طموح هذه المقالة محدود، فروسيا محور اهتمام جماعات المثقفين الغربيين والمتحدثين في الشأن العام وجماعات السياسة الخارجية وجماعات المتخصصين في شئون الدفاع والأمن.. إلخ، وذلك منذ أيام القيصر بطرس الأكبر. هناك مراحل كان الإعجاب بروسيا فيها سيد الموقف، وأخرى ساد فيها التخوف منها واعتبارها نموذج الاستبداد المريع والغازي الذي لا يتوقف عن التقدم شرقًا وغربًا. وفي أغلب الأوقات اختلف الغرب حول وضع روسيا في/ مع أوروبا، هل هي أوروبية أم لا؟ هل تنتمي إلى الحضارة الغربية أم لا؟ هي “آخر” ينتمي إلى “الغير” أم جزء من العائلة رغم بعض الاختلافات؟ وهل على الغربيين معاداتها أم وجب عليهم التعاون معها؟ هل الخصوصية الروسية ناتجة عن وضعها الجغرافي السياسي أم عن ثقافتها الدينية والسياسية أم عن تطورات تاريخية لم تكن حتمية؟ وفيما يتعلق بنظامها وقيادتها الحاليين؛ هل هذا النظام هو الأصلح لروسيا؟ هل بوتين رجل دولة يمتلك رؤية ثاقبة ومهارات عالية أم هو مغامر محدود الأفق أسير الحقد يميل إلى الهروب إلى الأمام؟ هل السياسة الغربية مسئولة عن تدهور العلاقات أم إن روسيا هي دولة عدوانية بطبعها؟.. إلخ. وبالطبع يطرح المفكرون والخبراء والسياسيون الروس نفس الأسئلة.
طموح المقالة محدود، وسنكتفي بإثارة بعض النقاط التي تُلقي الضوء على السياسة الخارجية الروسية، وعلى مدركات القادة الروس والمسئولين الغربيين. ونشير لمن يرغب في تأصيل الموضوع إلى أهمية الكتاب القديم نسبيًّا للمؤرخ الأمريكي “مارتن ماليا” المعنون “روسيا بعيون غربية”.
“هنري كيسنجر” من الذين يرون أن الجغرافيا تفرض نمطًا دائمًا للسلوك، فروسيا دولة قارية بالغة الاتساع لا تملك إلا منافذ قليلة على البحار وليست لها حدود طبيعية تحميها. وهي دولة أو إمبراطورية دائمة التمدد بحثًا عن منفذ مائي أو حاجز إلى أن تلزمها قوة أخرى التوقف أو التراجع. وعندئذ تتوقف روسيا مجبرة كارهة لمن تسبب في ذلك، مصورة نفسها كمضطهدة أو ضحية حالمة بالانتقام الشافي للغليل.
يمكن تصنيف “كيسنجر” (وبريجينكسي) في معسكر أعداء روسيا، ولكنه قد يكون من المفيد مقارنة كلامه بحديث عضو مجلس الشيوخ الروسي “ألكسي بوشكوف”، وهو أصلًا من المتخصصين في العلاقات الدولية. يرى “بوشكوف” أنه من الطبيعي –أشدد على هذا- أن تكون روسيا إحدى الدول الكبرى في أي نظام عالمي، فهي كذلك منذ عهد القيصر “إيفان الرهيب”، وهي إمبراطورية مترامية الأطراف، ولها من الثروات الطبيعية ما لا يُعد ولا يُحصى، ولها عدد كبير من المواطنين، ولديها ترسانة نووية مهيبة، وأخيرًا تسود فيها عقلية “روما الثالثة” بعد روما والقسطنطينية، أي إنها تعتبر نفسها الوريثة الشرعية للإمبراطورية الرومانية، وهي أهم دولة قارية، ونجحت في القرن العشرين في أن تكون ملاذ وسند كل الدول الرافضة للاستعمار وللهيمنة الغربية، وساهمت بعد عام ١٩٤٥ في رسم خطوط النظام العالمي والقواعد الحاكمة له. ويقول “بوشكوف” إن مصالح روسيا كدولة تتناقض موضوعيًا مع مصالح الدول الغربية بصرف النظر عن طبيعة الأنظمة واختلاف الأيديولوجيات. ويُقر بأن روسيا، أو الاتحاد السوفيتي سابقًا، ارتكبت أخطاء وانتهجت في أحوال ليست بالقليلة سلوكًا مذمومًا سياسيًّا وأخلاقيًّا، ولكن الغرب ارتكب أخطاء شبيهة، وبالتالي لا شرعية له في توجيه الاتهامات وإلقاء المحاضرات.
ويشدد “بوشكوف” على النقطة التالية. على عكس ألمانيا واليابان فإن روسيا لم تُهزم، لم تهزم لا في الحرب العالمية ولا في الحرب الباردة، ما حدث في الأخير أنها واجهت أزمة مريرة نتيجة تكلفة وتبعات حرب أفغانستان، وأن القيادة الجديدة الشابة (ميخائيل جورباتشوف- وكان بالغًا من العمر ٥٤ سنة عندما تولى مقاليد الأمور) كانت ضعيفة المهارات قليلة الخبرات، ولم تكن تملك أي تصور عما يجب فعله، وأن تداعيات الأحداث أدت إلى تمكين جناح فكري ليبرالي تصور أن تقديم التنازلات المتتالية للغرب سيدفعه إلى قبول روسيا شريكًا على قدم المساواة، وأن الخروج من سجن وآليات الحرب الباردة يقتضي تصفية كاملة لآثار الشيوعية سلبية كانت أم إيجابية، وعدم التمييز بين مصلحة الدولة/ الإمبراطورية ومصلحة النظام الشيوعي. ويُقرّ “بوشكوف” بأنه كان من الضروري تقليل التزامات وانتشار الإمبراطورية، ومراجعة تأثير الأيديولوجيا الماركسية على السياسة الخارجية، ولكنه يرى أن ما حدث كان مختلفًا، لم تحسن القيادات الروسية التفاوض، ولم تحاول الحصول على مقابل جدي للانسحاب، ولم تكتسب ثقة الغرب الذي رأى في الضعف الروسي وسذاجة قياداته فرصة لا تعوض لرسم ملامح عالم أحادي القطبية، ولتحقيق أكبر قدر من المكاسب. وكانت النتيجة هي انهيار الاقتصاد وفقدان ٩ ملايين كم٢ من الأراضي ونصف القاعدة الصناعية، وخسارة عدد هائل من المواقع الأمامية وغيرها، بدون أي مقابل، لا مادي ولا معنوي. ويسوق “بوشكوف” أمثلة مذهلة لأخطاء “جورباتشوف”، ولعدم فهمه أصول السياسة الدولية، ويعبر عن مرارة وغضب، لأن الغربيين رفضوا دائمًا اعتبار روسيا شريكًا يقف على قدم المساواة معهم، وتصرفوا كمنتصرين رغم أن الدولة السوفيتية هي التي هزمت نفسها. وتمدد حلف الناتو شرقًا مخالفًا وعود الرئيس “بوش الأب”. ويلمح “بوشكوف” أحيانًا إلى كون “جورباتشوف”، وبعده “يلتسين”، خُدعا باحتفاء الإعلام الغربي بهما وبالترحاب الغربي الحار لسياستهما. ويقول إن شعوب أوروبا الشرقية خُدعت أيضًا لأنها تصورت أن التحالف مع الغرب سيسمح لها بالتمتع بالقدرة الشرائية التي يتمتع بها شعوب دول الغرب الغنية، غير منتبهين إلى وجود دول غربية فقيرة.
نتوقف هنا قليلًا لتقييم هذا الخطاب، نرى أنه يؤكد ما ذهب إليه “كيسنجر” حول دور الضغينة والمرارة في رسم السياسة الخارجية لروسيا. الفارق الجوهري أن “كيسنجر” يرى أن هذا من الثوابت، وأن السياق والسياسة الغربية حجتان تبرران ولا تشرحان. السبب الحقيقي لسلوك روسيا هي أنها تغار دائمًا من الغرب، وتحقد عليه لأنه متفوق عليها، بينما يرى “بوشكوف” أن ممارسات الغرب هي سبب السياسة الروسية، وأن التعارض بين المصالح الوطنية للدول الكبرى مطلق، والدليل على ذلك أن الغرب لم يساعد الجناح الروسي الذي تبنى مقولاته، وأميل شخصيًّا إلى القول بأن الغرب لا ينتبه إلا نادرًا إلى عدوانية ممارساته، وإلى التبعات السلبية لميله إلى تمجيد الذات، وإلى التدخل في شئون الغير ولخطاب إعلامه.
في الوقت نفسه، يمكن القول إن النقد ذاته يمكن أن يُوجّه لروسيا، ويقتضي تحديد مدى التزام كل طرف من الأطراف بقواعد القانون الدولي دراسة لا يتسع المجال لها، إلا أنه لا يمكن قبول كلام “بوشكوف” الذي يساوي بين أوضاع دول أوروبا الشرقية أيام حلف وارسو وأوضاع دول أوروبا الغربية القابلة أو الخاضعة للهيمنة الأمريكية، فقوات الاتحاد السوفيتي كانت قطعًا قوات احتلال، وعندما رفض “ديجول” الامتثال لمطالب واشنطن لم ترسل الولايات المتحدة قوات لتأديبه. وبصفة عامة، يميل “بوشكوف” إلى الرأي القائل بأن علاقات القوة هي “الحقيقة”، وأن كل ما غير هذا –القانون الدولي مثلًا- لا أهمية له. ولا يمكن قبول تلك المقولة حتى إن لم نكن من الليبراليين.
لكن الفارق المهم فيما يتعلق بسياسة روسيا الحالية يكمن في اقتناع الروس بأن الاتحاد السوفيتي لم يُهزم، بل وقع ضحية سذاجة قيادته وعدم كفاءتها، وبأن التراجع الذي تسبب فيه (وفقًا لهم) “جورباتشوف” غير طبيعي، ولا يعكس حقائق القوى، ولا يمكن إلا أن يكون مؤقتًا ويجب العمل على عودة الأمور إلى نصابها. ونلاحظ أيضًا تقليل “بوشكوف” من شأن سوء أداء الاقتصاديات الشيوعية (دولة كالاتحاد السوفيتي فشلت في السبعينيات في توفير الخبز لمواطنيها)، ومن شأن التفوق العلمي والتكنولوجي للولايات المتحدة وتعظيمه من أهمية الموارد الطبيعية التي تشكل عنصرًا هامًّا من الثروة الروسية.
لكنني لا أريد أن أرى في هذه القراءة الروسية أمرًا شاذًّا، لأن رد الفعل الألماني بعد الحرب العالمية الأولى كان مشابهًا. من الصعب جدًّا قبول هزيمة لم تسبقها هزيمة عسكرية واحتلال لأراضي الدولة، فمثل هذه الهزيمة اللا عسكرية لدولة كبيرة تفتح الباب لتفسيرات يغلب عليها الطابع التآمري، والتي تغذي الرغبة في الانتقام أو على الأقل في رد الاعتبار. ولا يمكن إغفال وجود “تعالٍ غربي” يرى أن تقليد الغرب ومحاكاته هو الطريق الوحيد للنجاة. ونشير إلى أهمية كتاب “كراستيف” و”هولمز” “الضوء الذي فشل” وإلى تناوله لقضية المحاكاة.
ويفصل هذا الكتاب مجموعة التصورات التي سادت في أوساط النخب الغربية بعد انهيار سور برلين سنة ١٩٨٩ والتي شكلت أرضية خطابها عن الغير وسلوكها تجاهه، سواء روسيا أو الصين. أولًا أنه لا يوجد بديل عن النموذج الليبرالي الجامع بين الديمقراطية التمثيلية في طورها الحالي المعتمد على الناشطية الحقوقية والرأسمالية. وتناست تلك التصورات أن الوجود الدائم لبدائل وحق الاختيار ركيزتان لليبرالية الحقة. ثانيًا، أن الدول التي تعرف هذا النظام الديمقراطي الرأسمالي متفوقة أخلاقيًّا على غيرها تفوقًا مطلقًا، ومن حقها أن تلقن دروسًا قاسية، وأن تتدخل في شئون غيرها لتراقب مدى التزامها بالروشتة ومدى احترامها للتعاليم المقدسة لليبرالية. ثالثًا، أن ارتقاء الغير يقتضي تقليده الغير مشروط (أي دون مراعاة تقاليد وتعاليم دينية وأوضاع اقتصادية وثقافية واجتماعية) ومحاكاته التامة للنموذج الأصلي.
باختصار أصبحت الليبرالية والدمقرطة أداة للهيمنة وذريعة للتدخل، أو على الأقل لم ينتبه الغرب إلى الدلالات المهينة لهذه التصورات وإلى مخاطرها العملية.
وفي المقابل، نرى “بوشكوف” يقول إن نشأة حركة تضامن البولندية –التي ناهضت الشيوعية- لم تكن “تلقائية”، بمعنى أنها لم تكن نتاجًا للحركة الطبيعية للمجتمع. متبنيًا الرأي الذي يقول إن كل مُطالب للديمقراطية عميل غربي يتلقى تمويلًا. ومن الواضح أن هذا القول ليس صحيحًا دائمًا، ويخلط بين المطالبة بالديمقراطية وبعض أجنحة الناشطية الحقوقية ليضعهما في نفس السلة.
وفي المقابل، ظهرت في روسيا تيارات فكرية يدعمها النظام ويمكن وصفها بأنها قائمة على فكرة التعالي المطلق للشعب الروسي، وعلى فكرة خصوصيته، فهو أقام دولة إمبراطورية، وهو ليس فقط دولة أمة بل دولة حضارة أسست حضارة مستقلة هي روما الثالثة، وترى فيما ترى أن الطبيعة الجغرافية لروسيا تمنع إقامة نظام ديمقراطي، وأن الشعب الروسي (المؤمن) مكلف بتدمير الحضارة المادية اللا دينية التي أقامها بالغرب، وبعضها ينادي بتحالف أرثوذوكسي/ إسلامي. ويرى أن من حق روسيا التدخل في الشئون الداخلية للدول الغربية وغيرها، لحماية المتحدثين بالروسية، ولرد “الجميل” ولإضعاف الجبهات الداخلية للدول المتفوقة اقتصاديًّا وعلميًّا. وبعض تلك التيارات المؤيدة للنظام ينادي بإقامة مشروع أورو آسيوي، ونتناول كل هذا في مقالة قادمة.