منذ عقود طويلة درج منظرو العلوم السياسية على تصنيف وحدات المجتمع الدولي بناء على مدى اقترابها أو بعدها من معايير الأنظمة “الديمقراطية”. وتطور في هذا الإطار مجموعة من المؤشرات، يتحدد بناء عليها موقع كل دولة على خط مستقيم ومتصل بين دول “ديمقراطية” كاملة، وأخرى “سلطوية” كاملة. وتفاوتت المؤشرات المعتمدة في هذا التصنيفات، حيث اعتمد بعضها عددا محدودا من المؤشرات الفرعية، بينما مال بعضها الآخر إلى اعتماد عدد أكبر نسبيا من المؤشرات الفرعية بهدف بناء مؤشر أكثر “تركيبا”، بهدف الوصول إلى تقييم أكثر دقة لحالة الديمقراطية في العالم. من أبرز هذه المؤشرات مؤشر Polity الذي يجريه Center for Systemic Peace، ومؤشر Freedom House، والذي يركز على قياس حالتي الحقوق السياسية والحريات المدنية في كل دولة، ومؤشر “الحوكمة” Governance index الذي تقدمة مجموعة البنك الدولي، وغيرها من.
ورغم التفاوت بين هذه المؤشرات فيما يتعلق بطبيعة وعدد المؤشرات الفرعية المستخدمة، لكن ما جمع بينها، أولا، هو انحيازها لمفهوم الديمقراطية بمعناها الغربي، ومركزية قضية الحريات السياسية والمدنية كمؤشرات فرعية في بناء هذه المؤشرات. كما جمع بينها، ثانيا، هيمنة المؤسسات الغربية (الأمريكية والأوروبية) في بناء هذه المؤشرات، ما أدى إلى خضوع بعضها لدرجة من “التسييس”. ورغم توجيه بعض الانتقادات لطريقة بناء هذه المؤشرات، وعمليات “التسييس” تلك، لكن هذه الانتقادات لم تمثل تحديا حقيقيا لها، ما أدى إلى استمرارها حتى الآن، بل وتحولها إلى مدخلات مهمة في صناعة قرارات دولية، مثل تحديد جهات الاستثمار الأجنبي، والسياحة، والمساعدات الدولية، والقروض.. إلخ.
هذا الاستقرار الذي حظيت به هذه المؤشرات وقواعد تصنيف الأنظمة السياسية قد يتعرض بفعل أزمة “كوفيد-19” لهزة كبيرة خلال المرحلة القادمة. فقد أثارت هذه الأزمة سؤالا مهما حول العلاقة بين طبيعة الأنظمة السياسية، من ناحية، وكفاءة إدارة هذا النمط من الأزمات، من ناحية أخرى. بمعنى آخر بات هناك سؤال مهم: هل توجد علاقة محددة بين طبيعة النظام السياسي (ديمقراطي- غير ديمقراطي) وكفاءة إدارة هذا النمط من الأزمات؟ لدينا هناك فئتان، الأولى تمثلها الصين ذات النظام الشيوعي (غير الديمقراطي وفقا للتصنيفات المعمول بها)، ومعها عدد من الدول ذات الاقتصادات الناشئة التي تحتل مواقع مختلفة على مؤشرات الديمقراطية. الفئة الثانية، هي الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والتي تحتل مراكز متقدمة على مؤشرات الديمقراطية. الصين، استطاعت السيطرة على الأزمة واحتوائها، على مختلف المستويات، وذلك في ظل اقتصاد يتسم بدرجة كبيرة من التشبيك على المستويين المحلي والعالمي، وحجم سكان ضخم (1.4 مليار نسمة)، وتركيب ديموغرافي يتسم بارتفاع نسبة الشرائح العمرية المتقدمة التي تبلغ 65 سنة فأكثر (11.4%). ومعها أيضا الاقتصادات الناشئة التي استطاعت تحقيق أداءات جيدة في إدارة الأزمة. في المقابل، اتسم أداء الفئة الثانية بالتواضع الشديد.
تفسير هذا التباين بين الخبرتين يحتاج إلى دراسة أكثر تعمقا، كما يتطلب إدخال متغيرات عديدة في الاعتبار، لكنه سيفتح المجال أمام إعادة النظر في مركزية قضية الديمقراطية كمعيار مركزي في تصنيف الأنظمة السياسية، في اتجاه إعطاء وزن أكبر لمعايير أكثر وظيفية في عملية التصنيف. طبيعة أزمة “كوفيد-19″، لم تؤد فقط إلى تراجع الأهمية النسبية لقضية الديمقراطية في مثل هذه اللحظات التاريخية الفارقة في حياة المجتمعات الإنسانية، لكنها كشفت أيضا عن خطورة الإفراط في مسألة الحريات الفردية، والتي تحولت إلى أحد القيود التي قوضت من فعالية الإجراءات الحكومية المتخذة لمواجهة الأزمة، وأبطأت من سرعة هذه الإجراءات. الأهم أيضا أن الأزمة أعادت هذه المجتمعات إلى طرح سؤال أولي حول الوظيفة النهائية للأنظمة السياسية؛ ففي الوقت الذي أوغلت فيه هذه الأنظمة في مسألة الحريات الإنسانية (السياسية والمدنية)، وسعت إلى تطوير مؤشرات نوعية (مثل مؤشر السعادة العالمي) لكنها في لحظة الأزمة لم تجد حرجا في التعامل مع أحد أهم هذه الحقوق -وهو الحق في الحياة- وفق حسابات مادية وانتقائية، وربما تمييزية، ضد الشرائح الأكبر سنا بسبب تراجع احتمالات الشفاء من المرض داخل هذه الشريحة. لكن بعيدا عن هذه الأسئلة الفلسفية، فإن الأزمة كشفت عن عدم تأهل هذه الأنظمة -رغم ما احتلته من مراكز متقدمة على مؤشرات الديمقراطية- للتعامل مع هذا النوع من الأزمات، وضعف أنظمتها الوظيفية، وعلى رأسها الأنظمة الصحية.
أزمة “كوفيد-19” ستفتح الباب واسعا أمام نقاش كبير في هذا المجال، في اتجاه منح الفرصة لظهور تصنيفات جديدة للأنظمة السياسية، استنادا إلى معايير وظيفية أكثر منها سياسية. بالتأكيد لن تتخلى المجتمعات الإنسانية عن فكرة الديمقراطية، بما تتضمنه من وزن مهم لقضية الحريات، لكنها بالتأكيد لن تحظى بنفس الوزن الذي حظيت به. المجال سيكون مفتوحا أيضا أمام الاقتصادات الصاعدة والناشئة للمساهمة في إعادة بناء هذه المؤشرات أو بناء مؤشرات بديلة.
نقلا عن جريدة الأهرام، نشر بتاريخ 29 مارس 2020