ملخص
تميل وسائل الإعلام الرئيسية إلي اعتبار أزمة الضواحي نتيجة ودليل علي عنصرية الدولة الفرنسية وممارساتها، ولكن هذه المقاربة تمنع فهم أبعاد مشكلة شديدة التعقيد، وهي اتهام يساهم في تأجيج العنصرية التي يندد بها، ويأتي بنتائج عكسية، ولا يعين علي بلورة حلول باتت ضرورية، هذا المقال الأول في سلسلة تستعرض الأبعاد المختلفة للأزمة والقراءات المتباينة لها وللحلول المطروحة
ملاحظات حول الأحداث وأزمة المهاجرين (١)
العنصرية بين الواقع والاتهامات
لجأ عدد من الفاعلين والمراقبين إلي تفسير لأحداث فرنسا مفاده أننا شاهدنا انتفاضة ضد عنصرية الدولة بصفة عامة وجهاز الشرطة بصفة خاصة، وهو تفسير لا يصلح كمقدمة للتحليل ومن باب أولي كفرضية يجوز اختبارها، وهو تفسير يمنع التفكير ويشرعن أفعال إجرامية ويختزل ظواهر مختلفة وأفعال متباينة تحت بند واحد هو “العنصرية” ويمنعنا من رؤية عميقة ومتكاملة لأبعاد الأزمة وللحلول إن وجدت، لا نزعم أننا كوننا هذه الرؤية فالأزمة بالغة التعقيد وعميقة الجذور ومتعددة الأبعاد، وستشاهد كواليس ومسرح السياسة الفرنسية تنافسا بين التوجهات الفكرية لفرض وجهة نظرها، وبين أصحاب المهن والتخصصات المختلفة، كل منهم يري أن أصحاب كاره يملكون الحل أو علي الأقل أن بداية الحل في أيديهم.
هناك طبعا عنصرية وتوجهات وممارسات عنصرية في فرنسا، وهي ليست حكرا علي السكان “البيض”، أبناء المهاجرين العرب والأفارقة والأسيويين لهم أيضا تصورات وممارسات عنصرية، والجامعات تشاهد باستمرار توترات واشتباكات بين الطلبة من ذوي الأصول المتنوعة. علي سبيل المثال يعاني أبناء المهاجرين عندما يبحثون عن سكن أو عمل وفي أماكن العمل، وفي التعامل مع أفراد يعملون في جهاز الدولة،. ولكن القول أن الدولة تتبني سياسات عنصرية منهجية تجاه أبناء المهاجرين محض افتراء تبثه بعض الفصائل السياسية تتصور أنها تستفيد من إشعال الأوضاع وتردده بعض المواقع الإعلامية. من الجائز طبعا أن يقول البعض أن عددا من أركان العقد الاجتماعي والسياسي الفرنسي يتجاهل الخصوصية الثقافية لأبناء المهاجرين ولكن إدارة مجتمع تتعايش فيه عدة ثقافات لكل منها أحكامها فيما يتعلق بأمور حيوية كالزواج والإرث وأصول العلاقات الرجال والنساء وبين الوالدين وأبنائهما والعلاقة بين الدين والسياسة والعلاقة بين الفرد والجماعة وأسلوب ممارسة الفرائض الدينية وأسلوب الكلام عن المسلمات الدينية… ولكل ثقافة منها ذاكرة جريحة وارتباطات مع العالم الخارجي لا تستطيع الدولة ضبطها ولا حتي مراقبتها… نقول أن إدارة مثل هذا المجتمع المتعدد المتنوع أمر بالغ الصعوبة ولكل الصيغ التي عرفها التاريخ مساوئ ومثالب. الصيغة الفرنسية تحاول إيجاد لغة وتصورات مشتركة بين كل مكونات الأمة ويبدو لنا هذا شرط ضروري لتحقيق إمكانية المساواة وتكافؤ الفرص، وهذه الصيغة ليست فاشلة كما يدعي أعداؤها، وهناك فعلا امتزاج تظهره الاحصائيات الخاصة بعدد الزيجات بين أبناء وبنات الأجناس المختلفة، ويظهره أيضا الوجود الكثيف لذوي الأصول العربية في وزارات هامة، ولكنه يبقي أن عدد الوزراء والنواب وكبار رجال مجتمع الأعمال من أصول إثنية أجنبية ما زال ضعيفا، ويبقي أيضا أن تطورات كثيرة تسببت في تفاقم مشكلة التفاوت في الفرص الاجتماعية وفي فشل الدولة والمجتمع في تفعيل أحد أركان العقد الاجتماعي وهو المساواة. وأري أن هناك فارقا بين العمل السياسي والاحتجاجي المطالب بتفعيل العقد والعمل السياسي والاحتجاجي الساعي إلي هدمه وتغييره – من المؤكد أن هناك أسباب وحجج تدعم وجهات نظر الموقفين ولكنه يبدو لي أن الرأي العام الفرنسي يفضل الخيار الأول الذي يتفق وعاداتهم ومركزية الدولة ومكانتها
العنصرية وعلاقة الشرطة بأبناء الضواحي
من يتحدث عن عنصرية الشرطة يذكر دائما عدد أبناء المهاجرين الذين قتلوا بعد ما رفضوا تنفيذ أوامر الشرطة بالتوقف وهربوا بسرعة فائقة، وقد يبدو التعامل مع هذا الرفض خشنا خشونة غير مبررة، ولكن نظرة سريعة إلي عدد الإعتداءات علي رجال الشرطة وعنفها المتزايد وإلي تاريخ الإرهاب والإجرام في السنوات الماضية ورصد الظاهرة المطلق عليها rodéo urbain يشرحان الظاهرة وطبعا لا يبرران كل حوادث القتل. في مدينة نيس في ١٤ يوليه ٢٠١٦ قتل إرهابي يقود شاحنة ٨٦ من المارة قبل أن تتم السيطرة علي الموقف، وحاليا تسود ظاهرة الrodéo urbain وهي إما قيادة سيارة بسرعة مجنونة خطيرة مع تعمد تخويف المارة وإرهابهم بالتظاهر بمحاولة دهسهم أو منافسة بين شباب كل منهم يقود سيارة ويسابق الآخر، في وسط المدينة، وسنعود إلي ظاهرة عدم الامتثال للأوامر لاحقا. وهناك مشكلات أخري وهي سرعة نقل رجال الشرطة من قسم لآخر فلا يخدمون في نفس المكان لمدد تسمح بمعرفة السكان وجغرافيا الحي وخصائه، هذا الوضع يجعل الشرطي خائفا وخشنا،. وفي المقابل هناك تنديد مبرر ببعض ممارسات الشرطة، من حقها طلب أوراق من تشتبه فيهم من المارة، ويكثر رجالها من التحقق من هوية من يبدو عربيا، ويميل رجالها إلي مخاطبة الشباب والعرب بصيغة المفرد وهذا أسلوب غير لائق إن لم يوجد سابق معرفة، وهناك كثير من التصرفات بعضها مبرر وبعضها لا يمكن الدفاع عنه يراها الشباب لا سيما الشباب العربي مهينة
تبعات الاتهام
التنديد بداعي أو بلا داعي بالعنصرية واتهام الدولة والشرطة أدا إلي ما يلي… تعاملت الشرطة مع الأحداث الأخيرة بحرص لتفادي إصابة المخربين لتفادي تهمة العنصرية إن مات أو أصيب أحدهم، في حين أنها تعاملت بحزم قد يصل إلي حد القسوة مع المخربين والمتظاهرين في أحداث السترات الصفراء سنة ١٨/١٩، إذ كان غالبيتهم مما يطلق عليهم بالسكان الأصليين، من الممكن بالطبع نسبة هذا الفارق إلي أسباب أخري – البعد السياسي لحركات السترات الصفراء- ولكن الرأي العام ينسب الفارق إلي الخوف من ذوي الأصول العربية ومن الاتهامات بالعنصرية، ونعطي مثالا آخرا، لتفادي الإصابات وتهم العنصرية هناك تعليمات بعدم ملاحقة الشبان العرب الذين يقودون دراجات بخارية، نظرا لارتفاع احتمالات الحوادث القاتلة، فيستغل هؤلاء الوضع لإهانة رجال الشرطة والفر بعيدا فلا يمكن القبض عليهم، ويغذي هذا الوضع غضب الأغلبية وكراهيتها لذوي الأصول الأجنبية والاحساس العام بعجز الدولة وتراجع هيبتها وإحساس الأغلبية بأن هناك تمييز ضدها، أي أن الاتهام الدائم بالعنصرية يساهم في إيجاد الظاهرة التي يقوم بإدانتها، مرة أخري من الطبيعي مكافحة العنصرية وظواهرها المختلفة، ولكن اللجوء الدائم إلي التفسير بالعنصرية أمر يأتي بنتائج عكسية ويزيد من الاحتقان بين مكونات الأمة، شأنه شأن دخول دول أخري علي خط الأزمة مستغلة الفرصة لتوجيه اتهامات إلي الدولة الفرنسية. ومن المؤكد أن السلطة الحالية فضلت محاولة إرضاء اليسار الراديكالي وسارعت في إدانة الشرطي (الذي ارتكب خطأ جسيما وفقا لإجماع زملائه مع اختلاف في تقدير وتقييم الظروف المحيطة ووجود ظروف مخففة من عدمه) في خطوة أغضبت الشرطة والأغلبية ولم تنجح في تهدئة الضواحي بل ساهمت في إشعال الموقف.
باختصار هناك مشكلة أو مشكلات ضواحي منها مشكلة العنصرية والممارسات العنصرية، ولكن التركيز علي الأخيرة بصفة عامة وتحويلها إلي نقطة ارتكاز السياسات والخطاب الإعلامي يبدو لنا أمرا يأتي بنتائج عكسية، فهو يوسع من الهوة بين مكونات الأمة ويحول الأغلبية وثقافتها إلي متهم بل إلي مذنب دائم، وهذه الشيطنة والتلقين السخيف والمستمر والسعي إلي منع بعض أمهات الكتب الغربية ساهموا في صعود اليمين المتطرف كرد فعل وإلي تراجع أحزاب اليسار في حين أن التعامل مع العولمة يتطلب يسارا قويا قادرا علي طرح بدائل مقبولة.
أبعاد أزمة الضواحي
بعد التنبيه السريع إلي اختلافات كبيرة بين أوضاع الضواحي المختلفة، نشير إلي بعض هذه المشكلات وليست كلها، هناك طبعا مشكلة في التخطيط العمراني لهذه الضواحي، وفي مستوي الشقق المتواضع للغاية، فالشوارع الكبيرة الكئيبة لا تسهل تنمية حب المكان والقدرة علي التشبيك والتواصل علي عكس الشوارع الضيقة، ومن ناحية أخري تنازلت الهيئات والسلطات المشرفة علي إسكان المهاجرين عن الفكرة الأصلية القائلة بوجوب فرض الاختلاط والتعايش بين الإثنيات المختلفة (بما فيها ما يسمي بالسكان الأصليين)، واستسهلت تسكين أبناء الإثنبة معا في شوارع أو أحياء تكون لهم، فأصبح هناك مثلا حي للمغاربة، وآخر للفيتناميين، وثالث للسود، الخ، كل منهم “غيتو” منغلق علي نفسه غير مرحب بالغير بما فيهم الدولة نفسها وهيئاتها، وأشار عدة عمد إلي هذه المشكلة، ولا نعرف طبعا إن كان خيار الاختلاط كان من شأنه زيادة المشكلات والاحتكاكات أو تقليلها، علي الأقل علي المدي القصير، ولكن العمد الذين يساهمون في النقاش العام يقولون أنهم يفضلون الخيار الذي تم التخلي عنه، ولا نستبعد احتمال أن يكون هذا الموقف تنصلا من المسؤولية.
ومن ناحية أخري هناك مشكلتي انهيار البنية التقليدية للعائلات وتدهور أداء المنظومة التعليمية، أي فشل الأساليب التقليدية لتربية الأطفال والشباب ونقل المعرفة. وفقا لطبيب نفساني معروف تحدث إلي الإعلام هناك في الأسر الفقيرة -ليست كلها عربية أو إفريقية – التي يوجد بها عدد من الأبناء ولا يوجد بها إلا أحد الوالدين – الأم في أغلب الأحوال – يضطر هذا الوالد إلي الجمع بين عدة وظائف أو مهام لزيادة دخله المتواضع ويتم هذا علي حساب تعليم الطفل والتواجد معه في الأيام الألف الأولي من عمره، ويدخل الطفل الحضانة أو المدرسة وهو لا يعرف ما يزيد عن مائتي كلمة – من أي لغة- في حين أن الطفل الذي لاقي عناية عادية من والد أو والدين يعرف حوالي عشر ألاف كلمة، ويعني هذا أن الطفل إياه لا يفهم ما يقال له وعاجز عن التعبير عن نفسه ولذلك يكون أكثر ميلا إلي استخدام لغة القوة والضرب والشجار وهذا يدفعه إلي الانضمام إلي شلل تمارس العنف وربما إلي عصابات. وهي مجموعات توفر له “عائلة بديلة” فيها علاقات سلطة تحدد المسموح والممنوع وبالتالي توفر إطارا قيميا. والمشكلة هي أنه تصعب أو تستحيل علاج/معالجة الأضرار التي تلحق بالتكوين النفسي واللغوي للطفل في أول أيام عمره، إضافة إلي كون أغلب الحلول التي تخطر علي البال تتطلب موارد كبيرة وعدد هام من الاخصائيين الاجتماعيين ومن الأطباء في دولة تعاني من ضائقة مالية وتراكم الديون، والحل الذي ورد علي لسان المسؤولين – معاقبة أولياء الأمور وحرمانهم من الإعانات حل غير أخلاقي وغير عملي وربما غير قانوني،
علي صعيد آخر، كانت المنظومة التعليمية العظيمة التي أسستها الجمهورية الثالثة بين ١٨٨٠ و ١٩٣٩ قادرة علي توفير فرص صعود اجتماعي عديدة ومتنوعة وعلي نقل قيم وثقافة وطنية جامعة رغم الصراع بين التيارات الفكرية العديدة التي تشكل الساحات السياسية والثقافية والاجتماعية في فرنسا، وتراجع أداء هذه المنظومة وقدرتها علي الاضطلاع بمهامها منذ النصف الثاني من الستينات من القرن الماضي وظل يتدهور إلي يومنا هذا، وهذا التدهور يصيب كل المجتمع في مقتل ويكون أبناء العائلات ذات الرأسمال الثقافي المحدود – ومن بينهم أبناء الضواحي – أول الضحايا.
ودراسة تعقيدات هذه الأزمة وعمقها و”مباريات إلقاء اللوم” الخاصة بها تستوجب ورقة مستقلة ستلي هذه الورقة.