الجدل الدائر حول مميزات سد النهضة للدولة الإثيوبية من جهة، وأضراره على دول في حوض النيل من جهة أخرى؛ لا يزال يشكل قضية حرجة للمنطقة. ويمكن القول إن رحلة بناء السد هي الأطول في التاريخ الحديث. فقد بدأ كمجرد اقتراح في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، قبل أن يُعاد إحياء الفكرة مرة أخرى خلال العقود الأخيرة. فبدأ باسم المشروع “إكس” Project X، ثم تحول الاسم إلى “سد الألفية”، حتى استقروا على بنائه في 2011 باسمه الأخير “سد النهضة”، ليتأجل موعد إنهاء أعمال إنشائه عدة مرات. وبلغت نسبة الإنجاز 70% تقريبًا في أكتوبر 2019. وفي حالة الانتهاء من السد، سيكون هو الأكبر من نوعه كسد مولد للطاقة الكهرومائية داخل القارة الإفريقية. وكانت الخطة الأخيرة تتضمن أن تبدأ عملية الملء للخزان في يوليو 2020؛ إلا أن ذلك تعطّل بسبب رفض الحكومتين المصرية والسودانية لخطة تشغيل السد، بسبب ما تحمله من آثار جانبية سلبية على حصصهما من مياه النيل وقدرتهما على الاستفادة من مشاريعهما المائية المختلفة.
مميزات وعيوب الطاقة الكهرومائية
رغم أن الطاقة الكهرومائية كانت من أولى أنواع الطاقة المتجددة في الاستخدام، إلا أن معدلات زيادة استهلاكها عالميًّا منذ بداية القرن الحادي والعشرين لم تتعدّ المرّة ونصف المرة. في مقابل ذلك، ازدادت معدلات استهلاك طاقة الرياح إلى 36 ضعفًا، والطاقة الشمسية إلى أكثر من 450 ضعفًا، وزادت بقية أنواع الطاقة المتجددة إلى 3 أضعاف. ويأتي ضعف الزيادة في استهلاك الطاقة الكهرومائية إلى عدة أسباب، منها: قصر استخدامها في أماكن محددة حول العالم حال توفر الموارد المائية الكافية. كما أن الاستثمارات الاقتصادية في أنواع الطاقة المتجددة الأخرى أصبحت أكثر جذبًا مع زيادة عوائدها، خاصة أن هناك مؤشرات علمية عدة تتنبأ بتحسن كفاءة تقنية تحويل الطاقة الميكانيكية الناتجة من الرياح والمد والجزر والأمواج والطاقة الحرارية والضوئية الناتجة من طاقة الشمس إلى كهرباء. وهذا غير موجود في حالة الطاقة الكهرومائية التي وصلت تقنيتها إلى أقصى كفاءة تحويلية لها بالفعل منذ عقود. كما أن بناء السدود لتوليد الطاقة الكهرومائية يعتبر مسئولية طويلة الأمد من الصعب تطويرها لاحقًا أو إزالتها في المستقبل. بل إن الخطأ المحتمل من سوء إدارتها قد يؤدي إلى عواقب بيئية شديدة أو كوارث بشرية واقتصادية وخيمة لا قدر الله، حتى وإن لم تكن تلك المسئولية بنفس درجة مسئولية إدارة المفاعلات النووية.
شكل (1): تطور الاستهلاك العالمي للطاقة المتجددة
هل تجوز المقارنة بين سد النهضة الإثيوبي والسد العالي في مصر؟
أعربت الحكومة الإثيوبية في جلسة مجلس الأمن الأولى التي ناقشت سد النهضة، عن أهمية السد لاقتصادها. كما قارنته بمشروعات مصر المائية على ضفاف نهر النيل، رغم كون مصر دولة مصب لا تؤثر مشاريعها على أي دول أخرى عمليًّا. ومن هنا تأتي المقارنة بين لجوء مصر لبناء السد العالي من أجل توليد الكهرباء في النصف الثاني من القرن العشرين، وبين المشروعات المائية المختلفة بإثيوبيا، وأكبرها سد النهضة المتوقع أن تكون سعته 3 أضعاف السد العالي (نحو 6.45 جيجا وات). فطبقًا لوجهة النظر الإثيوبية، يعتبر السد لا غنى عنه من أجل توفير بدائل للطاقة تكفي الأنشطة السكانية والصناعية والزراعية، مع وجود خطط لتصدير الكهرباء، أي إنه ليس سدًّا لتخزين المياه فحسب. إلا أن مراجعة الوضع الاقتصادي الإثيوبي، وحالة البنية التحتية، ومعدلات نمو السكان؛ تثير بعض التساؤلات حول هذه المعلومات. فقد كان السد العالي مسئولًا عن توليد نسبة تتعدى 60% من الاحتياجات الكهربائية المصرية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، عندما كان عدد السكان لا يزيد على 35 مليون نسمة. ثم انخفضت إلى ما هو دون 10% في الوقت الحاضر مع انتشار الشبكات الكهربائية لكل مناطق الجمهورية المصرية تقريبًا وتطور النشاط الصناعي ونمو السكان، وهو ما دفع الحكومة المصرية للاستثمار في بدائل أخرى للطاقة، قبل اتجاهها بقوة صوب الطاقة المتجددة بأنواعها مؤخرًا.
أما إثيوبيا، فإنها تعاني منذ عقود من ضعف الخدمات الأساسية المتعلقة بالمياه والكهرباء. وتُصنف إثيوبيا ضمن الدول التي تعاني من ندرة المياه الاقتصادية وليست المادية، حيث تمتلك إثيوبيا العديد من مصادر المياه السطحية والمياه الجوفية بالإضافة للأمطار، كونها دولة منبع. إلا أنها لم تستثمر بعد في توفير البنية التحتية المطلوبة لمعالجة المياه وتوصيلها بصورة نقية للمدن والقرى. وفي حالة الكهرباء، ورغم أن سعر الكهرباء في إثيوبيا يعتبر من الأرخص حول العالم (بقيمة 1 سنت لكل كيلو وات ساعة)، إلا أن الكهرباء غير متاحة لدى أغلب السكان. ورغم تضاعف القدرة الكهربائية لإثيوبيا 11 ضعفًا منذ عام 1991، إلا أن عدد السكان المستفيدين من الطاقة الكهربائية حول البلاد مباشرة يصل إلى حوالي 2.8 مليون نسمة من إجمالي حوالي 110 ملايين نسمة. كما أن هناك أكثر من 60 مليون نسمة يعانون من عدم وجود خدمات الطاقة. وفي حالة استكمال سد النهضة وبقية السدود الـ13 المزمع بناؤها، فإن ذلك لن يزيد من القدرة الكهربائية إلا مرة ونصف المرة فقط.
بمعنى آخر، فإنه حتى في حالة استطاعة إثيوبيا تشغيل سد النهضة، فإنه لن يكون كافيًا لسد معظم العجز بالكهرباء. كما أنه لن يستطيع إمداد معظم أقاليم الدولة بالطاقة بسبب التباطؤ في مد الشبكات. وهو ما يقلل من الفائدة المرجو تحقيقها من السد في هذا القطاع، رغم استثمار 4.8 مليارات دولار أمريكي في تكاليف إنشائه فقط، شاملة الزيادات المتعلقة بالتأخير في الجدول الزمني والمعوقات غير المخطط لها.
بدائل الطاقة الممكنة لتعويض الاحتياجات الإثيوبية
الواقع أن هناك بدائل أخرى يمكنها تعويض إثيوبيا جزئيًّا عن هذا العجز في توليد الكهرباء. وهي بدائل لا تنطوي على معوقات سياسية، كما أن معظمها صديق للبيئة. ورغم دراسة الحكومة الإثيوبية بعض هذه البدائل والتخطيط للاعتماد عليها؛ إلا أنها لم تستثمر في معظمها كما استثمرت في بناء السدود. كما تأخرت في الاتجاه إليها إلى ما بعد استمرار أزمة السدود مع دول حوض النيل.
وأول تلك البدائل هي الطاقة الشمسية؛ إذ إن إثيوبيا، كمعظم الدول الإفريقية، لدى أراضيها حصة ضخمة من معدلات التعرض لأشعة الشمس، مع ازدياد تلك المعدلات كلما اتجهنا شرقًا داخل نطاق الحدود الإثيوبية لتتعدى حاجز الـ2500 كيلو وات ساعة لكل متر مربع. ويذكر أن مصر قد اتجهت هي الأخرى للاستثمار الجدي في مجال الطاقة الشمسية خلال السنوات الأخيرة. وتمتلك محطة بنبان للطاقة الشمسية بأسوان، وهي رابع أكبر محطة في العالم، والتي من المتوقع أن تصبح الأولى حين تعمل بكامل طاقتها. وتتعدى السعة الحالية للمحطة 1.6 جيجا وات، وهو ما يقابل 75% من سعة السد العالي أو ربع السعة المخططة لسد النهضة مستقبلًا. علمًا بأن المساحة المستغلة لأراضي المحطة 37 كم مربع، وهو الرقم الذي، رغم كبره نظريًّا، لا يتعدى 7 في الألف من مساحة بحيرة ناصر. أي إن المساحة المطلوبة لعمل محطات للطاقة الشمسية بإثيوبيا ستكون هزيلة مقارنة بمساحة الخزانات الصناعية الملحقة بالسدود.
ويُعد الخيار الأفضل للحكومة الإثيوبية هو الاستثمار بصورة أكثر جدية في محطات طاقة الرياح. حيث تشير التحليلات البيئية لوجود عدة مناطق داخل الحدود الإثيوبية تستطيع أن تستوعب محطات للرياح ذات كفاءة عالية، وذلك على الرغم من أن إثيوبيا لا تطل على أي بحر أو محيط. وأغلب تلك المناطق تقع في الجنوب والشرق بقرب الحدود الإثيوبية مع جنوب إريتريا، وجنوب جيبوتي، وغرب الصومال، وشمال غرب كينيا. وكلها توفر مسارات للرياح تتعدى سرعتها 9 أمتار لكل ثانية وأكثر.
شكل (2): المناطق الأكثر قدرة على توليد طاقة الرياح في إثيوبيا
وهكذا، رغم أن الكهرباء المتوقع إنتاجها في حالة إنهاء سد النهضة وتشغيله بكامل قدرته لن تكون كافية لحل مشاكل عجز الطاقة في الداخل الإثيوبي، وهو ما سيصعّب من عملية تصديرها، ورغم غياب الاستثمارات المطلوبة لبناء البنية التحتية المنوط بها إدارة ونقل الكهرباء للشعب الإثيوبي، الذي يعاني معظمه من نقص الطاقة، أو الاستثمار بصورة أكثر فاعلية في البدائل الأخرى المتاحة لتعويض العجز، ورغم توضيح الجانب المصري الأضرار التي قد تقع عليه في حالة تنفيذ السد بخطته الحالية؛ إلا أن الجانب الإثيوبي لا يزال مصرًّا على استكمال هذه الخطط.
قطعًا تحاول إثيوبيا أن تصنع نهضة اقتصادية تأخرت كثيرًا لشعبها، وهو ما يبرر احتياجها لمصادر طاقة مختلفة تساند عمليات التنمية، ولكن قصور سد النهضة في حل مشاكل الشعب الإثيوبي، خاصة عند دراسة المكتسبات المتوقعة مقابل الاستثمارات الضخمة التي يتم إنفاقها؛ ربما يوضح أن هناك ما هو أكثر من توليد الطاقة الكهربائية كهدف لهذا السد، خاصة مع رفض الجانب الإثيوبي للرؤية المصرية لملء السد بما يتوافق مع الحفاظ على مصالح البلدين. إذ إن المخطط الإثيوبي الحالي للسدود ينجح فقط في التحكم بمنابع النيل الأزرق، والسيطرة على الحصص المائية لدول المصب، أكثر مما يحقق الأهداف الاقتصادية المتعلقة بالطاقة.