أشار صندوق النقد الدولي هذا العام إلى استمرار التحديات المتعلقة بالدين الخارجي على المستوى العالمي؛ حيث توقع الصندوق أن يشهد الدين مستويات مرتفعة في العديد من البلدان، لا سيما في الأسواق الناشئة والدول النامية. فوفقًا لتقديرات الصندوق، من المرجح أن يتجاوز الدين الخارجي نسبة 40% من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الاقتصادات الناشئة، وتشير بيانات البنك الدولى إلى أن المديونيات الخارجية للدول النامية شهدت زيادة كبيرة بسبب الحاجة إلى الاقتراض لمواجهة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الجائحة والتضخم العالمي. كما أن الارتفاعات الكبيرة في أسعار الفائدة على المستوى الدولي، بفعل السياسات النقدية المتشددة التي تبنتها البنوك المركزية الكبرى للحد من التضخم، أسهمت في زيادة أعباء خدمة الدين الخارجي لتلك الدول؛ مما يفرض تحديات مالية إضافية على موازناتها.
وحذر معهد التمويل الدولى من تزايد مخاطر الديون السيادية؛ حيث أظهرت تقارير أن نحو 60% من الدول المنخفضة الدخل أصبحت في حالة ضائقة ديون أو على وشك الدخول في هذه الحالة. يأتي هذا في وقت تتصاعد فيه الدعوات إلى تخفيف عبء الديون أو إعادة هيكلتها، من خلال مبادرات متعددة الأطراف كإطار العمل المشترك لمجموعة العشرين، الذي يسعى إلى توفير حلول عملية لتخفيف الديون عن الدول الأكثر تأثرًا، وتوقعت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) أن تكون بعض الدول الأفريقية والأمريكية اللاتينية من أكثر الدول تأثرًا بارتفاع أعباء الديون؛ مما يستدعي تقديم المزيد من الدعم المالي والمساعدات الدولية لتجنب حالات التعثر، كما أن التحديات المالية للدول الناشئة قد تؤدي إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية فيها؛ مما يفاقم من مشكلاتها الاقتصادية.
موقف الدين الخارجي المصري
شهد الدين الخارجي لمصر ارتفاعًا ملحوظًا حتى وصل إلى ذروته في عام 2023، وذلك نتيجة التمويلات المستمرة لمشروعات التنمية والبنية التحتية، إضافةً إلى مواجهة تداعيات الجائحة والظروف الاقتصادية العالمية، لكن في الفترة الأخيرة، تحسنت إدارة الدين الخارجي المصري بفضل عدد من السياسات المالية التي تبنتها الحكومة والتي استهدفت ضبط معدلات الاقتراض وتقليل أعباء خدمة الدين، وعملت وزارة المالية والبنك المركزي المصري على تطبيق استراتيجية متكاملة تشمل إصدار سندات طويلة الأجل وإعادة هيكلة بعض الديون المستحقة لتخفيف الضغوط المالية على المدى القريب؛ مما أسهم في استقرار معدلات الدين الخارجي. وقد انخفضت مستويات الدين الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بفضل هذا النهج لتصل إلى 34.9% في العام 2024 مقابل معدل 38.4% في العام 2023، مع الحفاظ على الاحتياطي النقدي في مستويات آمنة. كما ساعدت الإصلاحات الاقتصادية المتتالية، التي شملت تحسين مناخ الاستثمار ورفع كفاءة الإيرادات العامة، على تقليل الحاجة إلى الاقتراض الخارجي؛ مما يضع الاقتصاد المصري على مسار أكثر استدامة واستقرارًا.
وقد استطاعت استراتيجية وزارة المالية المصرية لإدارة عمر الدين الخارجي في تحقيق بعض النجاحات في إطالة عمر الدين وتخفيف الالتزامات قصيرة الأجل على الدولة المصرية، فمن خلال تمديد آجال استحقاق الديون وإعادة هيكلة جزء منها، نجحت الوزارة في تقليل الضغوط المالية الفورية على الموازنة؛ مما ساعد في توجيه الموارد نحو دعم النمو الاقتصادي بدلًا من سداد الديون بشكل مكثف على المدى القصير. كما أن إصدار سندات طويلة الأجل، مثل السندات الخضراء وسندات “اليورو بوند”، أسهم في استقطاب الاستثمارات الخارجية بتكاليف منخفضة نسبيًا مع توزيع السداد على فترة زمنية أطول.
استطاعت مصر خلال العام 2024 خفض إجمالي الدين العام الخارجي إلى 152.9 مليار دولار، منخفضًا بحوالي 11.8 مليار دولار عن أعلى رقم تحقق في تاريخ الدين العام المصري والذي بلغ 164.7 مليار دولار في العام 2023، وقد بلغت قيمة الأقساط والفوائد المستحقة على الديون الخارجية المصرية نحو 29.2 مليار دولار في العام 2024، يستحق منها حوالي 14.6 مليار دولار في النصف الأول ويستحق الباقي في النصف الثاني، أما في عام 2025، فمن المتوقع أن تنخفض هذه المبالغ قليلًا لتصل إلى 19.4 مليار دولار، موزعة على 11.2 مليار دولار في النصف الأول و8.2 مليارات دولار في النصف الثاني. يأتي هذا التراجع نتيجة جهود الحكومة المصرية لإعادة هيكلة ديونها الخارجية ومدّ آجال استحقاق الديون بهدف تخفيف الضغوط المالية على الاقتصاد المصري، مع استمرار التركيز على بيع الأصول العامة لتحسين التدفقات النقدية وتخفيف الأعباء المالية.
استراتيجية إدارة الدين المصري
لإدارة الدين المصري بشكل فعّال خلال الفترة من 2025 حتى 2028، يمكن تبني استراتيجية شاملة تهدف إلى تقليل عبء الديون، وتعزيز الاستقرار المالي، ودعم مسار النمو الاقتصادي المستدام. هذه الاستراتيجية يمكن أن تشمل عدة محاور تتمثل في:
إعادة هيكلة الديون الخارجية واستبدال الديون قصيرة الأجل بأخرى طويلة الأجل، استكمالًا لجهود إطالة آجال استحقاق الديون التي اتبعتها مصر في السنوات الماضية، يمكن أن تواصل الحكومة المصرية إصدار سندات دولية طويلة الأجل بفترات استحقاق تمتد إلى عشر سنوات أو أكثر، بهدف تخفيف الضغوط المالية على الموازنة العامة. كما يمكن طرح سندات بالجنيه المصري لجذب الاستثمارات المحلية؛ مما يقلل من الاعتماد على التمويلات الخارجية ويعزز استقرار النقد الأجنبي، وربما قد يتطلب الأمر إنشاء هيئة متخصصة لإدارة الدين العام في مصر؛ مما يضمن وضع سياسات دين متكاملة تشمل تحليل المخاطر ومراقبة نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، مع تعزيز الشفافية في عرض البيانات المتعلقة بالدين وفق المعايير الدولية. هذه الهيئة يمكن أن تضع خططًا واضحة لإدارة الالتزامات المالية وتحديد أولويات السداد؛ مما يسهم في تحسين النظرة الائتمانية الدولية لمصر.
من جانب آخر تعتبر زيادة الإيرادات الحكومية ضرورة ملحة لتقليل الحاجة إلى الاقتراض، ويمكن تحقيق ذلك عبر توسيع القاعدة الضريبية من خلال إصلاح النظام الضريبي، والذي يهدف إلى تقليل التهرب الضريبي وزيادة كفاءة التحصيل. كما يمكن للحكومة أن تركز على زيادة الإيرادات غير الضريبية من خلال تحسين عوائد المشروعات الحكومية، واستغلال الأصول العامة بطرق مختلفة كالخصخصة الجزئية أو الشراكات مع القطاع الخاص. كذلك، يمكن تقليل العجز المالي تدريجيًا عبر ترشيد النفقات الحكومية، مع الحرص على الاستثمار في مشروعات البنية التحتية التي تحقق عوائد اقتصادية مرتفعة، ويعتبر الاستمرار في تنويع مصادر التمويل خطوة مهمة نحو تقليل الضغط المالي، ويمكن لمصر الاستفادة من التمويلات الميسرة من المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد العربي، والتركيز على الحصول على قروض بفوائد منخفضة وشروط مرنة. ويمكن تعزيز التعاون مع دول الخليج والمؤسسات الاستثمارية العالمية لتمويل مشروعات البنية التحتية والقطاعات الاستراتيجية عبر شراكات مباشرة، دون الحاجة إلى الاقتراض الكبير، هذا فضلًا عن أنه يمكن للدولة المصرية الاستفادة من أدوات التمويل المبتكرة مثل السندات الخضراء والسندات المرتبطة بالاستدامة، والتي تجذب مستثمرين يهتمون بالاستثمار المسئول اجتماعيًا وبيئيًا؛ مما يتيح لمصر تمويل مشاريع التنمية المستدامة دون اللجوء إلى الاقتراض التقليدي.
ومن أجل تحسين القدرة على سداد الديون وتقليل الاعتماد على الاقتراض، يجب التركيز على دعم القطاعات ذات القدرة التصديرية العالية مثل الزراعة، الصناعة، والسياحة؛ حيث يسهم ذلك في تعزيز دخل الدولة من العملات الأجنبية وزيادة احتياطي النقد الأجنبي. كما يمكن لمصر التوجه نحو الاقتصاد الرقمي ودعم الاستثمار في التكنولوجيا؛ مما يعزز تنويع الاقتصاد ويوفر فرص عمل جديدة، ويزيد من مرونة الاقتصاد المصري في مواجهة الصدمات الخارجية.