ما تجدد من نيران في بحر عُمان، قبل أسبوع، بالاعتداء على حاملتي النفط النرويجية واليابانية ربما يكون فصلاً آخر في الأزمة الدولية والإقليمية التي بدأت مع الإعلان الأميركي للخروج من الاتفاق النووي مع إيران، وأعقبتها بعودة المقاطعة والعقوبات الاقتصادية على طهران، ومن الممكن رصد الخطوات التي اتخذتها إيران للتعامل مع الواقع الجديد، منذ ذلك التاريخ، والتي يمكن تلخيصها استراتيجياً فيما يلي: أولاً إذا كانت حالة المواجهة مع الولايات المتحدة سوف تؤدي إلى وقف النفط الإيراني عن التصدير، فإن إيران سوف تعمل على ألا تصدر أطراف أخرى بترولها، بل إنها سوف تضغط على مضيق هرمز، بحيث تسبب أزمة اقتصادية دولية. وإذا كانت واشنطن، بقدراتها العسكرية، قد أتت إلى الخليج، قرب الأراضي الإيرانية، وأن أرض الولايات المتحدة بعيدة، فإن أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة قريبون، وسوف يدفعون ثمن هذه الصداقة. وثانياً، لدى إيران أدوات عملت على تكوينها، وتقويتها، خلال العقود الماضية، ويمكن استخدامها في الأزمة الراهنة. وإذا كانت إيران قد استخدمت «حزب الله» في الأزمة السورية، لكي تقلب موازين القوى لصالح النظام السوري – حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سوريا – فإن الأداة هذه المرة سوف تكون جماعة الحوثيين التي تحاول الاستيلاء على اليمن، وجعلها شوكة في جنوب المملكة العربية السعودية وتهديداً مباشراً لأراضيها وقدراتها النفطية. وثالثاً إن الصداقة والتحالف العربي الأميركي ينبغي فضهما حتى لا تتغير توازنات القوى العسكرية في المنطقة، ويكون ذلك بالضغط العسكري (الهجوم على مطار أبها، وما سبقه من هجمات على الفجيرة ومضخات النفط والناقلات النفطية)، من ناحية، وتقديم إغراءات دبلوماسية، من ناحية أخرى، كان أولها الدعوة إلى عقد معاهدات عدم اعتداء مع دول الخليج العربية، ولن يكون آخرها الحديث عن مؤتمر للأمن الإقليمي، والاستعداد للمشاركة في حماية النفط الخليجي.
هذه الاستراتيجية الإيرانية الحالية تتجاوب ضمنياً مع ما هو سائد في دوائر المحللين ورجال الاستخبارات، من الأميركيين والإسرائيليين، حيث تتمحور الأزمة مع إيران حول القضية النووية والتسليح النووي ووسائل استخدامه الصاروخية. هذا الاختصار للأزمة يجعلها كما لو كانت جزءاً من توازن القوى النووي العالمي، أو منع مخالفات لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ويضع إيران في كفة الهند وباكستان وإسرائيل، ولو أنها وحدها التي تتعرض للضغوط «غير العادلة». الصورة التي تأتي من المناظرات حول القضية تجعل من إسرائيل الهدف الرئيسي لبحث إيران عن الأسلحة النووية، ومثل ذلك يخدم الأهداف الإيرانية الأكثر أصالة من زاوية أن إيران تريد أن تكون الفاعل المهيمن على منطقة الخليج، حيث توجد الاحتياطيات العظمى للنفط في العالم؛ إسرائيل هنا ما هي إلا أداة لخدمة الأهداف الإمبريالية الإيرانية في الإقليم. وجاء إعلان إيران عن استئناف برنامجها النووي خلال 60 يوماً، ما لم يتم السماح لها بتصدير مليون ونصف المليون برميل، دليلاً على أن القدرات النووية الإيرانية لم تمس بالاتفاق النووي، ولم يمنع فاعليتها العسكرية أو الاستراتيجية.
فالحقيقة هي أن إيران كانت دوماً تمثل تهديداً خطيراً وحالاً على الأمن الإقليمي الخليجي، منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، لأسباب جيو – سياسية وجيو – استراتيجية. فنظراً لحجمها، وعدد سكانها، وطول شواطئها على الخليج والمحيط الهندي، وما لديها من احتياطيات الغاز والنفط، مضافاً لها إحساس تاريخي بالزعامة الإقليمية؛ كل ذلك خلق ميولاً عدوانية وإمبريالية. «الثورة الإسلامية» في إيران أضافت الكثير من الحماسة لتوجهات طهران الاستراتيجية التي تغلبت فيها على طبيعة الدولة، فكان خلق «الحرس الثوري» الإيراني – الذي يعد منظمة إرهابية – من أجل اختراق الدول المجاورة، ووضعها تحت السيطرة بأدوات داخلية وخارجية. وظهر ذلك في التورط الإيراني في العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن والعديد من الدول الإسلامية والدول الخليجية، مع تطوير القدرات اللازمة للتعامل مع مسارح العمليات المتنوعة. تطوير السلاح النووي كان جزءاً من عملية رفع المكانة الدولية لإيران، وعندما جرت المفاوضات حول هذا السلاح وفق صيغة 5+1، فإن جلوس طهران في مواجهة القوى العظمى والكبرى في العالم أعطاها الكثير، ليس فقط بما وفره لها من أموال، وإنما لما أعطاها من شراكة في إدارة الأزمات الإقليمية التي كانت هي واحدة من أسبابها في المقام الأول. وهكذا عندما قام دونالد ترمب بسحب الموافقة الأميركية على الاتفاق النووي، وأعاد فرض العقوبات، فإن إيران بدأت ما أرادت أن تقوم به، وتحضر له منذ وقت طويل. ومن شواهد ذلك ما جرى من عمليات للتعبئة المالية والعسكرية التي جرت لدى «حزب الله» والحوثيين خلال شهر رمضان المعظم. ووفقاً لتقدير استراتيجي نشره «مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة»، في 16 مايو (أيار) المنصرم، «نهب ممنهج: كيف تستغل ميليشيا الحوثي شهر رمضان في تمويل الحرب؟»، فإن ميليشيا الحوثي قامت بفرض زكاة مضاعفة على السكان في اليمن (ما بين 300 و500 ريال)، وطالبت الجمعيات الخيرية بتقديم 30 في المائة من مواردها «للمجهود الحربي»، ورفع أسعار الوقود في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الحوثية بنسبة 40 في المائة، وفرض رسوم إضافية على السلع القادمة من منافذ ومحافظات أخرى إلى صنعاء: «وبالتوازي مع ذلك، يستولي الحوثيون على المساعدات الموجهة لعدد من المناطق اليمنية».
كانت ميليشيا الحوثي تستعد للحرب، بدءاً من التلاعب باتفاقية الحديدة، وإطلاق الصواريخ على مناطق مدنية، وانتهاءً بالهجمات المباشرة على النفط وناقلاته وموانيه، وفي كل ذلك كان الاستخدام لصواريخ وأسلحة إيرانية الصنع، وجرى استخدامها بعد التدريب من «الحرس الثوري» و«حزب الله». مواجهة ذلك تدور في نطاق التفكير الاستراتيجي، الذي يرفض القبول باستمرار الأمر الواقع، فالمتوقع أن إيران تحاول أن تجعل من دول الخليج رهينة في تعاملاتها مع الولايات المتحدة، وفي سبيل ذلك، فإن استخدام الحوثيين متوقع تزايده باستخدام أنواع جديدة من الصواريخ الإيرانية التكتيكية، ولا يمكن استبعاد الاستخدام الكثيف من قبل إيران لعلاقاتها مع التنظيمات الإرهابية، كما لا يستبعد، طبقاً لتطورات الأزمة، استمرارها في تهديد مضيقي هرمز وباب المندب، سواءً بقطع بحرية، أو بما استخدمته سابقاً من ألغام. وإذا كان الأمر الواقع لا يمكن القبول باستمراره، فإن البحث عن خيارات أخرى يصبح واجباً، وما جرى حتى الآن، وفي قمم مكة الثلاث، طرح أنه لا أحد يريد حرباً إضافية في المنطقة التي عانت من الحرب طوال العقد الحالي، كما طرح أيضاً أن العلاقات الخليجية – الإيرانية ينبغي أن تقوم على مبادئ حسن الجوار. ما جرى حتى الآن هو أن إيران لا تتبع أياً من مبادئ حسن الجوار، وهناك أمور لا بد من أخذها في الاعتبار، وهي أن توازن القوى العسكري ليس في صالح إيران، ولا كذلك توازن القوى الاقتصادي، وإيران من حيث الجوهر دولة أعيتها الحروب الطويلة، وسوء الإدارة، وتعدد الأعراق والملل التي تخضع كلها لهيمنة فارسية تسيطر باسم الدين.
*نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”، نشر بتاريخ ١٩ يونيو ٢٠١٩.