استعادت الوساطة الأممية في اليمن جزءً من فاعليتها الدبلوماسية بعد اتمام المرحلة الأولى من عملية تبادل الأسرى بين قوات الحكومةالشرعية من جهة ومليشيات الحوثي الموالية لإيران من جهة أخرى. ومثلت هذه الخطوة أهم انجاز انساني في مسار الصراع اليمني؛ اذ تكللت بالإفراج عن 1064 أسير ومختطف يمني، إلى جانب 15 جندي سعودي و4 سودانيين.
ومن المفترض أن يستكمل الطرفان في نوفمبر القادم المرحلة الثانية من عملية التبادل، وذلك بعد الجمود الذي شاب ملف الأسرى لنحو عامين تقريبا منذ توقيع اتفاق ستوكهولم في ديسمبر 2018، ويرى مراقبون أن استمرار نجاح المبعوث الأممي إلى اليمن “مارتن غريفيث”في ملف الأسرى سوف يعزز من فرصه السياسية لعقد جولة مباحثات مباشرة نهاية العام 2020، ويمنحه دفعة إضافية لإقرار مقترحه الدبلوماسي بخصوص “الاعلان المشترك لوقف الحرب”.
نجاح متأخر وتحركات قادمة
لا يعد “النجاح المتأخر” الذي حققه مارتن غريفيث في ملف الاسرى مؤشرا حقيقيا لنضوج ظروف التسوية السياسية في اليمن، وذلك في ضوء الحسابات المتضاربة لمختلف أطراف الصراع المحلي والاقليمي؛ تحديدا الشرعية اليمنية والمملكة العربية السعودية، والمجلس الانتقالي الجنوبي ودولة الامارات العربية المتحدة، وجماعة الحوثي ومن خلفها طهران. وجميع هؤلاء يتفاعلون مع الجهود الاممية إما بهدف امتصاص ضغوط ظرفية أو لتوسيع هامش مناوراتهم السياسية.
وقد ارتبط نجاح هذه الخطوة بمكاسب الحوثيين التكتيكية ورغبتهم في حلحلة ملف الاسرى الذي شكل عليهم عبئا ماليا واجتماعيا في ظل حاجتهم الدائمة إلى التجنيد لتعويض نزيف المقاتلين، وعودة الأسرى سوف يسهم في تحسين صورتهم الدعائية في مناطق سيطرتهم.
لكن العوامل الحاسمة التي دفعت الحوثين إلى التجاوب مع ملف الاسرى – رغم مماطلتها على مدار العاميين الماضيين – هو حاجتها الاستراتيجية إلى تحقيق ٣ أهداف مرحلية؛ تتمثل في:
١- تخفيف الضغوط الدولية بخصوص اخلاء ناقلة النفط صافر
٢- تزخيم الجهود الأممية والتسريع بإقرار “الاعلان المشترك لوقف الحرب”
٣- التشويش على مسار اتفاق الرياض لأنّ نجاحه يعني تحوّله إلىإطار مرجعي للحل السياسي الشامل بدلاً عن مبادرة غريفيث.
وفي سبيل هذه الأهداف يستخدم الحوثي سياسة “العصى والجزرة”؛ أولاً يفُرج عن مختطفين لتخفيف الضغوط الدولية بخصوص صافر مع الإبقاء عليها كرهينة استراتيجية بيد طهران في حال تعرضتلهجوم مباشر في مضيق هرمز أو تعرض وكلائها لعملية واسعة في الحديدة (لذا لم تقتصر صفقة التبادل على الأمم المتحدة بل ترافقت مع صفقة أمريكية لثني واشنطن عن تهديدها بتصنيف الحوثيكجماعة إرهابية). وثانياً يلوح الحوثي بإسقاط ستوكهولم من خلال تصعيده الميداني فيالحديدة فيُعيد توجيه تحركات غريفيث الذي يخشى من فقدان إنجازهالديبلوماسي الوحيد. وأخيراً يستميت عسكرياً لإسقاط مأرب كي يربكحسابات الشرعية والتحالف العربي ويعزز من تناقضاتهم البينية.
لكنّ إخفاق الاندفاعة الحوثية في مأرب حال دون فرض معادلةاستراتيجية جديدة، وحسّن موقف الشرعية التفاوضي خلال هذه الجولة، وأتاح لها التركيز مجدداً على إدارة الصراع جنوباً مع المجلس الانتقالي الجنوبي، بينما تلعب دوراً تعطيلياً مزدوجاً للمسارينالأممي والسعودي. لذا فمن المتوقع أن تمضي الشرعية قُدماً في إسقاط “الإعلان الأممي المشترك”، لكنها على ما يبدو تربط رفضها النهائي لمقترحات غريفيث بالعرض الجديد الذي سيقدّمه الوسيط السعودي بخصوص الملف الأمني لاتفاق الرياض. ومن هنا يُمكن قراءة التصلب المفاجئ الذي أبدته قيادة الشرعية في مفاوضات الرياض بالتزامن مع زيارة غريفيث للعاصمة السعودية، وذلك برغم ما تم انجازه من توافقات مهمّه علىمدار الأسابيع الأربعة الماضية.
وفي السياق ذاته، قال رئيس المجلس الانتقالي “عيدروس الزبيدي”إنّه وقواته سيظلّون في حلّ من الإعلان المشترك مالم يكونوا جزءً منه، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر؛ فإمّا أن يدُمج بشكل مباشر فيالمفاوضات الثنائية بين الشرعية والانقلابيين – وهو أمرٌ مستبعد حالياً – أو انه سيعمل علنا على اسقاط المقترح، وهكذا فإنّه يقدم للسعوديين خدمة جليلة بتغليب مسارهم التفاوضي على المسار الأممي.
تحديات قائمة
لقد عانى مسار السلام في اليمن خلال الأعوام الماضية من أربعة معوقات أساسية: ضعف الشرعية وتصاعد انقساماتها البينية وارتباك حلفائها الإقليمين، وتعنّت طهران ووكلائها لاسيّما بعد إلغاء الاتفاق النووي وسياسة الضغط الأقصى، واستبعاد ممثلي القضية الجنوبية والأحزاب السياسية عن مشاورات وقف الحرب، وأخيرا ضعف فعالية الوساطة الأممية وبطء تحركاتها بالمقارنة مع سيولة الأحداث المحلية والاقليمية. والأن ثمّة تناقض جديد يُضاف إلى هذه القائمة؛ تنافس الوسيطينالأممي والسعودي على التفرد بمسار الحل السياسي. ومن ثم يمكن القول أنّ جهود الطرفين تتنافر بدلا من أن تتكامل، وقد تدفع هذه العلاقة التنافسية إلى تغليب اولوية النجاح السريع والشكلي بدلا عن العمل الدؤوب لتهيئة شروط التسوية وبناء صيغة الحل “العادل والشاملوالواقعي “.صحيح أنّ مبادرة غريفيث تنطوي على قيمة إنسانية هامّة إذ أنّهاساعدت مئات الأسر على استعادة أبناءهم، لكنّها سياسياً لا تبدو قادرة على تقديم المزيد في ظل التوازنات الراهنة وفي ظل الحساباتالسياسية المتضاربة.
بالمقابل تبدو المملكة العربية السعودية أقدر على تحقيق “تسويةانتقالية” في المناطق المحررة تقود نحو تسوية شاملة، وهي تمتلك الإرادة السياسية والموارد المالية التي تحميها من الفشل وتحول دون انهيار “اتفاق الرياض”؛ وتجلى ذلك في قدرتها على احتواء التحركات التصعيدية من قبل للمجلس الانتقالي والحكومة الشرعية في عدن وابين وسقطري، وتمكنها من اعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات لاستئناف الحوار المباشر. وهو ما تعجز عنه الأمم المتحدة في الحديدة على سبيل المثال، وبدلا من ضمان تنفيذ اتفاق ستوكهولم يسعى غريفيث للذهاب نحو مستوى جديد من الحل السياسي.
وعلى الرغم من حداثة الخبرة السعودية في بناء أدوات مؤسسية ودبلوماسية كافية للنجاح في عملية “بناء السلام” ، فقد تصبح جهود الوسيطين الأممي والسعودي أكثر نجاعة في حال قررا الاستثمار المشترك في إنجاح اتفاق الرياض وما يترتب عليه من شروط موضوعية ناضجة، بدلا من أنّ يستنزفان جهودهما في مسارينمتعارضين. أما الفرق بين اتفاق الرياض وإعلان مارتن جريفيث فهو كالفرق بين المبادرة الخليجية واتفاق السلم والشراكة. الأول يراعي التوازنات المحلية والمصالح الإقليمية ويفتح أفقاً سياسياً لإتمام عملية التغيروالإصلاح السياسي، أمّا الثاني فهو “اتفاق لأجل الاتفاق” يهدف شرعنة الأمر الواقع (المتمثل هنا بالحوثي) وبالكاد يضمن تحقيق بعض الاختراقات الإنسانية.