتجه البنك المركزي إلى تيسير السياسة النقدية، بما يتماشى مع مستويات سعر فائدة حقيقي تقارب 4%..
ومورجان ستانلي يتوقع تراجعًا للتضخم
كما توقع بنك الاستثمار مورجان ستانلي، في تقريره الصادر في نوفمبر، أن ينخفض التضخم inflation في مصر تدريجيًا وبشكل ملحوظ في الربع الأول من العام المقبل، متوقعًا أن يستمر مرتفعًا حتى نهاية العام الجاري، كاستجابة لتطبيق الموجة الأخيرة من التسعير العادل للمحروقات. وعزا التقرير توقعه لارتفاع التضخم بنهاية العام الجاري إلى حالة عدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية العالمية، خاصة بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتداعيات التصعيد الجيوسياسي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن احتواء التضخم يُعد من الأهداف الرئيسية لبرنامج التسهيل الائتماني الممتد الممنوح لمصر من قِبل صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار. وتُجرى حاليًا مناقشات المراجعة الرابعة للبرنامج، والتي تتيح لمصر، فور اكتمالها، شريحة بقيمة 1.3 مليار دولار.
وُصفت المناقشات التي أُجريت خلال زيارة بعثة صندوق النقد لمصر في الفترة من 6 إلى 20 نوفمبر الماضي، من قِبل رئيس الوزراء وكذلك الصندوق، بأنها كانت إيجابية، وأنها قامت على تفهم كبير من قِبل بعثة الصندوق للتحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر، خاصة مع تصاعد التوتر الإقليمي نتيجة العدوان الإسرائيلي على غزة والتبعات المصاحبة له.
قال الصندوق في بيانه مع انتهاء أعمال البعثة إنه في ظل التوترات الجيوسياسية المستمرة في المنطقة، يظل التوقع الاقتصادي للمنطقة، بما في ذلك مصر صعبًا، مؤكدًا أن تداعيات الحرب على غزة واضطرابات التجارة في البحر الأحمر تؤثر بشكل سلبي، وتُسبب انخفاضات كبيرة تصل إلى 70% في إيرادات قناة السويس، التي تُعد مصدرًا مهمًا للعملة الأجنبية لمصر.
كما أشار الصندوق إلى أن زيادة أعداد اللاجئين تُضيف ضغوطًا على الموازنة العامة، خاصةً مخصصات الخدمات العامة، وخص بالذكر قطاعي الصحة والتعليم. وأكد الصندوق أن الجانب المصري قام بتنفيذ إصلاحات رئيسية للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي، والتي تضمنت توحيد سعر الصرف منذ مارس الماضي، مع التزام البنك المركزي بالحفاظ على نظام سعر صرف مرن لحماية الاقتصاد من الصدمات الخارجية.
بالإضافة إلى ذلك، قالت بعثة الصندوق إن التشديد الكبير في السياسة النقدية ساعد في احتواء ضغوط التضخم، على الرغم من أن تحريك أسعار الفائدة تم تقييده مؤقتًا بسبب الزيادات في الأسعار الإدارية (المقصود هنا أسعار المنتجات البترولية وخدمات الاتصالات والكهرباء بالتجزئة). وأشارت إلى أنه يجب أن يظل التركيز على ضمان أن التضخم يسير في اتجاه هبوطي، مع الالتزام بسياسة الانضباط المالي التي تقلل من الديون، وبالتالي تقلل من اعتماد مصر على العملة الأجنبية.
خلاصة القول، إن مسار التضخم في مصر محسوم على المدى القريب كاستجابة للعديد من العوامل التي تم ذكرها سابقًا. إلا أن التضخم سيبدأ في اتخاذ مسار هبوطي خلال الربع الأول من العام 2025، وهو التوجه الذي دعمه كل من البنك المركزي، وتقرير وكالة فيتش، وبنك مورجان ستانلي، وكذلك صندوق النقد الدولي في تقريره حول المراجعة الثالثة لبرنامج التسهيل الائتماني الممنوح لمصر والصادر في مارس الماضي.
كما أن معدل التضخم inflation الأساسي الصادر عن البنك المركزي -والذي يستبعد السلع التي تتعرض لتغيرات حادة مثل الخضروات والفواكه- يشير إلى تراجع التضخم بالفعل في أكتوبر للشهر الثاني على التوالي، مسجلًا 24.4% نزولًا من مستوى 25% في سبتمبر، وهو ما يدعم توجه التضخم العام نحو الهبوط خلال الربع الأول من العام المقبل.