خاض “دونالد ترامب” السباق الرئاسي لعام 2024 بالاستناد إلى شعار “أمريكا أولًا” انطلاقًا من صعوبة استمرار الولايات المتحدة في القيام بدور شرطي العالم. وفي هذا الإطار، فقد نسب لإدارة سلفه “جو بايدن” حربي أوكرانيا وغزة، ناهيك عن استنكار الانسحاب العشوائي من أفغانستان. ومن ثم، قدم “ترامب” نفسه باعتباره الرئيس الوحيد الذي لم يبدأ حروبًا جديدة، بل وتعهد بعدم اندلاع حروب جديدة خلال ولايته الثانية. وعلى النقيض من ذلك، وخلال الفترة الممتدة بين إعلان فوزه على منافسته الديمقراطية “كمالا هاريس” وتنصيبه رسميًا كالرئيس الأمريكي السابع والأربعون في 20 يناير 2025، تبنى خطابًا توسعيًا مهددًا بالاستيلاء على قناة بنما وجزيرة جرينلاند، “ربما باستخدام القوة العسكرية”، ومشيرًا إلى إمكانية استخدام الإكراه الاقتصادي لجعل كندا الولاية الأمريكية رقم (51)، علاوة على إعادة تسمية “خليج المكسيك” بـ “خليج أمريكا”. وهو المشهد الذي يثير التساؤل بشأن أسباب التغير في خطاب الرئيس المنتخب من الانعزالية إلى الإمبريالية.
تفسيرات متداخلة:
على الرغم من الرفض الذي أبداه “ترامب” خلال ولايته الأولى لنهج الانخراط الخارجي للولايات المتحدة، معتبرًا إياه فشلًا في وضع المصالح الأمريكية في صدارة الأولويات، فإن الولاية الثانية لـ “ترامب” تعكس مساعي لتعظيم مصالح واشنطن من خلال التوسع الذي يمكن أن يعتمد على الأداة العسكرية. الأمر الذي يعني أن مبدئي “أمريكا أولًا” و”جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” لن يهدفا إلى تحجيم الانخراط العالمي للولايات المتحدة أو الانكفاء على الداخل الأمريكي، وإنما تعزيز الهيمنة الأمريكية وتدعيم مكانة واشنطن على رأس النظام الدولي ولكن بتكاليف أقل. وعلى هذا النحو، فقد تكهن عالم السياسة الأمريكي “هال براندز“، في مايو 2024، بأن الولاية الثانية لـ “ترامب” ستسعى جاهدة إلى الهيمنة على نصف الكرة الغربي، وسوف تتميز بـ “عقيدة مونرو النشطة”. وارتباطًا بذلك، يمكن تفكيك هذا التحول الذي طال خطاب “ترامب” على النحو التالي:
- القدر المحتوم: اعتبرت بعض التحليلات أن خطاب “ترامب” التوسعي غير المتوقع يمكن تفسيره فكريًا وفلسفيًا من خلال الأفكار المتجذرة بعمق في العقلية الأمريكية مستندة إلى مزيج من القومية والتوسعية وفق عقيدة “القدر المحتوم” Manifest Destiny، التي تعتبر أن الولايات المتحدة مقدر لها – من قبل الله والتاريخ – توسيع أراضيها عبر أمريكا الشمالية، بغض النظر عن حقوق الشعوب الأصلية أو سيادة الدول المجاورة. وهو المصطلح الذي صاغه الصحفي الأمريكي المحافظ “جون أوسوليفان” عام 1845 كمبدأ أساسي للحلم الأمريكي العظيم الذي يستند إلى “الانتشار والسيطرة على القارة بأكملها التي مُنحت من قبل العناية الإلهية”. على الرغم من أن الاستناد إلى عقيدة “القدر المحتوم” قد تلاشت – بشكل واضح – من الخطاب السياسي الأمريكي السائد، فإن روحها وفحواها لا تزال قائمة في شعارات مثل “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. واتصالًا بذلك، جادل “ويليام إيرل ويكس“، أستاذ التاريخ في جامعة ولاية سان دييجو، خلال حديثه مع صحيفة TRT World بأن مفهوم “القدر المحتوم” يتصور الولايات المتحدة باعتبارها “أمة مقدسة” في مهمة إلهية عالمية لجلب الحرية والحكومة التمثيلية للعالم أجمع. موضحًا أن “ترامب” يدرك أن توقف واشنطن عن التوسع والسعي للعظمة بأشكال متنوعة سيؤدي إلى الإقلال من أهميتها على الساحة الدولية، بل وربما يؤدي إلى موتها ببطء. ومن ثم، يرى “ويكس” أن خطاب “ترامب” التوسعي لا يمثل “مفاجئة”، وإنما هو خطاب “منطقي لحد كبير”.
- استعادة الإمبريالية الأمريكية: يمكن النظر إلى شعاري “أمريكا أولًا” و”جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” اللذين يغلفان خطاب “ترامب” التوسعي كانعكاس وترجمة للشيفونية التي تستهدف استعادة العصر الذهبي للولايات المتحدة الذي بدأ بانتهاء الحرب الأهلية، والذي تمكنت فيه من التوسع الإقليمي (مثل: شراء ألاسكا من الروس) وتكديس الثروات وتقوية الصناعة الأمريكية وتحقيق السيطرة على نصف الكرة الغربي. فصورة الولايات المتحدة الأمريكية كبلد وُلد من رحم ثورة لا تنطبق إلا على جزء صغير منها، أما بقية الدولة بصورتها الحالية التي تضم 50 ولاية و14 إقليمًا خارجيًا فقد تمت من خلال مزيج من الاحتلال والتنازل والشراء. وبالتالي، يبدو أن الارتكان إلى هذين الشعارين خلال الولاية الثانية يعكسا رغبة “ترامب” في إعادة رسم خريطة نصف الكرة الغربي لجعل أمريكا أكبر وأقوى مما هي عليه. الأمر الذي يعني أن حرص الرئيس المنتخب على التعامل مع نصف الكرة الغربي كمجال نفوذ أمريكي يشير إلى إحياء (مبدأ مونرو)، الذي ظهر لأول مرة في عام 1823، ومثّل الأساس للسياسة الخارجية الأمريكية. ومن ثم، فقد اعتبرت بعض التحليلات أن هدف “ترامب” المتمثل في تحقيق الهيمنة غير المتنازع عليها، وبالأخص في نصف الكرة الغربي، وفق نهج “أمريكا أولًا” يتشارك مع (مبدأ مونرو) في هدفيه الرئيسيين: منع القوى الخارجية من التدخل وتخفيف الفوضى المتصورة في المنطقة.
- نظرية الرجل المجنون: يتجه جانب من المحللين إلى التأكيد على أن الرئيس الجمهوري المنتخب لا يسعى لإحياء إمبريالية القرن التاسع عشر، وإنما يوظف هذه التهديدات بالاستناد إلى قدرتها على تعزيز صورته على الساحة الدولية كـ (زعيم يصعب التكهن به)، أي أنه شخصية يستعصي توقعها في ضوء عدم التزامها بالثوابت والمحددات. وهو ما يمكن استقراؤه في الكيفية التي تعامل بها “ترامب” خلال ولايته الأولى مع زعيم كوريا الشمالية؛ حينما اتجه في بداية ولايته إلى التهديد بتدمير بيونج يانج، ثم قلب المشهد رأسًا على عقب، من خلال الإشارة للزعيم الكوري الشمالي بوصفه “صديقه الحميم”. يستند هذا التفسير إلى ما كان يسمى خلال حقبة الرئيس “ريتشارد نيكسون”، بـ “نظرية الرجل المجنون”، والتي كانت تستهدف الإيحاء لقادة الدول الشيوعية أن استفزاز الرئيس “نيكسون” سيؤدي إلى جعل ردود أفعاله متهورة أو غير عقلانية أو متطرفة للغاية، وهو ما يساهم في دفع الأطراف الدولية إلى تقديم المزيد من التنازلات. وعلى هذا النحو، وفي ضوء المصالح المهمة والحيوية التي يرغب “ترامب” في ضمانها بالدول التي أطلق تصريحات مثيرة للجدل بشأنها (كندا، وبنما، والمكسيك، وجرينلاند)، يمكن النظر إلى خطابه التوسعي في سياق تكتيكاته التفاوضية المعقدة، التي تقوم على الاستفزاز ثم زعزعة الاستقرار ثم استغلال الفوضى للتفاوض. بعبارة أوضح، يبدو أن الخطاب التوسعي لـ “ترامب” وتصريحاته المثيرة للجدل تمثل ترجمة لتكتيكاته التفاوضية المفضلة القائمة على منطق “الصفقات”.
واستنادًا إلى ذلك، يبدو من الصعب تفكيك خطاب “ترامب” التوسعي وفق تفسير وحيد، وإنما في إطار التفسيرات الثلاثة السابق ذكرها مجتمعة؛ وهو ما سوف يؤكده التباين المتوقع في تعامل “ترامب” مع هذه الدول؛ كونه سيجري وفقًا للأولويات التي توضحها هذه التفسيرات طبقًا لكل حالة. ومن ناحية أخرى، فإن خطاب “ترامب” المتهور، وحتى وإن لم يكن هناك نية لتنفيذه، يمثل انحرافًا هائلًا عن المعايير التي دافعت عنها الولايات المتحدة لسنوات، وهو ما سوف يحمل انعكاسات ليس فقط بالنسبة لسلوك واشنطن، وإنما توفير الغطاء والمسوغ أيضًا لسلوك خصميها موسكو وبكين. ومن ثم، يظل مكمن الخطر الرئيس في خطاب “ترامب” هو تقويض المعايير والمؤسسية الدولية لصالح إعادة إحياء منطق “البقاء للأقوى”.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية