ظلت مصر لأكثر من أربعين عامًا تقريبًا خارج دائرة الأزمات والصراعات الإقليمية التي يمكن أن تهدد أمنها القومي بصورة مباشرة، واقتصر الأمر على بعض المناوشات السياسية التي لم ترقَ إلى احتمال المواجهات العسكرية. غير أن المشهد الإقليمي والدولي الحالي وما يرتبط به من سياسات توسعية لقوى إقليمية، وتحركات لجماعات إرهابية، وسباق تسلح، وصراع على موارد المياه والطاقة، ينبئ بموجة من الصراعات التي قد تدفع مصر لتكون طرفًا فيها. وفي هذا الإطار، شهدت مصر خلال الفترة الماضية تصعيدًا في أزمتي ليبيا وسد النهضة أدى إلى توترات كبيرة وتصعيد عسكري محتمل على الاتجاه الغربي، دخلت مصر على إثره إلى دائرة الأزمات في الوقت الذي تقوم فيه بتعبئة كل طاقاتها لتنفيذ خطط التنمية وبناء الدولة.
ويجادل هذا المقال بأنه لا يجب أن يظل منهج إدارة الأزمات محور تعامل مصر مع محيطها الإقليمي في الفترة المقبلة، وأنه لا بد من تطوير استراتيجية تستند إلى آليات منع الأزمات تهدف إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي لمصر لعشر سنوات قادمة تستطيع فيها التركيز على الداخل وتحقيق أهدافها التنموية لعام 2030.
منهج إدارة الأزمات يكتنفه العديد من الإشكاليات التي تتعلق بتحديد الهدف من إدارة الأزمة والوسائل التي يمكن استخدامها. فالدولة التي تنتقل من مرحلة الصراع إلى مرحلة الأزمة تجد نفسها في معضلة تتعلق بتحديد الهدف من إدارة الأزمة والاختيار من بين ثلاث مدارس فكرية لا تضمن أي منها نتيجة إيجابية للحفاظ على مصالح الدولة. إحدى هذه المدارس ترى أن الهدف من إدارة الأزمة هو سعي كل طرف إلى الفوز في هذه المواجهة التي تتضمن تضاربًا في المصالح، وإرغام الطرف الآخر على التسليم بمصالح الطرف الآخر. ويقوم هذا التوجه على مبدأ “المباراة الصفرية”، حيث يفوز طرف واحد بكل المكاسب ويخسر الطرف الآخر كل شيء. وبالطبع لا تجد هذه المدرسة الكثير من التأييد، حيث لا يمكن اعتماد إخضاع الآخر كمعيار للنجاح في كل الأزمات بدون إيلاء أي اعتبار للسياق السياسي وموازين القوى بين الأطراف. وحتى الولايات المتحدة، وهي القوة الأعظم في العالم التي أدت إدارتها لأزمة الصواريخ إلى ظهور علم إدارة الأزمات، لم تستطع الفوز في كل الأزمات وإخضاع الخصوم.
وفي المقابل، رأت مدرسة فكرية أخرى أن تجنب الحرب هو الهدف الأساسي من إدارة الأزمات، وأن الإدارة الحكيمة للأزمة يجب أن تستخدم جميع الوسائل الدبلوماسية لتجنب مخاطر تصعيد الصراع ووقوع مواجهة عسكرية نظرًا للقوة التدميرية للحروب في العصر الحديث وتأثيرها الكبير على الدول عسكريًّا واقتصاديًّا. إلا أن هذه المدرسة قد قوبلت بكثير من النقد يرتكز على أن هدف تجنب الحرب لا يمكن أن يكون معيارًا للنجاح في إدارة الأزمة لأنه يمكن أن يتحقق بالاستسلام والتخلي عن مصالح الدولة القومية، مثلما حدث عندما تبنت فرنسا وبريطانيا ما يعرف بسياسة التهدئة Appeasement في مواجهة هتلر قبل بدء الحرب العالمية الثانية.
وفي ضوء المدرستين السابقتين، ظهر تيار آخر توفيقي تبناه العديد من الأكاديميين -منهم فيل ويليامز- يرى أن إدارة الأزمة بنجاح يعني الإدارة الاحترافية للأزمة التي تمكن الدولة من الحفاظ على مصالحها الحيوية مع تجنب المواجهة العسكرية في الوقت نفسه مع الأطراف الأخرى. إلا أن “جوناثان روبرتس” يشير في كتابه “صنع القرارات خلال الأزمات الدولية” إلى أن هدف تجنب الحرب والحفاظ على المصالح القومية في الوقت نفسه ليس بالأمر السهل، فهما أمران قد يتناقضان مع بعضهما بعضًا. فمن ناحية، يحتاج الحفاظ على المصالح القومية إلى التلويح بورقة الحرب، ولكن بالمقدار الرادع فقط دون أن يتم اتخاذ قرارات قد يفسرها الطرف الآخر على أنها إعلان حرب. وفي المقابل، قد يدفع هدف تجنب الحرب الدولة إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية بمقدار أقل من المطلوب، وبالتالي يتم تفسيره من الطرف المعتدي على أنه أمر غير جدي ولا يحقق أي نتيجة. وبالتالي، فإن معضلة التلويح باستخدام القوة العسكرية والعمل على تجنب استخدامها في الوقت نفسه تمثل معضلة كبيرة في إدارة الموقف قد ينشأ عنها الانزلاق من مرحلة الأزمة إلى مرحلة الحرب. كما تصبح هذه الأهداف غير ذات جدوى إذا ما قارناها ببعض الأزمات غير قابلة للإدارة Unmanageable، إذ تتبنى أحيانًا الأطراف سياسات غير توافقية لا يمكن الوصول بشأنها لحلول وسط كما كان الحال في الأزمة الإثيوبية-الإيطالية عام 1935، أو عندما يقرر أحد الأطراف التصعيد المستمر ويصر على الذهاب إلى الحرب.
كما خلص معظم المتخصصين في إدارة الأزمات، منهم: جراهام أليسون، وآرثر جيلبرت، وأرفينج جانيس، وروبرت جيرفيس، وريتشارد ليبو؛ إلى أن عملية اتخاذ القرار نفسها تحتوي على عوامل كثيرة لا يمكن وضع قواعد عامة بشأنها وتجعل كفاءة إدارة كل أزمة تختلف من دولة لأخرى، ومن نظام حكم لآخر، ومنها: شخصية متخذ القرار، وكفاءة جمع المعلومات، ومدى قدرة المؤسسات على تنفيذ التوجيهات.. إلخ. وبالتالي ترى بعض أدبيات العلاقات الدولية أن محاولات بعض الأكاديميين لصياغة “قواعد عامة مجردة” لإدارة الأزمات لا يمكن الاعتماد عليها للحفاظ على مصالح الدول. ورغم حماس الكثير من الدوائر في مصر لمنهج إدارة الأزمات، إلا أن معظم الأدبيات تنتقد هذا المنهج، وترى أنه لا يحتوى إلا على بعض القواعد “البديهية العامة” التي لا تضمن بأي حال من الأحول تحقيق أهداف الدول خلال الأزمات، ومنها ضرورة سيطرة صناع القرار على التوجهات الاستراتيجية للأزمة وتفاصيل تنفيذها، واحترام مطالب الخصوم خلال الأزمات، والحفاظ على قنوات التواصل مع الخصوم، والتدرج في التصعيد ضد الأطراف الأخرى للسيطرة على تطور الأزمة قدر المستطاع، والحصول على الدعم الداخلي والدولي لمواقف الدولة، وأيضًا إيجاد مخرج يحفظ ماء وجه الخصم حتى لا يتم إهانته بدرجة تجعله يرفض التراجع خلال الأزمة.
وبسبب هذه التعقيدات، يرى كثيرون أن منهج إدارة الأزمات لا يستند إلى أسس فكرية ثابتة تمكنه من تحقيق المصالح الاستراتيجية للدول بسبب عدم وجود خطوات علمية متفق عليها يمكن استخدامها في الأزمات المختلفة. يضاف إلى ذلك أن السماح للصراع بالتطور إلى مرحلة الأزمة يعني الدخول إلى مرحلة جديدة تزيد فيها فرص التلويح باستخدام القوة العسكرية، وهو أمر يحمل كثيرًا من المخاطرة التي قد تؤدي بالفعل إلى الانزلاق إلى الحرب، والأفضل للدول أن تبتعد كليًّا عن منطقة الأزمات لتتفادى كل هذه الجوانب السلبية.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن أزمتي ليبيا وسد النهضة تفرضان التفكير في تصور جديد يستند إلى القناعة بأنه من الأفضل استراتيجيًّا ألا تسمح مصر في المرحلة المقبلة بأن تتطور نزاعاتها المحتملة إلى مرحلة أزمة. وتكتسب هذه الفكرة بعدًا مهمًّا آخر إذا تم ربطها باستراتيجية مصر للتنمية المستدامة لعام 2030 بصورة عامة، أو بالبند السابع الذي يتعلق بالأمن والسلام والذي يرى أن تحقيق أهداف الاستراتيجية “بات يفرض على الدولة نهجًا يتطلب توجيه أولوية قصوى للأمن بمفهومه الشامل، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي”. ونرى في ضوء هذا التصور الرسمي للدولة أن صعود مصر كقوة إقليمية يتطلب -بالإضافة للأهداف الفرعية لبند الأمن والسلام- تطوير استراتيجية شاملة لمنع تطور الصراعات إلى أزمات في المحيط الإقليمي يمكن من خلالها أن تحقق الدولة المصرية استقرارًا إقليميًّا لمدة عشر سنوات على الأقل، وتعمل كحائط صد يقوم باحتواء التوترات المحتملة وإضعافها لمنع التصعيد. وبمعنى آخر، ستعمل فترة الاستقرار الإقليمي على إيجاد ما يُسمى “الظروف المساندة” Supporting Conditions لتحقيق أهداف مصر التنموية في 2030 وصعود مصر كقوة عسكرية واقتصادية وسياسية.
غير أن هذه الاستراتيجية تتطلب جهدًا فكريًّا جماعيًّا تشترك فيه مختلف المؤسسات ومراكز الأبحاث وليس مجرد إجراءات مؤسسية تعمل وقت الحاجة فقط. فهذه الاستراتيجية ستحتاج إلى إجراء عملية مسح دقيقة للنزاعات وبؤر التوتر الحالية والمحتملة خلال السنوات العشر القادمة في المحيط الإقليمي، وصياغة استراتيجية تعمل على تحييد النزاعات ومنعها باستخدام آليات منع الصراعات، والإنذار المبكر، وإجراءات بناء الثقة، والدبلوماسية الوقائية، والأعمال المخابراتية داخل الدول، ودعم أنشطة ما بعد الصراع في الدول التي تشهد عدم استقرار داخلي، وإجراءات الدفاع غير الهجومي Non Offensive Defense.. إلخ. وقد يقتضي هذا الأمر طرح عدد من المبادرات والاتفاقيات الإقليمية المقيدة التي تهدف إلى تحييد الأعداء المحتملين، أو الدخول في مفاوضات (ليست مثمرة بالضرورة) لتجميد الصراع عند نقطة معينة. كما قد يتطلب الأمر البحث في إمكانية إصلاح الإطار التعاوني الإقليمي المتمثل في جامعة الدول العربية، وإنشاء آليات لتسوية النزاعات في ضوء المستجدات الإقليمية وتوظيفها في إطار الاستراتيجية الوطنية لمنع النزاعات.
ونعتقد أن بعض ملامح هذه الاستراتيجية يطبق بالفعل في مؤسسات صنع القرار، إلا أنه يحتاج إلى تطوير وفق استراتيجية متكاملة. ويمكن الجزم بأن مصر لديها الكثير من الكوادر والخبرات التي تستطيع تحويل هذه الأفكار إلى آليات قابلة للتطبيق إذا ما تم اتخاذ قرار بشأنها.