اتسم العام الماضي بانتشار حالة من عدم اليقين بشأن تداعيات فيروس كورونا على النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك حول مدة استمرار هذا الوباء وكيفية القضاء عليه، ولذا شهد العالم تغييرات ملحوظة في سلوكيات الأفراد وأنماط استهلاكهم مع انخفاض ثقتهم في الاقتصاد العالمي وتراجع الإنفاق الشخصي، وذلك بالتوازي مع الارتفاع القياسي في حزم التحفيز الاقتصادية المقدمة من البنوك المركزية بهدف تخفيف آثار الجائحة السلبية على الأفراد والمؤسسات.
وقد اجتمعت تلك الأسباب لتصبّ في ارتفاع حجم المدخرات والودائع في البنوك باعتبارها مكانًا آمنًا للادخار لتعزيز عامل الأمان تجاه المشهد الضبابي للمستقبل.
أسباب ارتفاع الودائع ومعدلات الادخار الشخصي
رغم تشابه نتائج الأزمة المالية العالمية 2007/2008 وأزمة كورونا، إلا أن هناك اختلافًا جذريًا في تعامل المستلهكين مع القطاع المصرفي؛ إذ شهدت الأولى اتجاه المودعين لسحب أموالهم من كافة المصارف بضغطٍ من تزايد احتمالية إفلاس البنوك، في حين اتسمت الثانية بزيادة الإقبال على إيداع النقود في البنوك. ويُمكن تلخيص أسباب ارتفاع الودائع والادخار فيما يلي:
1- انخفاض ثقة المستهلكين في الاقتصاد
أسفرت جائحة كورونا عن انهيار ثقة المستهلكين في الاقتصاد وقدرته على التعافي من آثار الوباء، ولهذا أحجم المستهلكون عن زيادة الإنفاق على السلع الكمالية والتركيز على نظيرتها الأساسية كالمنتجات الغذائية. ويهدف مؤشر ثقة المستهلك إلى “قياس درجة التفاؤل التي يشعر بها المستهلكون بشأن الحالة العامة للاقتصاد”. وفيما يلي عرض لتطور المؤشر فصليًا خلال ثلاثة أعوام:
الشكل (1): تطور مؤشر ثقة المستهلك عالميًا
Source: Nielsen, Global Consumer Confidence report.
يتبين من الشكل السابق استقرار مؤشر ثقة المستهلك العالمي خلال عامي 2018 و2019 وحتى الربع الأول من 2020 حول ما يتراوح بين 106 نقاط وحتى 107 نقاط، ليهوي المؤشر بشدة بحلول الربع الرابع من 2020 عند 98 نقطة. ورغم هذا التراجع، إلا أنه يمثل تحسنًا عن القراءة المسجلة في الربع الثاني من العام الماضي عند 92 نقطة. ويرجع هذا التحسن الطفيف إلى استئناف النشاط الاقتصادي وإعلان بعض الشركات عن التوصل للقاحات لعلاج فيروس كورونا. ومن الجدير بالذكر أن القراءة التي تنخفض عن 100 نقطة تعبر عن رؤية سلبية للمستهلكين تجاه الاقتصاد والعكس صحيح.
2- إطلاق حزم التحفيز الاقتصادي
اتجهت البنوك المركزية خلال العام الماضي إلى استخدام أدوات السياسة النقدية التوسعية بهدف مساعدة الأفراد والشركات على تجاوز تداعيات كورونا، ومن أبرز تلك الأدوات: خفض أسعار الفائدة لمستويات تصل إلى الصفر في بعض الدول، وإطلاق العديد من الحزم التحفيزية لمساندة الاقتصاد ومواجهة التداعيات الاقتصادية لانتشار وباء “كورونا” عن طريق ضخ مزيدٍ من السيولة في النظام المالي، وطرح برنامج لتحفيز الاقتصاد وشراء السندات.
وقد أظهرت دراسة حديثة صادرة عن مكتب الولايات المتحدة للتحليل الاقتصادي (BEA)ارتفاع الدخل الشخصي خلال شهر يناير 2021 بسبب حزم التحفيز الاقتصادي مما ساهم في زيادة كلٍ من الإنفاق الشخصي والادخار في آن واحد.
وتُعد الولايات المتحدة من أوائل الدول التي أطلقت الكثير من حزم التحفيز الاقتصادي منذ بداية عام 2020 وصولًا إلى مارس 2021 حينما وقع الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مشروع قانون لخطة مساعدات اقتصادية بقيمة 1.9 تريليون دولار، وهي من أكبر حزم التحفيز في التاريخ الأمريكي، ليصبح قانونًا ساريًا يهدف إلى مساعدة الأمريكيين المتضررين من جائحة كورونا.
وبجانب الولايات المتحدة، أعلنت اليابان في ديسمبر 2020 عن حزمة تحفيز اقتصادي جديدة بقيمة 708 مليارات دولار لتسريع التعافي من الركود العميق الذي أصاب البلاد بسبب فيروس كورونا. كما كشف بنك الشعب الصيني في فبراير 2020 عن خططه لضخ سيولة تبلغ قيمتها نحو 1.2 تريليون يوان (173.8 مليار دولار) في الأسواق عبر عمليات إعادة الشراء العكسي. في حين قررت أستراليا في مارس 2020 تمرير حزمة تحفيز اقتصادي بقيمة 17.6 مليار دولار أسترالي لمواجهة آثار الجائحة الاقتصادية.
أما بالنسبة لمصر، فقد وجهت وزارة المالية نحو 5.3 مليارات جنيه كمنحة استثنائية للعمالة غير المنتظمة منذ بداية الجائحة وحتى فبراير الماضي، بالإضافة إلى صرف مرتبات العمالة المنتظمة للعاملين بالقطاعات المتضررة وفي مقدمتها: السياحة، والغزل والنسيج من خلال صندوق إعانات الطوارئ بوزارة القوى العاملة.
3- الإجراءات الاحترازية للسيطرة على انتشار الفيروس
وعلاوة على ما سبق، ساهمت الإجراءات الاحترازية المتخذة من قبل الحكومات خلال العام الماضي، بداية من فرض حظر التجوال وإغلاق مراكز التسوق والمحال التجارية وإغلاق الحدود بين الدول وإيقاف حركة الطيران والسفر، في تشجيع الأفراد على الجلوس لمدة طويلة في منازلهم، وكبح الإنفاق بشكل ملموس مما صب في النهاية في زيادة المدخرات.
تطور معدلات الادخار والودائع حول العالم
جمع المستهلكون في أكبر اقتصادات العالم حوالي 2.9 تريليون دولار أمريكي من المدخرات الإضافية خلال عام 2020، وتظهر البيانات أن نحو 1.5 تريليون دولار من إجمالي المدخرات تتواجد في الولايات المتحدة فقط.
واكتنزت الأسر الصينية 2.8 تريليون يوان (ما يعادل 430 مليار دولار) في حساباتها المصرفية، وارتفعت الودائع في اليابان 32.6 تريليون ين (300 مليار دولار)، وحوالي 117 مليار جنيه إسترليني (160 مليار دولار) في بريطانيا، وزادت الودائع في أكبر اقتصادات منطقة اليورو مجتمعة 387 مليار يورو (465 مليار دولار). وفيما يلي نظرة على تطور معدلات الادخار الشخصية كنسبة مئوية من الدخل المتاح للإنفاق:
الشكل (2): نسبة الادخار من الدخل المتاح للأسر فصليًا
Source: OECD, Household savings, Net % of household disposable income, Q1 2008 – Q4 2020.
يتضح من الرسم السابق أن معدلات الادخار في جميع الدول محل الدراسة شهدت قفزة بحلول الربع الثاني من 2020؛ إذ وصلت إلى 19.9% في أستراليا مقارنة مع 6% خلال الربع الأول من العام نفسه، و27.4% في كندا مقابل 7.4%، و21.1% في ألمانيا مقارنة مع 12.6%، و9.9% في اليابان مقابل 7.4%، وأخيرًا 26% في الولايات المتحدة بزيادة عن 9.6% المسجلة خلال الربع المنتهي في مارس 2020.
زيادة قيمة الودائع في النظام المصرفي المصري
صرح أمين عام اتحاد المصارف العربية “وسام فتوح” بأن القطاع المصرفي المصري احتل المركز الأول بين القطاعات المصرفية العربية من حيث الزيادة في حجم الودائع حتى نهاية أغسطس 2020، حيث ارتفعت بنحو 15.2% إلى 44 مليار دولار. وقد ارتفعت الودائع رغم قرارات البنك المركزي بخفض الفائدة على الإيداع إلى 8.25%، وكذلك الفائدة على الإقراض إلى 9.25%.
ويوضح الشكل التالي حجم الودائع المصرفية الحكومية وغير الحكومية بالعملتين المحلية والأجنبية.
الشكل (3): إجمالي الودائع -بخلاف البنك المركزي المصري- (تريليون جنيه)
المصدر: البنك المركزي المصري، النشرة الإحصائية الشهرية.
من الرسم السابق يتبين أن إجمالي الودائع ارتفع خلال العام الماضي من 4.25 تريليونات جنيه في يناير 2020 لتصل إلى 5.13 تريليونات جنيه بحلول نوفمبر 2020، بزيادة تبلغ 20.7%. وفيما يلي عرض لتطور معدل النمو في إجمالي الودائع:
الشكل (4): معدل النمو في الودائع بالمصارف المصرية
المصدر: البنك المركزي المصري، النشرة الإحصائية الشهرية.
يتضح من الرسم السابق ارتفاع معدل نمو إجمالي الودائع في المصارف إلى 19.41% خلال نوفمبر 2020 مقارنة مع 13.4% في يناير 2020.
الشكل (5): نسبة ودائع القطاع العائلي إلى إجمالي الودائع
المصدر: البنك المركزي المصري، النشرة الإحصائية الشهرية.
مما سبق نلاحظ أن القطاع العائلي يعتبر القطاع الأكثر إيداعًا للأموال في النظام المصرفي، حيث يستحوذ على أكثر من 80% من إجمالي الودائع، ووصلت تلك النسبة إلى 83.1% بحلول نوفمبر 2020.
باختصار، فإن أهمية تراكم الودائع والمدخرات تكمن في ناحيتين، الأولى: زيادة قدرة البنوك على منح القروض وزيادة استثماراتها، لا سيما في ظل مساعي البنوك المركزية لخفض الفائدة وتحفيز الاقتراض، الثانية: إعادة ضخ المدخرات في الاقتصاد عبر تحفيز الاستهلاك والإنفاق الشخصي، حيث أظهر مسح أجراه الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن الأسر الأمريكية تتوقع زيادة قدرتها على الإنفاق خلال 2022 بسبب تراكم مدخراتها خلال الجائحة.
ويُمكن أن تحفز النقطتان السابقتان معدلات النمو الاقتصادي؛ إذ توصلت دراسة أجراها بنك “جيه بي مورجان” إلى إمكانية انتعاش الاستهلاك في العديد من الدول الغنية لمستويات ما قبل الوباء، فيما يرى بنك “جولدمان ساكس” أن إنفاق جزء من المدخرات الزائدة في الولايات المتحدة قد يرفع النمو الاقتصادي بنحو 2%. وعلاوة على ذلك، رفعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة دول العشرين خلال 2021 بدعم من ارتفاع مدخرات الأسر.