تندر الفرص التي يلتقي فيها الباحثون و المثقفون العرب و نظرائهم من الدول الأخر لمناقشة القضايا التى تهم أمتهم و العالم، و أحد هذه الفرص هو منتدى أصيلة، و الذى يعقد سنويا بالمملكة المغربية و منذ أكثر من أربعين عاما تحت إشراف محمد بن عيسى، وزير الخارجية و الثقافة السابق، و المثقف المستنير، و أحد رموز القوة الناعمة المغربية و العربية.
منتدى أصيلة افتتح دورته لهذا العام بندوة تحت عنوان عبء الديمقراطية و كيفية الخلاص، استهدفت مناقشة طبيعة التحديات التى تواجه النظم الديمقراطية و خاصة مع تصاعد نفوذ القوى اليمينية المتطرفة، و ما هو شكل المستقبل الديمقراطي.
طبيعة الموضوع خلقت حالة من الجدل و خاصة بين المثقفين العرب حول ما إذا كانت الديمقراطية تصلح للتطبيق فى مجتمعاتهم، حيث أيدها البعض، فى حين اعتبرها البعض الأخر موروثا غربيا لا يصلح للبيئة العربية، و فرق البعض الثالث بين الديمقراطية كآلية انتخابية مقبولة و الليبرالية كمشروع سياسى عليه بعض التحفظات.
النقاش بين الحضور تناول العديد من القضايا الأخرى، و يمكن تلخيص أهمها فى المحاور الثلاثة التالية.
المحور الأول تعلق بفكرة أن الديمقراطيات الغربية تواجه اليوم عددا من التحديات تتعلق بالآلية، و كذلك بالمشروع السياسى و الاقتصادى الليبرالى.
فألآلية الانتخابية لم تعد تأتي للحكم بأفضل العناصر وأكثرها خبرة كما نشهد فى العديد من دول العالم، و يضاف لذلك التحديات المتعلقة بزيادة دور المال فى العملية الانتخابية، و حالة اللامبالاة وانخفاض نسب المشاركة فى التصويت، و تراجع دور الأحزاب التقليدية و ظهور أحزاب جديدة قبل الانتخابات بأسابيع تستطيع الحصول على الأغلبية ثم تتلاشى بعد ذلك، و تزايد فرص فوز المرشحين المستقلين عن الحزبيين، بالإضافة لتراجع فكرة الديمقراطية النيابية، أو قبول الناخب أن يكون له نائب فى البرلمان يعبر عنه، حيث يرى المواطن أنه يستطيع أن يعبر عن رأيه مباشرة و من خلال أدوات تكنولوجيا الاتصال و دون الحاجة لوسيط أو نائب.
أما التحديات التى تتعلق بالمشروع الليبرالى و التى ظهرت فى السنوات الأخيرة فترتبط تزايد الفجوة الاقتصادية و هوة العدالة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء نتيجة للعولمة الإقتصادية، و التفاوت فى النمو بين المناطق الجغرافية المختلفة داخل الدولة الواحدة و خاصة بين المدن والريف، والمركز والهامش، مما جعل سكان الريف و الهامش يثورون على أهل المدن و المركز كما شاهدنا فى مظاهرات السترات الصفراء بفرنسا. يضاف لذلك تراجع القيم الليبرالية المتعلقة بالتسامح والقبول بالأخر، و تراجع الوسط السياسي، و تنامى قوى التطرف من أقصى اليمين وأقصى اليسار.
المحور الثانى فى النقاش تعلق بالبدائل المطروحة للديمقراطية و هنا تمت الإشارة الى نهاية مقولة نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية، حيث يوجد الآن على الساحة عددا من الأفكار و النظم السياسية تطرح نفسها كبديل، مثل الصين، و التى تتبنى نظاما لتجنيد الحكام يقوم على فكرة الكفاءة و ليس الانتخاب، حيث يتم اختيار المسئولين من خلال اختبارات تقيس القدرات، و يتم الترقى فى النظام استنادا للقدرة على الإنجاز و ليس من خلال الانتخاب و الإرادة الشعبية. كما تطرح الصين نفسها كنموذج مختلف عن النموذج الليبرالي فى تبنى دور مختلف للدولة، و إعطاء أولوية لحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية على الحقوق السياسية.
أما المحور الثالث فتعلق بكيفية تطوير الديمقراطية الليبرالية، و هنا طرحت العديد من الأفكار أهمها ضرورة إتاحة فرصة أكبر لمشاركة المواطن مباشرة فى عملية صنع القرار من خلال الاستفتاءات على سبيل المثال و التى يصوت فيها بنفسه و ليس من خلال نائبة فى البرلمان، و كذلك الاستفادة بشكل أكبر من تكنولوجيا الاتصال فى زيادة مشاركة المواطن والتواصل معه من خلال ما أصبح يعرف بالديمقراطية الرقمية. أما الاقتراح الثانى فتعلق بزيادة دور المحليات سواء فى المشاركة السياسية أو التنمية الاقتصادية، باعتبارها الأقرب للمواطن و الأكثر قدرة على حل مشاكله، و القضاء على الاغتراب و الفجوة مع المركز.
و أخيرا وبالرغم من التركيز فى النقاش على عبء الديمقراطية و بدائلها، فإن الحديث لم يخل من الإشارة فضائلها، وخاصة قدرتها على تجديد نفسها و تصحيح أخطائها.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ٢٨ يونيو ٢٠١٩.