كان الركود قد ضرب الحضارة الإسلامية منذ عدة قرون بينما العالم يتغير بسرعة على الجانب الآخر. كانت الهوة تتسع بين العالمين، إلا أننا لم نلحظ الهوة التي زادت اتساعا كل يوم. كان المشايخ قانعون بالأفكار الموروثة؛ والمماليك مشغولون بالصراع على السلطة وجمع الخراج من الفلاحين والأسواق. فقد بدأت الفجوة بين الشرق والغرب في الظهور في القرن السابع عشر، فيما تم توسيعها وترسيخها في القرن الثامن عشر، فما إن حلت نهاية هذا القرن إلا وكان الفرنسيون يدخلون القاهرة، التي لم تعد محروسة إلا إسما.
الحديث عن الهوة التي ولدت بين الشرق والغرب في ذلك الوقت ليس من قبيل جلد الذات أو الشعور بالدونية، وإنما تذكرة بسؤال النهضة الذي يتجاهله البعض، ويستخف به البعض الآخر؛ لكن أصحاب العقول النابهة مازالوا يبحثون عن إجابته، متسائلين عن أسباب نهوض الدولة الاقتصاد والمجتمع والمعرفة في أوربا، فيما دخل مجتمعنا في ركود طويل.
في القرن السابع عشر أرسى الأوربيون أسس المعارف العلمية الحديثة، ومبادئ التفكير العلمي المنضبط؛ وفي القرن الثامن عشر أحدث تطبيق هذه الأسس على نطاق واسع أول ثورة علمية وتكنولوجية في العصر الحديث. طبق الأوربيون الأساليب الجديدة، فاكتشفوا معادن ومواد لم تكن معروفة من قبل، مثل الكوبالت والنيكل والتنجستين. كان الهولندي فان هيلمونت قد صك في القرن السابع عشر الغاز كمصطلح يشير به إلى مواد تشبه الهواء، ولكنها تختلف عنه. أما في القرن الثامن عشر فقد تمكن العلماء من عزل غازات الأكسيجين وثاني أكسيد الكربون والهيدروجين؛ وبنهاية القرن، في عام 1800، نجح الإيطالي أليساندرو فولتا في توليد الكهرباء من تفاعل كيميائي، فاخترع أول بطارية كهرباء في تاريخ البشرية؛ وتم توظيف كل هذه الاكتشافات والمعارف في الثورة الصناعية التي لاحت بشائرها، قبل أن تزدهر في القرن التالي، لتنتج للأوربيين أسلحة ذات قوة تدمير هائلة، استخدموها في إخضاع بلادنا.
حدث كل هذا التقدم في فرع علمي واحد هو الكيمياء، فيما كانت فروع العلم الأخرى تحقق تقدما مماثلا؛ أما في مجالات الفكر والسياسة والفلسفة، فقد كانت أوروبا تقتحم عصر التنوير، فيما كانت مجتمعاتنا عند نفس الوضع الذي كانت عليه قبل ألف عام.
نشر علماء أوروبا عددا كبيرا جدا من الكتب والرسائل التي تضمنت اكتشافاتهم واختراعاتهم، حتى أن الدارسين يواجهون صعوبة كبيرة في حصر الكتب والرسائل التي تم نشرها في أوربا في ذلك القرن، وإن كانوا يقدرونها بمئات الآلاف، فقد سهل استخدام المطبعة تأليف الكتب ونشرها وتداولها، كما شجع الحوار الفكري والعلمي على إنتاج المزيد من الأفكار والمطبوعات. فما الذي كان يحدث في مصر في ذلك القرن؟
في دارسته عن الفكر المصري في القرن الثامن عشر، حصر الدكتور عبد الله العزباوي 1061 كتابا ألفها مصريون في القرن الثامن عشر. كان التأليف محدودا، والقراءة أكثر محدودية بكثير، فقد حرم مشايخ السلطنة العثمانية استخدام المطبعة، ولم يكن هناك مفر من نسخ المؤلفات بأقلام النساخين، بكل ما ينطوي عليه ذلك من أخطاء التصحيف والتحريف، وما صنعة التحقيق سوى فن فرز الغث من السمين في موروث الكتب المنسوخة. أفتى المفتي العثماني الأكبر باستخدام المطبعة في عام 1729، شريطة عدم استخدامها في طباعة القرآن، لكن المطبعة لم تدخل مصر فعليا إلا لفترة قصيرة مع حملة نابليون، وبعد ذلك في 1819 عندما أمر محمد علي بإنشاء المطبعة الأميرية.
1061 كتابا ألفها المصريون في القرن الثامن عشر، أكثر من ثمانين في المائة منها في مجالات التفسير والحديث والفقه والمواريث والتوحيد والتصوف والنحو والبلاغة واللغة والمعاجم. العشرين بالمائة الباقية توزعت بين فروع المنطق والحكمة والرياضيات والفلك والطب والكيمياء والتاريخ. كانت طائفة العلماء والباحثين في أوربا قد انفصلت عن رجال الدين منذ ثلاثة قرون، غير أن شيئا من هذا لم يحدث عندنا، فكان علماء الدين – في أغلب الأحيان – يؤلفون في التفسير والحديث والتوحيد، كما يؤلفون في الطب والكيمياء والمنطق والفلك؛ وكانت مؤلفاتهم في أغلب هذه المجالات امتدادا للمعارف والبحوث الدينية. فدراسة المنطق ضرورية لدراسة التوحيد والعقائد؛ والفلك كان ضروريا لتعيين بدايات الشهور العربية ومواقيت الفرائض؛ والرياضيات والمواريث هي علوم مترابطة، وهكذا.
أكثر مؤلفات القرن الثامن عشر في بلادنا هي شروح لمؤلفات قديمة؛ وسواء كانت المؤلفات شروحا أو لم تكن، فإنها لم تضم جديدا يعتد به، فالتكرار والحشو هو المبتدأ والخبر؛ وأرجو ألا تذهب بعيدا بخيالك عندما تسمع عن كتب في الطب أو الكيمياء، فما ورد في هذه الكتب منبت الصلة بما نعرفه اليوم عن هذه العلوم. خذ مثلا ما كتبه الشيخ أحمد الدمنهوري في كتابه “الدرة اليتيمة في الصنعة الكريمة”، وهو كتاب في الكيمياء جاء فيه “أن الحكماء المتقدمين لما اشتغلوا بهذه الصناعة بحثوا عن طبايع الأجساد السبعة فأجمعوا على أن الذهب حار رطب في ظاهره، وبارد يابس في باطنه، معتدل في الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة؛ والفضة باردة يابسة في ظاهرها، حارة رطبة في باطنها، إلا أنها مايلة عن الاعتدال إلى الرطوبة واليبس؛ الحديد بارد يابس في ظاهره، حار رطب في باطنه، إلا أنه مايل عن الاعتدال إلى شدة اليبس والبرودة؛…”. أشك أنك فهمت شيئا ذا معنى من هذا المقتطف، أو أنك تجد فيه معرفة يمكن البناء عليها وتطويرها، فهو مجرد لغو فارغ.
فيما كان الغرب ينهض بسرعة في القرن الثامن عشر، بدت مجتمعاتنا عاجزة عن إنتاج التقدم، كما لو كانت قد دخلت في دائرة مفرغة، تجبرها على المشي في المحل، بلا أي حركة لأعلى أو إلى الأمام. مازال البحث جار عن سبب فخ الركود الذي وقعنا فيه، لكن المؤكد هو أن الأفكار والفنون الطازجة القادمة من خارج نطاق دائرة الشرق المغلقة وفرت الطاقة اللازمة لدفع مجتمعاتنا خارج هذا الفخ، والأرجح أن مجتمعاتنا مازالت في حاجة للمزيد من هذا المدد مادامت تعاني قصورا في القدرة الذاتية على التقدم.
نقلا عن جريدة الأهرام، ٢٠ فبراير ٢٠٢٠.