بات حزب الشعب الجمهوري محور التفاعلات السياسية الداخلية التركية منذ اعتقال مرشحه الرئاسي ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في 19 مارس 2025؛ إذ أظهر قدرة على قيادة العمل السياسي وتحريك وتوجيه الجماهير، متمكنًا من تحويل الأزمة إلى مكسب سياسي آني توج بإعادة انتخاب أوزغور أوزال رئيسًا للحزب في مشهد وحودي نادر، بينما يظل الاختبار الحقيقي متمثلًا في استثمار النجاحات الفورية وتحويلها إلى برنامج عمل سياسي خلال المرحلة المقبلة. وفي هذا الإطار، تستعرض الورقة جوانب وملامح الفرصة التي أتاحتها الأحداث الأخيرة للحزب والعوامل الحاكمة لاستمرارها كفرصة طويلة الأمد.
فرصة استثنائية
بينما يبدو اعتقال إمام أوغلو لحظة مأزومة لحزب الشعب الجمهوري غير أنها حملت في الوقت نفسه فرصة استثنائية للحزب إذ وفرت له فرصة لتطوير الممارسة السياسية، وهو ما تجسدت ملامحه على النحو التالي:
• التصرف بمنطق الزعيم وليس رئيس الحزب: اعتبرت الشخصية غير الكاريزمية لأوزغور أوزال وافتقاره للخبرة السياسية الطويلة أحد عوامل ضعف حزب الشعب الجمهوري وتراجع قدرته على تصدر وقيادة تيار المُعارضة وقلب المعادلة السياسية القائمة، غير أن أوزال أظهر نوعًا من القيادة والزعامة السياسية إبان إدارته لأزمة اعتقال إمام أوغلو التي شكلت أول اختبار حقيقي لإدارته؛ إذ توجه إلى إسطنبول بمجرد وقوع عملية الاعتقال وأنشأ ما يُمكن اعتباره مجازًا مقرًا موازيًا لحزب الشعب في مبنى البلدية قاد منه عملية حشد وتنظيم احتجاجات رغم الحظر الحكومي، ولم تقتصر على أعضاء حزبه فحسب وإنما شملت قطاعات شعبية واسعة ضمت تيارات فكرية متباينة، ملقيًا بذلك حجرًا في مياه التعبير السياسي الراكدة منذ احتجاجات حديقة غيزي 2013، واستطاع توجيه المحتجين بما لا يحيد عن هدف التظاهرات. وتمكن من تعبئة وتحريك قاعدة المعارضة بممارسة سياسية غير معتادة لم تعهدها الثقافة السياسية التركية عندما خرج 15 مليون شخص –سوادهم الأعظم لا ينتمي لحزب الشعب الجمهوري– للتصويت لصالح إمام أوغلو في الانتخابات التمهيدية التي أجراها الحزب يوم 23 مارس الفائت، بعدما قرر تخصيص “صندوق تضامني” يتيح للأشخاص غير المنتمين للحزب التصويت تعبيرًا عن تضامنهم، وهي حادثة ذات دلالات سياسية لا يُمكن إغفالها في بلد لا يُعبر فيه الناخبون عن مواقفهم خارج صناديق الانتخابات الفعلية.
علاوة على اتخاذه خطوة متقدمة لإفشال لعبة الحزب الحاكم بعقد مؤتمر استثنائي للحزب يوم 6 أبريل الجاري لإجراء انتخابات جديدة على منصب رئاسة الحزب لتفادي أي قرار بإلغاء المؤتمر العادي الثامن والثلاثين الذي شهد انتخابه رئيسًا للحزب واستبداله بأمين. وأظهر المؤتمر الذي حمل رقم الحادي والعشرين لحظة وحدة استثنائية لحزب لطالما عرف انقسامات متعددة المستويات أعاقت عملية تقدمه السياسي وأعاد تجديد الثقة في أوزال ليخرج بموقف سياسي أقوى كثيرًا عمَّا كان عليه قبل الأزمة الأخيرة ويُصبح زعيمًا جديرًا بتمثيل المعارضة، إذ امتنع كمال كيليجدار أوغلو عن منافسة أوزال “لتجنب جر الحزب إلى صراعات حزبية داخلية” حسبما فسر موقفه، وأُعيد انتخاب أوزال بإجماع الأصوات الصحيحة (1171 صوتًا صحيحًا من أصل 1276 صوتًا منهم 105 أصوات باطلة) للمندوبين المسجلين، ويُعد هذا التصويت بمثابة موقف نضالي ورسالة موجهة للحكومة وليس مجرد إجراء حزبي اعتيادي.
• تمثيل المطالب الاجتماعية لقطاع شعبي واسع: استطاع حزب الشعب الجمهوري لأول مرة منذ فترة طويلة الالتقاء مع المجتمع وشرائحه المختلفة وتمثيلهم سياسيًا وحمل مطالبهم الاجتماعية، بما في ذلك اليمينيون واليساريون والمحافظون والقوميون، الذين خرجوا إلى الساحات ليس فقط تعاطفًا وتأييدًا للحزب بل استجابةً لاستشعارهم تهديدًا على حقوقهم ومكاسبهم، إذ بدا وكأن اعتقال رئيس بلدية إسطنبول جسَّد الغضب الشعبي إزاء السياسات الحكومية وأطلق الشرارة لخروج الفئات المجتمعية الغاضبة بمن فيهم عُمال ومتقاعدون وطلبة جامعات وموظفون حكوميون وناشطون بيئيون ونقابيون ونشاطات في مجال حقوق المرأة، للتعبير عن غضبهم والدفاع عن حقوقهم تحت مظلة التنديد باعتقال إمام أوغلو، وكانت هذه الفئات المختلفة تخوض نضالات ضد النظام خلال الفترة الماضية لكنها بقيت معزولة ومحدودة وقابلة للسيطرة عليها، فيما بات اعتقال إمام أوغلو نقطة تجمع لتوحيد هذه الجماعات الناشطة اجتماعيًا.
• تعزيز وحدة الحزب والروابط بين المركز والأعضاء: أظهرت الانتخابات التمهيدية التحام قاعدة عضوية الحزب بقياداته ورغبتهم في دعم الحزب بقوة لأول مرة منذ سنوات عديدة خيمت عليها مواقف انتقادية لسياسات الحزب وقيادته، إذ صوت 1.654.651 من أصل 1.878.149 عضوًا، بنسبة تصويت تُقدر بحوالي 88.1%، وهو رقم مهم بالنسبة للحزب. ولعل الظاهرة الأبرز تعلقت باختفاء مظاهر الخصومة وتصفية الحسابات والإقصاء بين أجنحة الحزب؛ حيث اشتملت قائمة أوزال لعضوية الجمعية العامة للحزب ولجنة الانضباط العليا ومنصة العلوم والثقافة والفنون (يتم انتخابهم من قبل المندوبين بالتزامن مع انتخاب رئيس الحزب) على شخصيات مقربة من كمال كيليجدار أوغلو وأكرم إمام أوغلو، وأشخاص آخرين وجهوا انتقادات له، مريدًا بذلك تعزيز صورة الوحدة والتضامن في الحزب.
• إكساب الحزب زخمًا وثقة جماهيرية: منذ خروجه من الحكم ظل حزب الشعب الجمهوري حزبًا غير جماهيري ولم يستطع اجتذاب أكثر من ربع المصوتين في أفضل الأحوال خلال أوقات الانتخابات الرسمية، بينما أكسبه اعتقال إمام أوغلو ثقة جماهيرية لتمثيل المعارضة؛ إذ أظهرت نتيجة التصويت في صناديق التضامن بالانتخابات التمهيدية إعراب نحو 15 مليون و498 ألف و721 ناخبًا من أصل 61 مليون ناخب عن رغبتهم في ترشح إمام أوغلو للرئاسة، وتمثل هذه النسبة 25.2% من إجمالي الناخبين، بمعنى أن واحدًا من كل أربعة ناخبين ذهب إلى صناديق الاقتراع وأعلن إرادته في إمام أوغلو، رغم عدم اضطراره لذلك، ويتقارب هذا الرقم مع الأصوات التي حصل عليها الحزب خلال الانتخابات المحلية 2024 والمُقدرة بـ 15 مليون و785 ألف و662 صوتًا، لكن الاختلاف الوحيد يتمثل في أن هذه المشاركة العالية طوعية وفي وقت تراجعت الثقة في النخبة السياسية بشكل كبير، كما جاءت معاكسة للنتيجة التي أرادتها الحكومة. ويلاحظ أن المصوتين خرجوا في الولايات الـ 81 جميعها، وهو أمر مهم بالنسبة لحزب ابتعد منذ فترة طويلة عن كونه حزبًا جماهيريًا، وكانت الولايات التي شهدت أعلى معدلات مشاركة تضامنية هي أيضًا التي تفوق فيها كيليجدار أوغلو على أردوغان في الانتخابات الرئاسية خلال مايو 2023، باستثناء ولاية أوشاك.
مكاسب مشروطة
فشلت حسابات أردوغان في إلحاق أكبر قدر من الضرر بحزب الشعب الجمهوري حتى الآن، وقدم الحزب نموذجًا جيدًا –وغير متوقع ربما للعديد من المراقبين المهتمين بالشأن التركي– لإدارة العاصفة السياسية، لكن استمرار جني مكاسبها يتوقف على مجموعة من العوامل منها:
• توحد الحزب حول إمام أوغلو: لا يعني دخول السجن في تركيا بالضرورة انتهاء الحياة السياسية؛ فطريق أردوغان نحو حكم تركيا مر عبر السجن، ولا يزال صلاح الدين دميرطاش إحدى الشخصيات المؤثرة في السياسة الكردية رغم احتجازه لأكثر من ثماني سنوات دون استيفاء الإجراءات القانونية، وبالمثل ربما يكون لإمام أوغلو دورًا في مستقبل الحياة السياسية التركية، غير أن تحديد حجمه يتوقف على عاملين رئيسيين؛ الأول: مدى التفاف وتوحد حزب الشعب الجمهوري حوله وتقديمه باعتباره المرشح الرئاسي الطبيعي للمعارضة وليس فقط للحزب، فعندما جرت محاولات لقطع الطريق السياسي على أردوغان سانده حزب العدالة والتنمية بقوة. والثاني قدرة الحزب على تأطير قضية إمام أوغلو ضمن مقاربة أوسع ترتبط بطموحات ومخاوف المجتمع بشأن أوضاع الحقوق والحريات والديموقراطية، بحيث لا يشعرون بأنهم أمام مسألة حزبية أو منافسة سياسية بقدر كونها قضية وطنية.
• القدرة على تمثيل الإجماع الوطني: أظهرت الأحداث الأخيرة أن حزب الشعب الجمهوري لا يزال يُشكل القوة المنظمة الأكبر في المعارضة، وأنه الأقدر على تنظيم المعارضة الاجتماعية، ومن ثَمّ فإن الحفاظ على هكذا مكتسب يتوقف على قدرة الحزب على تجاوز رغباته وأهدافه التنظيمية المحدودة، والحفاظ على العلاقة المباشرة التي أقامها مع مختلف شرائح المجتمع، والانفتاح على مطالب واحتياجات المجموعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتمثيلها والتعبير عنها من خلال تحويلها إلى برنامج عمل سياسي بديل قابل للتطبيق. ومع ذلك، تكشف التركيبة الأيديولوجية لاحتجاجات ساراشان واتجاهات التصويت في صناديق التضامن بالانتخابات التمهيدية نقطة ضعف رئيسية سوف يواجهها الحزب خلال المرحلة المقبلة؛ إذ غاب المكون الكردي عن الاحتجاجات، كما كانت المحافظات الشرقية التي تضم النسبة الأكبر من أصوات حزب المساواة الشعبية والديمقراطية والناخبين الأكراد الأدنى في معدلات المشاركة.
وبالنظر إلى معدلات المشاركة والاتجاهات في كل من الانتخابات المحلية والعامة الأخيرة، يُمكن القول إن الناخبين الأكراد أظهروا موقفهم المعارض في الانتخابات المحلية والعامة، لكنهم يتخذون موقف أكثر حذرًا اليوم بشأن العلاقة مع حزب الشعب الجمهوري ويفضلون موقف المراقب، ويُمكن إيعاز ذلك إلى التفاهمات الحالية بين الحكومة وحزب المساواة الشعبية والديمقراطية، وهو ما يحرم حزب الشعب الجمهوري من كتلة تصويتية وازنة أسهمت منذ عام 2018 في تعزيز قوة المعارضة مقابل إضعاف قاعدة الناخبين الأكراد لحزب العدالة والتنمية؛ إذ أن الأخير يوظف التطلعات السياسية الكردية لتحقيق مكاسب انتخابية من خلال صفقة يحصل بموجبها الأكراد على بعض المطالب الثقافية والسياسية في دستور جديد أو عبر إجراء تعديل دستوري مقابل منح أردوغان فرصة رئاسية جديدة.
• إبقاء الحزب متماسكًا: فشلت مساعي تأجيج الصراعات الداخلية لإضعاف حزب الشعب الجمهوري حتى الآن، غير أن الحفاظ على حالة الاصطفاف والتلاحم الداخلي يتطلب الاستفادة من دروس إدارة أزمة إمام أوغلو وتحويلها من مكاسب آنية إلى آليات عمل مستدامة، وانتهاز اللحظة الراهنة لتعزيز الممارسة الديمقراطية الداخلية وإدارة التباينات والاستماع إلى الأصوات المختلفة خلال عملية صنع القرار داخل الحزب، واستيعاب الضغوط الحكومية.
ختامًا، فتحت حادثة اعتقال إمام أوغلو مساحة سياسية جديدة لحزب الشعب الجمهوري ومنحته زخمًا شعبيًا غير مسبوق؛ إذ استطاع تمثيل الحراك السياسي والاجتماعي خلال اللحظة السياسية الراهنة، ولكن يعني ترجمة ذلك بالضرورة إلى التزام هؤلاء المواطنين بالتصويت للحزب خلال الاستحقاقات الانتخابية وإنما سوف تتوقف قدرة الحزب على توسيع قاعدته الشعبية واستقطاب الفئات المترددة في المشاركة أو جزء من القاعدة الشعبية المصوتة للعدالة والتنمية على تحويل الدفعة السياسية التي حصل عليها إلى مبادرات سياسية والخروج من نطاق ردّ الفعل إلى قيادة الفعل السياسي.