تستعد مصر لتسلم 1.2 مليار دولار، قيمة الشريحة الرابعة من التمويل الممنوح لها بموجب برنامج التسهيل الائتماني الممتد لصندوق النقد الدولي، وذلك بعد إعلان الصندوق خلال ديسمبر عن توصله إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع الجانب المصري بشأن متطلبات المراجعة الرابعة للبرنامج، والتي من المنتظر أن تُعرض على المجلس التنفيذي لصندوق النقد خلال الأيام القليلة المقبلة للموافقة على اكتمال المراجعة وإعلان صرف الشريحة المرتقبة.
جاء الاتفاق المعلن في أعقاب إعلان بعثة صندوق النقد الدولي لمصر، بقيادة “إيفانا فلادكوفا هولار”، في نوفمبر الماضي عن انتهاء أعمال البعثة الميدانية بعد زيارة لمصر امتدت لأسبوعين. وأوضحت هولار أن هذه الزيارة تناولت مناقشات بناءة مع السلطات المصرية واتسمت بتفهم كامل من قبل البعثة للتحديات التي يفرضها المشهد الاقتصادي المصري جراء تداعيات التوترات الجيوسياسية العالمية والإقليمية.
ويجدر هنا الإشارة إلى زيارة مديرة صندوق النقد الدولي التي سبقت أعمال البعثة، حيث التقت برئيس جمهورية مصر العربية السيد عبد الفتاح السيسي وكبار قادة الدولة، وصرّحت خلالها قائلة: “أردتُ أن أخبر الجميع من هنا، من القاهرة، كيف يُقدّر صندوق النقد الدولي عُمق تلك الشراكة مع مصر، كما أننا نقدم كامل الدعم لمصر في سبيل استقرار الدولة وتحقيق التنمية الاقتصادية.”
تحديات والتزامات
التفهم الكامل لحجم التحديات التي يواجهها الاقتصاد المصري هو ما أثمر عن قرب اكتمال المراجعة الرابعة من البرنامج، والتي تُعد المراجعة الأولى التي تتم بعد قرار الصندوق بالاستجابة لطلب الحكومة المصرية زيادة قيمة التمويل الممنوح بموجب البرنامج، ليصبح 8 مليارات دولار بدلاً من 3 مليارات دولار. بذلك، تصبح قيمة التمويل الممنوح من المراجعة الرابعة وحتى المراجعة الثامنة والأخيرة من البرنامج تتراوح بين 1.2 مليار دولار و1.3 مليار دولار، بدلاً من 820 مليون دولار.
قالت رئيسة بعثة الصندوق إن السلطات المصرية واصلت تنفيذ السياسات الرئيسية للحفاظ على الاستقرار الكلي، على الرغم من التوترات الإقليمية المستمرة التي تتسبب في انخفاض حاد في إيرادات قناة السويس في ظل الظروف الخارجية الصعبة، بالإضافة إلى بيئة اقتصادية محلية مليئة بالتحديات.
تجدر الإشارة إلى تصريحات رئيس هيئة قناة السويس منذ أيام، والتي كشف خلالها عن فقدان مصر ما يتخطى 60% من إيرادات قناة السويس، لتصل إلى 4 مليارات دولار فقط خلال العام الحالي، نزولاً من 10.2 مليار دولار حققتها القناة في عام 2023.
ضبط المالية
وفقًا لبيان الصندوق، طلب الجانب المصري إعادة ضبط التزامات الحكومة المالية متوسطة الأجل. وفي هذا الصدد، من المتوقع أن يصل فائض الميزانية الأولية (باستثناء عائدات برنامج تخارج الدولة من الأنشطة الاقتصادية، بما يشمله من برنامج الطروحات وبيع الأصول) إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية المقبلة 2025/2026، التي تبدأ في يوليو 2025. وهذا يمثل انخفاضًا بنسبة 0.5% (نصف في المئة) عن التزامات البرنامج السابقة، قبل أن يرتفع إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2026/2027، التي تنتهي خلالها فترة عمل الحكومة الحالية وبرنامج صندوق النقد الدولي، تماشيًا مع الالتزامات السابقة.
وفي هذا السياق، أوضح الصندوق أن هذا التعديل قصير الأجل يهدف إلى ضمان أن يوفر التوحيد المالي بعض المساحة لتوسيع مظلة البرامج الاجتماعية الحيوية (الصحة، التعليم، والحماية الاجتماعية) لدعم الفئات الضعيفة والطبقة المتوسطة مع ضمان استدامة الدين.
أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، خلال ديسمبر، أن التزامات مصر من حيث حجم الدين المطلوب سداده ستكون بمعدل أقل خلال العام المقبل مقارنة بمعدلاتها خلال العام الجاري، مشيرًا إلى أن مصر قامت بسداد 7 مليارات دولار من التزاماتها خلال شهري نوفمبر وديسمبر، ليصل إجمالي ما تم سداده خلال العام الجاري إلى 38.7 مليار دولار.
سياسات التوحيد المالي
أكد الصندوق أن الاستمرار في تنفيذ جهود التوحيد المالي أمر ضروري للحفاظ على استدامة الدين، وتقليل التكاليف الكبيرة للفائدة ومتطلبات التمويل المحلي الإجمالي. كما شدد على ضرورة إيلاء اهتمام خاص للحد من المخاطر المالية الناجمة عن الشركات المملوكة للدولة في قطاع الطاقة، وفرض التنفيذ الصارم لسقف الاستثمار العام، بما في ذلك النفقات الرأسمالية المرتبطة بالكيانات العامة التي تعمل خارج الميزانية العامة للدولة.
تشير سياسات التوحيد المالي إلى مجموعة الإجراءات والسياسات التي تهدف إلى تحسين الوضع المالي للحكومة من خلال تقليل العجز في الميزانية وتحقيق الاستدامة المالية. تشمل هذه السياسات عادةً خفض الإنفاق الحكومي عن طريق تقليل النفقات غير الضرورية أو تحسين كفاءة الإنفاق، وزيادة الإيرادات من خلال تحسين نظام الضرائب، وتحسين إدارة الدين عبر العمل على خفض تكلفة خدمة الدين وضمان استدامته، وتعزيز النمو الاقتصادي من خلال توفير بيئة مواتية للاستثمار وتحفيز النشاط الاقتصادي.
تهدف سياسة التوحيد المالي إلى تحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات، مما يساعد على استقرار الاقتصاد وزيادة ثقة المستثمرين.
مبادرات تحفيز الاقتصاد
وبالحديث عن تحفيز النشاط الاقتصادي، أطلقت الحكومة خلال ديسمبر المرحلة الأولى من مبادرة لدعم الشركات في سبعة قطاعات صناعية ذات أولوية، بقيمة 30 مليار جنيه وبفائدة 15%، كحزمة تسهيلات تمويلية للقطاع الخاص لتمويل شراء الآلات والمعدات وخطوط الإنتاج. وتضع مصر قطاع الصناعة في صدارة أولويات أجندة الحكومة، حيث تستهدف تحقيق نمو بنسبة 31.2% في العام المالي 2026/2027.
تستهدف المبادرة قطاعات مثل الغزل والنسيج، والتعدين، ومواد البناء، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية والهندسية والكيماوية.
وفي أكتوبر، أطلقت الحكومة مبادرة لدعم القطاع السياحي بقيمة 50 مليار جنيه، بعائد منخفض يبلغ 12%، لدعم الشركات العاملة في القطاع.
الإجراءات الضريبية
وفيما يتعلق بالإجراءات الضريبية وفقًا للبرنامج، ذكرت بعثة صندوق النقد الدولي أنه رغم أن خطط الحكومة لتبسيط النظام الضريبي تُعد مشجعة، إلا أن هناك حاجة إلى مزيد من الإصلاحات لتعزيز جهود تعبئة الإيرادات المحلية.
في هذا السياق، التزمت السلطات بتنفيذ حزمة من الإصلاحات التي من شأنها زيادة نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 2% خلال العامين المقبلين، مع التركيز على إلغاء الإعفاءات بدلاً من زيادة معدلات الضرائب.
وشدد الصندوق على أن هناك حاجة إلى حزمة إصلاح شاملة تضمن إعادة بناء احتياطيات مصر المالية، بما يقلل تعرضها للديون، ويوفر مساحة إضافية لزيادة الإنفاق الاجتماعي، خاصة في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.
تسريع وتيرة الإصلاحات
اتفق الجانبان على ضرورة تسريع الإصلاحات لتحسين بيئة الأعمال وضمان أن يصبح القطاع الخاص المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي في البلاد. وفي هذا السياق، أشار صندوق النقد الدولي إلى الحاجة إلى بذل جهود أكبر لتحقيق تكافؤ الفرص، وتقليل تواجد الدولة في الاقتصاد، وزيادة ثقة القطاع الخاص لمساعدة مصر على جذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير إمكاناتها الاقتصادية الكاملة.
تسريع وتيرة برنامج التخارج
وقال الصندوق إنه بينما تواجه مصر “رياحًا معاكسة” بسبب البيئة الخارجية الصعبة، تم الاتفاق على ضرورة بذل مزيد من الجهود لتسريع برنامج خصخصة الأصول المملوكة للدولة. وأكد الجانب المصري التزامه بمضاعفة الجهود في هذا المجال، باعتباره أمرًا حاسمًا لدعم تطوير القطاع الخاص وتقليل عبء الدين المرتفع.
تجدر الإشارة إلى الخطة التي أعلنها رئيس الوزراء مؤخرًا، والتي تتضمن تسريع وتيرة تنفيذ برنامج التخارج من النشاط الاقتصادي في إطار سياسة ملكية الدولة. تشمل هذه الخطة طرح 10 شركات للاستثمار المباشر أو طرح حصص في البورصة المصرية، منها أربع شركات مملوكة للقوات المسلحة -ولأول مرة- إضافة إلى طرح حصص في بنكي القاهرة والإسكندرية.
تشمل الشركات الأربع التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع المصرية:
- الشركة الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه الطبيعية “صافي”.
- الشركة الوطنية لبيع وتوزيع الخدمات البترولية.
ومن المتوقع طرح هاتين الشركتين في البورصة المصرية خلال النصف الأول من العام المقبل. كما تضم القائمة:
- شركة سايلو فودز للصناعات الغذائية.
- شركة شل أوت المتخصصة في إدارة محطات الوقود.
وتشمل الخطة أيضًا طرح محطة رياح جبل الزيت، وشركة الأمل الشريف للبلاستيك، ومصر للصناعات الدوائية، وشركة سيد للأدوية.
أعلن رئيس الوزراء أيضًا عن اعتزام الحكومة طرح إدارة جميع المطارات للقطاع الخاص، والسماح بإنشاء شركات طيران جديدة من قبل القطاع الخاص. كما تم الكشف عن فرص استثمارية تشمل استغلال مباني الوزارات التي انتقلت مؤخرًا إلى العاصمة الإدارية الجديدة.
مرونة السياسة النقدية
وفقًا لصندوق النقد الدولي، جدد البنك المركزي المصري التزامه بالحفاظ على نظام سعر صرف مرن لحماية الاقتصاد من الصدمات الخارجية، والحفاظ على ظروف نقدية مشددة لتقليل الضغوط التضخمية. كما أكد على مواصلة تحديث عملياته بهدف الانتقال تدريجيًا نحو نظام كامل لاستهداف التضخم، مع تعزيز مرونة القطاع المالي وممارسات الحوكمة والمنافسة في القطاع المصرفي كأولوية رئيسية في إطار البرنامج.
تماشيًا مع التوقعات، أبقى البنك المركزي المصري على معدلات الفائدة في آخر اجتماعاته للعام الجاري وللمرة السادسة خلال العام، بعد أن رفع أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 8% (800 نقطة أساس) خلال 2024. جاء هذا القرار في ظل تراجع التضخم السنوي العام والأساسي.
وفي إطار مرونة السياسة النقدية، مد البنك المركزي أمد مستهدفات التضخم لتصبح 7% (±2%) للربع الرابع من العام 2026، بدلاً من الربع الرابع من العام الجاري، و5% (±2%) للربع الرابع من 2028 بدلاً من 2026، مع استمرار معدلات التضخم بعيدة عن المستهدفات التي تم تعديل جدولها الزمني.
تجدر الإشارة هنا إلى أن صندوق النقد الدولي توقع في آخر تقاريره حول آفاق الاقتصاد الإقليمي أن تنخفض معدلات التضخم في مصر إلى مستوى 16% بنهاية العام المالي الجاري 2024/2025، الذي ينتهي في يونيو 2025.
الخلاصة
التحديات كبيرة، لكن هناك التزام واضح من الجانب المصري بمواصلة الموجة الثانية من الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية المدعومة ببرنامج التسهيل الائتماني الممتد. وأمام التحديات غير المسبوقة التي قد تؤثر على وتيرة هذه الإصلاحات، يصبح من الضروري فتح قنوات حوار مستمرة مع المستثمرين وأصحاب الخبرات لتحديد أفضل السبل لإنجاز هذه الموجة من الإصلاحات، مع عدم إغفال التوسع في البرامج الاجتماعية لتقليل تداعيات الإصلاحات على محدودي ومتوسطي الدخل.
تكامل السياسة المالية والنقدية يعد أمرًا ضروريًا لتحقيق المرونة المطلوبة، مع الاستمرار في تنفيذ سياسات التوحيد المالي التي ستنعكس بلا شك بشكل إيجابي على مؤشرات الموازنة. كما يتطلب الأمر التوسع في دعم القطاع الصناعي، وخاصة الصناعات التحويلية والمغذية، بالإضافة إلى قطاع التشييد والبناء، كونهما من القطاعات الأساسية التي تساهم بشكل مباشر وقوي في النمو الاقتصادي للبلاد.