مساء 19 أغسطس 2019، كان القيادي التنظيمي الدولي “إبراهيم منير” يُجري اتصالًا من مكتبه في العاصمة البريطانية لندن، الاتصال كان مع قناة “الجزيرة” القطرية، ولكون الرجل هو نائب المرشد العام للتنظيم فإنه كان أول المتحدثين تعليقًا على ما عنوانه “رسالة من الشباب المعتقلين إلى قيادات جماعة الإخوان”، ولأنه الرجل الأول غير المسجون في تنظيمه الدولي، ولكونه الذي يتصدر مشهد التنظيم رسميًّا على خارطة العالم؛ فإنه يحرص على الحديث من خانة المُسيطر على كل مقاليد الدين والحياة، والقادر على أن يشطب أوجاع آلاف الأسر التي ضحّى بذويها بممحاة تصريح (هذه قطعًا رسالة أمنية الصناعة والتسويق – نحن لا نساوم على ديننا وعقيدتنا – الباب مفتوح لمن يريد أن يكفر بالإخوان ليخرج من السجون – الجماعة ثابتة ولن تتراجع)، صرح نائب المرشد وغادر حوار الهواء الذي امتد ليشمل ضيوفًا من ألوان الفعل التنظيمي (العلني والسياسي والمسلح) جميعهم يتصدرون مشهد التعليق من الأراضي التركية. لكن ما بعد إغلاق الإخواني العجوز خط الهاتف، تجاوز بحسب فهم وتاريخ كاتب هذه الأسطر مع التنظيم الذي امتد أكثر من عقدين بثلاثة أعوام، يؤكد أن القلق البادي على لهجة الرجل، وما استتبعه من اجترار عبارات المظلومية التنظيمية القديمة ونهاية عصر الرئيس الأسبق “جمال عبدالناصر”؛ جميعها مؤشرات تشير إلى مأزق حقيقي يعيشه رأس التنظيم فردًا ومجموعًا، وبالتأكيد لم يُفلح مشروب مساعده “إبراهيم الإبياري” في تخفيف حدة تكرار السؤال المصيري الذي يواجه “منير” وكل قيادات تنظيم الإخوان القديمة: ماذا سيكون مصيرنا إذا انفرط عقد التنظيم وتناثرت حبات قواعده؟.
فجر يوم 14 أغسطس 2013، كانت الأنباء المؤكدة لدى غرفة عمليات تجمع رابعة العدوية تجزم بأن السلطات قد حسمت قرارها بالفض تراضيًا أو بالقوة. وعبر وسطاء تنظيميين يلعبون دور “ضباط الاتصال” مع السلطات المصرية تم حسم المعلومات المتواترة، وكان قرار إدارة التخطيط بالتنظيم (أمانة لجنة التنمية الإدارية) هو ضرورة الفض الفوري، وهو ما استتبع أن انقلبت عليهم الإدارة العلنية للمنصة، واتهمتهم بالخيانة والعمالة وصولًا إلى “القبض من الحكومة مقابل إصدار هذا القرار”. حينها كان صوتُ “صفوت حجازي” عاليًا وهو يقول لهم: “إذهبوا وقولوا للإخوان ذلك على المنصة وشوفوا ردهم”. وحين تعالت الأصوات محذرة من حجم الدماء التي ستُراق كان تعليق مفتي الاعتصام “صلاح سلطان”: “كلما زاد الدم زادت دوائر التعاطف والثأر، فلا يهنأ النظام على الاستقرار”. بعدها مباشرة كان صوت “حجازي” و”سلطان” مدويًّا عبر مكبرات الصوت: “يا عشاق الشهادة هذا هو وقتها”، قالاها وخرجا عبر الممرات الآمنة تاركين خلفهم مغدورين سيقوا إلى حتفهم مُخَدّرين بخدر تنظيمي خالص عنوانه “الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.
فجر 14 أغسطس 2019، كان يُشرق بعد ست سنوات من البُكائية التنظيمية المُعاصرة (رابعة)، وبينما كانت ماكينة التنظيم الدولي تتحرك عبر أرجاء بؤرها الساخنة في تركيا ولندن وقطر وألمانيا وأمريكا لإحياء ذكرى بكائيتهم، كانت صفحات شباب التنظيم ممن عاينوا الحدث تزخر بشهادات جديدة عما كان في كواليس الفض وهروب القيادات ودور (البناية الشهيرة تحت الإنشاء حينها) والتي كانت معروفة بعمارة (المنايفة) في بداية القصف وإلقاء أسطوانات “البوتاجاز” على قوات الأمن، والشهادات لم تنتهِ بما حدث في رابعة، بل امتدت لتشمل ما تم من فعاليات “إسقاط الدولة” بالتزامن مع فض الاعتصام، والتي كان أشهرها أحداث رمسيس ومسجد الفتح بالقاهرة والتي يتحمل مسئوليتها القيادي “صلاح سلطان” وأحداث محطة الرمل بالإسكندرية التي يتحمل مسئوليتها القيادي “مدحت الحداد”.
هذه الشهادات التي خرجت من معايني الأحداث لم تأتِ من فراغ التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ وإنما امتلكت جرأة الخروج من وعي أصحابها إلى العلن بعدما بات الاعتراف بمرارة الوجع أهون بكثير من الاستمرار في وهم العافية و”عودة الشرعية”.
منذ نهاية يوم 14 أغسطس 2013، بدأ التنظيم الدولي للإخوان مرحلة الاستغناء عن رمزية حضوره الرسمي المصري على خارطة العالم، بحضور علني مباشر للقيادة الدولية وكذا القيادات القُطْريّة، واستبدلت العاصمة المصرية القاهرة بلندن وإلى جوارها مراكز ثقل حاضرة في كلٍ من إسطنبول وأنقرة والدوحة، فضلًا عن مساحات حركة للقيادات الأولى والثانية والثالثة عبر أوروبا وأمريكا، وهو ما خلق خلال ست سنوات أجيالًا جديدة من القيادات التنظيمية التي نما حضورها التنظيمي ونجوميتها وثرواتها عبر “تجارة الأزمة المصرية الإخوانية”، وهو ما يعني أن ظهور أية مؤشرات لانجلاء أزمة إخوان مصر يمثل تهديدًا لبقاء هذه الأجيال الجديدة، فضلًا عن مصالحها، وهو ما يستلزم مثلًا أن تبقى القوائم النهائية لمن لقوا حتفهم في “رابعة” مجهولة الحصر بما يجعلها مشاعًا لكل تكهن، وكذا قوائم من يزعم التنظيم (اختفاءهم قسريًّا على يد السلطات المصرية الأمنية)، ومثلها قوائم حصر السجناء عمومًا أو من يروج التنظيم لتعرضهن لحالات اغتصاب أثناء الاحتجاز. هذه الإحصاءات وغيرها من ملامح حالة الأزمة الإخوانية المصرية، كلما بقيت مجهّلة تظل مادة قابلة للتضخيم والمُتاجرة.
في أغسطس من عام 2016، سطر “عبدالكريم عبدالمقصود”، أحد مواطني محافظة البحيرة، رسالة إلى كاتب هذه الأسطر باعتباره من نفس المحافظة، كانت تحوي نداءً إنسانيًّا من أب طاعن في السن أُلقي القبض على نجله الأكبر (محمد: 27 سنة) أثناء وقفة احتجاجية للإخوان على أحد الطرق الفرعية الزراعية، ظل الابن حبيسًا على ذمة قضية حتى أُخلي سبيله بعد ستة أشهر، خرج بعدها مُتخليًا عن كل علاقة له بالإخوان، وعازمًا على أن ينصب جهد حياته على السعي في ورشة النجارة التي يملكها. دارت الأيام حتى أُلقي القبض عليه مرة أخرى بعد وشاية بمشاركته في مظاهرة إخوانية، وكان كل أمل الأب أن يلقى ابنه المساعدة للنجاة من دفع فاتورة ذنب غادره وتاب. يقول الأب رقيق الحال، حضر إليَّ المحامي الإخواني الذي يتولى أمر هذه القضايا، وطمأن قلب الأب، مؤكدًا أن التحريات تؤكد براءته، وأنه بمجرد مثوله أمام القاضي سيتم الإفراج عنه إلى حين النطق بالحكم. وصباح يوم جلسة نظر القضية ذهب الأب العجوز وحضر الابن البريء فيما هرب المشاركون الفعليون في المظاهرة، ولم يحضر محامي الإخوان، وهو ما ترتب عليه أن قرر القاضي حبس الشاب إلى حين جلسة النطق بالحكم. وفي عصر اليوم نفسه كانت تقارير اللجان الحقوقية للإخوان تنشر خبر حبس الشاب لترفع به إحصاءات من تقول إنهم “معتلقون”!. وفي لقائنا بعدما برأته المحكمة قال: “أول تجربة سجن كانت الصدمة في كل الشعارات التي كنا نسمعها ونرددها، حينها قررت أني مهما طال بي البقاء في السجن فبعد أن أخرج لن أعود إليه، وقررت أن أرتاد المقاهي وأدخن ليعلم الناس أني خلاص مش من الإخوان”. زادت صدمته كثيرًا عندما حدثته عن أوضاع القيادات في الخارج وفي السجون، وكانت صدمته أكبر عندما شاهد جلسات سمر شباب الإخوان في قطر وتركيا ولندن وما فيها من أدخنة متنوعة!.
في بداية ربيع 2012، كان آخر لقاء جمعني بالمهندس الزراعي الراحل “محسن عبدالفتاح القويعي”، الذي كان مؤسس البعث الإخواني الحديث في محافظة البحيرة سنة 1971، وأول من بايع الإخوان ودار مُجنِّدًا عناصر جديدة للتنظيم من ربوع المحافظة. في هذا اللقاء كان الرجل يبوح بوح الموجوع، وكان صاحب قلبٍ عليل، ولتوه كان قد أعلن خروجه من تنظيم الإخوان، قال: “حين سافرت مع الإخوان إلى اليمن أول الثمانينيات كنت مصدقًا تمامًا، وهناك كانت أول صدماتي في القيادات وعلى رأسهم خيرت الشاطر ومحمود عزت ومحمد البحيري، وحينها عولت على العوار شخصي، ولكني حين سُجنتُ معهم في قضية 1995 عسكرية أيقنت أن العوار منهجي في التنظيم”. وأضاف بزفرة حارة: “السجن فاضح”. وردًّا على سؤال: “ما الذي أخر قرارك كل هذه الفترة؟”، أجاب الرجل بمرارة: “الأبواب دومًا مغلقة والسؤال الذي نواجه به أنفسنا إلى أين نذهب وكيف نستثمر طاقاتنا، كان هذا أيام مبارك، لكن بعد 2011 صار هناك أمل في أبوابٍ تُوارَب”.
خلال الأعوام الستة الماضية شهدت السجون المصرية حالات من المواجهات التي وصلت لحد الالتحام بين قيادات تنظيمية تابعة للإدارة الرسمية وبين قيادات تنظيمة قاعدية، وتطورت إلى تراشق الاتهامات وتبادل الدعوات بالهلاك والثبور، وربما كان أشهرها ما كان بين أحد القيادات الإخوانية البرلمانية الجماهيرية في جنوب القاهرة وبين عضو مكتب إداري جنوب “وائل طلب” والمحسوب على “خيرت الشاطر”، وانتهت بنقل الأخير إلى عنبر آخر. أما عن المواجهات بين القواعد الشابة التنظيمية والمتعاطفة وبين قيادات التنظيم فهو إجراء طبيعي يتم بصفة مستمرة، وكان أشهرها الوصول إلى حد التراشق اللفظي النابي مع “خيرت الشاطر” حين أنكر معرفته بالشباب المقبوض عليهم في الخلية المعروفة إعلاميًّا بـ”مجموعة خيرت الشاطر”.
ست سنواتٍ مضت على صناعة لطمية (رابعة)، أنتجت شرائح متعددة من المسجونين على ذمة قضايا مختلفة؛ الأولى هي شريحة القيادة التنظيمية الرسمية والرمزية، والثانية هي شريحة المجموعات النوعية المسلحة بغض النظر عن التسمية التي تعمل تحت لوائها، وكلاهما لا يتجاوز إعلان مراجعته لمواقفه حد التقية المرحلية لتجاوز حالة الاستضعاف. أما الثالثة فهي الشريحة التي استهدفتها غرفة عمليات رابعة حين قال قائلها: “كلما زاد الدم زادت دوائر التعاطف والثأر فلا يهنأ النظام على الاستقرار”، هؤلاء طيفٌ عام متنوع فيه التنظيمي الذي أصابته جرثومة الفكرة فانسحق، وفيه المُحب الذي حركته عاطفته الدينية أو الوطنية أو حتى الشخصية تعاطفًا مع من راح ضحية أو أُصيب، ومنهم من ساقته أقداره إلى ساحات مواجهات فراح مع حشود تفر وانتهى به المطاف في السجن، هذه الشريحة الأخيرة هي السواد الأكبر الذي عاين كيّ السجن لعلل جراثيم أفكار الإخوان، حتى صَدَّرَ رسالته إلى قيادات الإخوان واصفًا الحال: “باتت العورات مكشوفة، وسُجِن الشباب مع الشيوخ، ورأى الرجل عوار أخيه، واحتدمت المشاكل الصغيرة وكبرت، وبرزت الاختلافات الفكرية بين الشيوخ والشباب، حتى إن الشباب أصبح لا يرى من الشيوخ والقيادات إلا سجنًا داخل السجن، رأينا من القيادات داخل السجون العجب العُجاب، شعارات كاذبة، ثبات مزيف، وادعاءات لا تمت للحقيقة ولا الواقع بصلة، تَقَمّص للتحمل والصبر، وهم أول المتعبين وأشد المنهكين، واليأس تمكَّن منهم كما تمكن منا، ولكن هيهات للمكابرة أن تفنى منهم، فأصبحوا يخسرون يومًا بعد يوم من شعبيتهم وشبابهم ومحبيهم، وباتت السجون التي كانت تطلق الجماعة عليها وصف معسكرات إيمانية خسارة كبيرة للجماعة، تستهلك أفرادها وتُفنِي شبابها، وتفقدهم الثقة فيهم”.
منذ بداية عام 2019 ومجموعات واسعة من الشباب السجناء على ذمم قضايا لها علاقة بالإخوان بدأوا حالات نقاش أخذت في الاتساع بحثًا عن مخرج، ووصل إلى كاتب هذه الأسطر عدد من الأوراق التي تحمل رسالة إلى متصدري مشهد إدارة التنظيم الإخواني مفادها: “إننا نحن شباب المعتقلات، إخوانًا وغير إخوان، ندعو جميع قيادات جماعة الإخوان المسلمين داخل وخارج سجون وحدود مصر، أن يتحركوا بكل ما أوتوا من قوة تجاه حل لأزمتهم مع النظام في مصر، وألا يترددوا في أخذ خطوة للوراء تحفظ لهم ما تبقى من بقايا جماعة، وتحفظ عليهم القليل القليل ممن تبقى من شبابهم، وأيضًا ليحفظوا لنا أعمارنا ومستقبلنا وحاضرنا، وما تبقى من كرامتنا وإنسانيتنا”. وتبلورت النقاشات في مناخٍ من التهديد والتخوين والإقصاء والحروب النفسية داخل السجون من جانب قيادات التنظيم الرسمية، حتى انتهت إلى مبادرة وقعها 1350 سجينًا، تصدرها أهم بنودها الذي ينص على “أن عددًا كبيرًا جدًّا من المعتقلين قد وَعَوْا الدرس، وأدركوا في ظلمات السجون ما لم يدركوه في شوارع وطنهم، وهم على أتم الاستعداد لمراجعة مواقفهم، وقد علمتهم المحنة قيمة حريتهم، وهم يأملون في فرصة جديدة يعملون فيها على الالتحام مجددًا بنسيج مجتمعهم، والتعايش بسلام تام مع أبناء وطنهم، وبلا تدخل في الشأن العام نهائيًّا، والمساعدة في بناء بلدهم بالقدر والشكل الذي يخدم مصالح الوطن العليا، بعيدًا عن أي صراع فكري أو سياسي”.
الواقع أن الحضور التنظيمي وانتشار جراثيمه بات قضية تؤرق المصير العربي والإسلامي والإنساني، وهو ما يعني تطوير أدوات المواجهة للإرهاب، بما يُتيح كل الفرص لاحتواء من طالته جراثيمه، وهو جهد تلزمه مسارات إعادة تأهيل إنساني ومعرفي ومهاري واجتماعي يعمل على إزالة عوارض الجراثيم، واجتثاث كل أثر لها في النفوس، وتحصين الوعي لينهض إنسانيًّا في مواجهة تحديات البقاء. إنه الجهد اللازم مع كل عائد إلى رحاب إنسانيته، فحقيقة التجارب التاريخية أثبتت أن كل جولات حروب التطرف وتنظيماته استحالت مخدِّرًا مرحليًّا، لأنها لم تصنع مناخ استيعاب المصابين بجراثيمه. إن مواجهة سجناء التنظيم الفاضحة لموقف قيادات الإخوان تمنحنا العديد من الفرص السانحة لبناء مجتمع قادم يملك من قوة التسامح الواعي ما يؤهله للبذل في سبيل إنقاذ من يسعى للنجاة من جراثيم عقائد ومناهج وأفكار تطرف تغذت على وعي أبنائنا حين غفلنا عن صيانته.