لم يختلف جوهر مخرجات اجتماع باليرمو في صقلية بإيطاليا حول الأزمة الليبية، يومي 12 و13 نوفمبر 2018، عن نظيرتها في اجتماع باريس في مايو الماضي. إذ ذهبت إلى تبني ذات المقاربة الأممية التي تتمسك بالخيار الانتخابي كأحد سبل معالجة الانقسام الليبي، مع ربطها بأهمية تجاوز الاستحقاق الدستوري، والمتطلبات القانونية للعملية الانتخابية، فضلًا عن التعهد بمساءلة الأطراف التي قد لا تحترم نتائج تلك الانتخابات، أو تنتهك وقف إطلاق النار في العاصمة طرابلس.
ومثلما كانت الموافقة الشفهية لأطراف الأزمة الليبية في باريس على دعم الخيار الانتخابي الذي برز مع خطة المبعوث الدولي “غسان سلامة” في سبتمبر الماضي، وحدد لها موعدًا في ديسمبر 2018 دون أن تتحقق مراميها على الأرض؛ فقد تكرّر الأمر ذاته في باليرمو، ولكن هذه المرة باتجاه دعم التمديد الجديد لخطة “سلامة”، والذي أعلنه في إحاطته لمجلس الأمن في الثامن من نوفمبر الجاري، وتضمن محورين رئيسيين، الأول: عقد المؤتمر الوطني الليبي الجامع في الأسابيع الأولى من عام 2019، ثم الثاني: ويتعلق إنجاز الانتخابات في ربيع العام المقبل.
’’ يراهن المبعوث الأممي على أمور أساسية يعتبرها توفر السياق المواتي لذلك الخيار الانتخابي في البيئة الليبية ،،
رهانات أممية:
وبرغم أن اجتماع باليرمو اعتبر “اتفاق الصخيرات” المتعثر منذ توقيعه في ديسمبر 2015 هو الأساس لتسوية الأزمة الليبية، فإنه لوحظ أن المبعوث الأممي قفز على ذلك الأمر في تمديد الخطة الأممية، خاصة بعد فشل أطراف الأزمة الليبية في التوافق على تعديلات ذلك الاتفاق، بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، وبدا متمسكًا أكثر بالانتخابات، كونها ستوفر -من وجهة نظره- بناء شرعية سياسية ليبية موحدة، تتجاوز أزمة الشرعيات المتعددة والمنقسمة تنفيذيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا، بين شرق البلاد وغربها، وبالتالي قد تُحدث الاستقرار المطلوب في هذا البلد.
ويراهن المبعوث الأممي على أمور أساسية يعتبرها توفر السياق المواتي لذلك الخيار الانتخابي في البيئة الليبية.
أولها أن الجيش الوطني الليبي بقيادة “خليفة حفتر” يسيطر على منطقة الشرق وبعض مناطق الجنوب، وبالتالي يمكنه توفير بيئة آمنة لعقد الخيار الانتخابي، ولذلك كان هناك حرص من المبعوث الأممي على تأكيد أن “حفتر” يدعم خطته الجديدة.
وثانيها سيادة الهدوء النسبي الراهن في العاصمة طرابلس، إثر وقف إطلاق النار بعد الاشتباكات الأخيرة في أغسطس الماضي، وبدء عمل لجنة الترتيبات الأمنية لإنفاذ الخطة الأمنية الشاملة للعاصمة، والتي تسعى بموجبها لإحلال قوات نظامية محل الميليشيات في السيطرة على الأمن في طرابلس.
وثالثها استدعاء المجتمع الليبي كقوة ضغط من أسفل على الهياكل السلطوية التشريعية القائمة، كمجلسي النواب والأعلى للدولة، وذلك عبر المؤتمر الوطني الجامع الذي يفترض أن يضم كافة أطراف الأزمة الليبية، بمن فيهم قادة الميليشيات المسلحة وأنصار “القذافي” الذين استُبعدوا من اتفاق الصخيرات.
ومهّد “سلامة” لآلية الضغط تلك عندما اتّهم في إفادته الأخيرة أمام مجلس الأمن مجلسي النواب والأعلى للدولة بالخشية من الخيار الانتخابي، واعتبر أن ذلك يتصادم مع رغبة المجتمع الليبي، إذ قال إن استطلاعًا أجريناه (يقصد البعثة الأممية) أشار إلى أن 80% من الشعب الليبي يرغبون في الانتخابات. ويهدف “سلامة” أيضًا من ذلك المؤتمر الوطني الجامع إلى أن تُمثّل نتائجه ورقة يمكن عبرها اجتذاب الضغوط الإقليمية الدولية على فرقاء الأزمة، لدفعهم نحو الانتخابات، وهو ما بدا جليًّا في مخرجات باليرمو عندما تعهّد المجتمعون باحترام ما قد تُسفر عنه نتائج المؤتمر الوطني، وإن كانوا قد وازنوا الأمر بالإشارة إلى أن ذلك ليس بديلًا عن السلطة التشريعية المنتخبة، في رسالة ضغط غير مباشرة لمجلس النواب.
عوائق عملية:
قد تبدو رهانات المبعوث الأممي على الخيار الانتخابي، وما لقيه من دعم في باليرمو لدفع ليبيا نحو السلام، صحيحة نظريًّا. لكن عمليًّا، فإن أي خيار انتخابي كي يصب في إحلال السلام وليس إعادة دورة العنف، يستلزم شروطًا أساسية من قبيل: ضمان إجراء الانتخابات بطريقة نزيهة وشفافة وذات مصداقية تعكس تطلعات المواطنين في التعبير عن إرادتهم الحرة، ووجود قوة أمنية حامية (سواء وطنية مركزية، أم حتى قوات حفظ سلام دولية كما في تجارب انتخابية أخرى في مناطق الصراع) لخيارات الناخبين وردع الرافضين لنتائجها.
علاوةً على اتفاق أطراف النزاع على الأساس الدستوري والتشريعي المُنظِّم للعملية الانتخابية، بما يحفزهم على المشاركة فيها. ويبقى الأهم من كل ذلك، تراجع الطلب لدى أطراف النزاع على تغيير الموازين الميدانية، أو بمعنى آخر، تدني المنفعة الحدية للأداة العسكرية في منطقة الصراع، بحيث يكون الانخراط السياسي الانتخابي أكثر جاذبية من نظيره العسكري في تحقيق أهداف ومصالح المتنازعين.
’’ الشروط لانتخابات آمنة داعمة للاستقرار الليبي لم تصل بعد إلى نقطة النضج الكافي بسبب جملةٍ من العوامل الأساسية ،،
سياقات غير ناضجة:
وعلى ما يبدو، فإن تلك الشروط لانتخابات آمنة داعمة للاستقرار الليبي لم تصل بعد إلى نقطة النضج الكافي بسبب جملةٍ من العوامل الأساسية يمكن طرحها على النحو التالي:
أولًا- إشكالية الإطار الدستوري والقانوني، فثمة معضلة أساسية تتعلق بعدم الاتفاق على مسودة الدستور التي صاغتها هيئة الستين المنتخبة، ومن ثمّ تعرّضت عملية إصدار قانون الاستفتاء على الدستور للتعطيل في مجلس النواب، في مرحلة ما بعد اجتماع باريس، وهو أمر قد يكون قابلًا للتكرار بعد باليرمو، لسبب جوهري أن طبيعة النخب السياسية -سواء في مجلس النواب، أو الأعلى للدولة- لا تزال هي نفسها من حيث مواقفها وأساليبها في المناورات السياسية. ومع افتراض إصدار قانون الاستفتاء على الدستور فإنه قد تظهر المعارضة لبنود الدستور ذاته، والتي تجلت من قبل ليس فقط في شرق ليبيا، وإنما حتى بين الأقليات وخاصة الأمازيغ.
وإذا قرر الليبيون تجاهل عقبة الدستور، والاعتماد على الإعلان الدستوري في 2011، فربما تنشأ معضلة إضافية تتعلق بالخلافات حول صلاحيات السلطة الجديدة التي ستفرزها الانتخابات، بل وكذلك المواد التي لم يتم حسمها فعليًّا في اتفاق الصخيرات، وخاصة مواد الشق الأمني، لا سيما التي تخص تعيين قادة المؤسسات الأمنية، بخلاف معضلة المجلس الرئاسي التي شهد خلال شهر نوفمبر الجاري توافقًا بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، على أن يتم تقليص عدده من 9 إلى 3، وفصله عن رئاسة الوزراء، لكنه لا يزال لم ينفذ على الأرض.
وتتعقد الأمور أكثر بالنظر إلى احتمال أن يُواجَه القانون الانتخابي بخلافات أكثر حدة بين الفرقاء الليبيين، لا سيما وأنه يلعب دورًا أساسيًّا، ليس فقط في تحديد مواصفات المرشحين، لكن في اختيار طريقة النظام الانتخابي ذاته، والذي يسهم في رسم المعركة الانتخابية من حيث موازين القوى المحتملة الناتجة عنها. وإذا كان المبعوث الأممي لم ينجح لقرابة العام في إقناع الأطراف الليبية بتعديلات الصخيرات، أو تنظيم البنية الدستورية والقانونية للانتخابات؛ فإن السؤال المطروح هنا: هل الوقت المتبقي ما بين نوفمبر الجاري وحتى ربيع العام القادم سيكون كافيًا لإنفاذ الخطة الأممية الجديدة؟
ثانيًا- خلل موازين القوى الميدانية، حيث إنها تميل بالأساس لصالح الجيش الوطني الليبي، مقارنة بقوى الغرب الليبي المنقسمة على نفسها ميليشاويًّا، كما أنها لا تزال قابلة للتمدد جغرافيًّا، إذ لم تبلغ حد المنفعة الحدية لها، في ظل وجود بؤر فوضى مسلحة خاصة في بعض مناطق الجنوب والغرب. ولعل الرهان الميداني بدا أكثر أولوية لأطراف النزاع من نظيره الانتخابي عندما تم تحرير مدينة درنة من التنظيمات الإرهابية في يونيو الماضي بعد شهر واحد من اجتماعات باريس.
ويُثير خلل موازين القوى مخاوف قوى الغرب الليبي، ليس فقط من أي سيناريوهات محتملة لاقتحام طرابلس قد تواجه رفضًا إيطاليًّا حادًّا، لا سيما مع وجود انتشار عسكري لروما خاصة في مصراتة؛ وإنما لجهة أن الخيار الانتخابي قد لا تميل نتائجه لصالحها في المناطق التابعة للجيش الليبي، والتي شهدت استقرارًا نسبيًّا، لا سيما وأن هيمنة قوة عسكرية على منطقة معينة قد يمثل دعمًا غير مباشر لحلفائها السياسيين الذين يخوضون الانتخابات.
ثالثًا- معضلة ميليشيات طرابلس، حيث إن اتفاق الترتيبات الأمنية في طرابلس يواجه تحديًا معقدًا في عملية إحلال قوات نظامية محل الميليشيات المسلحة، بالنظر إلى أن الأخيرة لم تعد مجرد فاعل أمني فحسب، وإنما باتت متغلغلة في شبكات الأعمال الاقتصادية والتجارة والتهريب في العاصمة. وبالتالي، من المحتمل أن تكون هنالك تكلفة عالية ووقت أطول لإحلال قوة نظامية محل الميليشيات. هذا بخلاف أن ثمة شكوكًا بالأساس حول أن بعض أجهزة القوات النظامية في طرابلس ليست إلا رداء للميليشيات. ولعله كان لافتًا في مايو الماضي أن حكومة “السراج” قد حلّت قوة الردع الخاصة في طرابلس (تنتمي لتيار السلفية المدخلية) بعد تصاعد الانتقادات الدولية تجاه انتهاكها لحقوق المواطنين، ودمجت أفرادها وهياكلها في جهاز أمني نظامي جديد يحمل مسمى (جهاز الردع لمكافحة الجريمة) تابع لوزارة الداخلية، وهو ما يثير تساؤلات حول فكرة القوات النظامية التي يراهن عليها المبعوث الأممي في العاصمة.
يُضاف إلى ذلك أن اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في طرابلس، وإن وفّر هدوءًا نسبيًّا، إلا أنه لم يجسر الفجوة القائمة بين ميليشيات العاصمة الداعمة لحكومة “السراج”، وأخرى من خارجها تستشعر التهميش والغبن في توزيع العوائد، خاصة في مصراتة والزنتان وترهونة غربي ليبيا، وإن كان “السراج” قد لجأ إلى تعيين وزير الداخلية الجديد “فتحي باشا أغا” (نائب مصراتة) في أعقاب أزمة اشتباكات طرابلس الأخيرة.
رابعًا- سياسات قلب الطاولة الانتخابية، حيث إن المسار العام لنتائج الانتخابات في ليبيا (المؤتمر الوطني العام 2012، ومجلس النواب 2014) يكشف عن عدم قدرة الإسلام السياسي على تصدره، وهو أمر غير مستبعد تكراره إذا جرت الانتخابات في العام المقبل، الأمر الذي قد يُهدد بعودة سياسات قلب الطاولة مرة أخرى من قبل الأطراف الخاسرة، لا سيما وأن الرهانات الانتخابية قد تتجه إلى كلٍّ من تحالف القوى الوطنية وأنصار القذافي.
وللمفارقة هنا فإن آليات قلب الطاولة على نتائج الانتخابات لم تقتصر في الحالة الليبية على العودة للأداة العسكرية، كما جرى في أعقاب انتخابات مجلس النواب عندما نشبت حرب أهلية مناطقية في صيف 2014، وإنما أيضًا احتمال إفساد نتائج اللعبة السياسية، أو تغيير موازين القوى إذا لم تكن في صالحها، كما جرى في عام 2012، عندما تم فرض قانون العزل السياسي بالقوة الميليشاوية لصالح تحالف الإسلام السياسي (نواب حزب العدالة والبناء، وكتلة الولاء السلفي، ومصراتة) إبان المؤتمر الوطني العام، والذي ألغاه لاحقًا مجلس النواب. وتزداد فرض سياسات قلب الطاولة في الانتخابات القادمة، بالنظر إلى أن الحليف التركي للإسلاميين في ليبيا انسحب في مؤتمر باليرمو الأخير احتجاجًا على استبعاده من اجتماع مصغر ضم “السراج” و”حفتر” ورؤساء وقادة دول الجوار الإقليمي، بجانب وزير خارجية فرنسا، وهو ما يشي باحتمال ممارسة أنقرة دورًا مضادًّا لمخرجات باليرمو عبر وكلائها الإسلاميين في طرابلس ومصراتة.
خامسًا- إشكالية الصراعات الأوروبية على ليبيا، حيث إن الصراعات الأوروبية ذاتها على ليبيا قد لا توفر فرصة لدعم الخيار الانتخابي ذاته، إذ إنها تهتم أكثر بمصالحها المناطقية على حساب بناء مؤسسات الدولة، منذ تدخل حلف الناتو في ليبيا في عام 2011. فبينما تركز إيطاليا أكثر على الغرب والجنوب لاعتبارت الطاقة ومنع الهجرة وتهديدات “داعش” العابرة لحدود المتوسط؛ فإن فرنسا تميل أكثر لاعتبار “خليفة حفتر” لاعبًا أساسيًّا يتعلق أيضًا بالطاقة والهجرة ومكافحة الإرهاب. لكن يضاف له قدرة الجيش الوطني الليبي على التمدد من الشرق إلى الجنوب الليبي الذي يمثل نقطة التلاقي الأساسية لمصالح باريس مع دول الساحل الإفريقي. بينما تنظر الولايات المتحدة منذ إدارة “أوباما” وحتى “ترامب” إلى أن دورها يتمحور في ليبيا حول مكافحة الإرهاب، وربطها بمنطقة الساحل الإفريقي، خاصة مع بناء قاعدة أمريكية في أغاديز شمال النيجر على الحدود مع جنوب ليبيا.
وحتى مع تضمّن مخرجات باليرمو -على غرار نظيره في باريس- ما يشي بدعم مؤسسات الدولة الليبية والسعي لبنائها، يبدو أن ذلك الأمر لا تستصحبه آليات ضغط دولية مؤثرة لإنفاذ ذلك الهدف، برغم أنه يكتسب أولوية لاستقرار الدولة الليبية، والتمهيد للخيار الانتخابي. وربما كان لافتًا، أنه بينما تتعهد القوى الدولية في باليرمو بمحاسبة من يخرج على نتائج الانتخابات، فإن ذلك لم يشمل عملية توحيد الجيش الليبي التي كانت قاب قوسين أو أدنى من اكتمالها في مفاوضات القاهرة.
’’ الخيار الانتخابي في مناطق الصراعات ليس غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق السلام، وتعبير الناس عن إرادتهم الحرة ،،
بل يمكن القول إن محاولة المبادرة الأممية الأخيرة نقل الحالة الميليشاوية إلى النظامية في العاصمة طرابلس، قد يثير احتمالًا مستقبليًّا حول إمكان فرض سيناريو اللا مركزية الأمنية الذي قد تستفيد منه قوى أوروبية وخاصة إيطاليا. بمعنى وجود قوة نظامية في غرب ليبيا تساند حكومة “السراج” وحلفائه، في مواجهة قوة الجيش الوطني الليبي وحلفائها في الشرق.
يظل في الأخير أن الخيار الانتخابي في مناطق الصراعات ليس غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق السلام، وتعبير الناس عن إرادتهم الحرة. وما لم تتوفر الشروط اللازمة لذلك، فقد تتحول الانتخابات إلى محفز أكبر للعنف والانقسام، وبالتالي فقد يكون من الأجدى إنضاج البيئة المجتمعية والسياسية والتشريعية لذلك الخيار الانتخابي في ليبيا، كي يصبح داعمًا لاستقرار هذا البلد. خاصة أن البنى التحتية الليبية حافلة بأزمات وشروخ تحتاج إلى التئام ومصالحة.