بدأت موجة الاحتجاجات الراهنة في السودان بمدينة عطبرة بالشمال، وبورتسودان بالشرق، يوم الأربعاء 19 ديسمبر الماضي (2018). وقد بدأت هذه الاحتجاجات بشكل محدود بمدينتي عطبرة وبورتسودان، ثم ارتفعت وتيرتها لتصل إلى مدن وولايات أخرى، وتزايدت حدتها، مما دفع قوات الأمن للتعامل بحدة مع المواطنين، ما أسفر عن مقتل 8 أشخاص حسب التقديرات الحكومية (22 وفقًا لتقديرات المعارضة).
وتُعاني المدن السودانية من أزمة خبز على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، بسبب أزمة إمدادت الدقيق والوقود، وهي أزمات مستمرة منذ مطلع العام، مما أدى إلى ارتفاع مستمر في سعر رغيف الخبز من جنيه واحد إلى ثلاثة جنيهات. وتعد أزمة الخبز السبب المباشر في اندلاع هذه الاحتجاجات.
أولًا- خريطة الاحتجاجات:
بدأت الاحتجاجات في مدينة عطبرة بالشمال، وبورتسودان بالشرق، لكنها اتسعت تدريجيًّا على مدار الأيام القليلة الماضية لتشمل مدنًا جديدة.
ويمكن تتبع خريطة الاحتجاجات على النحو التالي:
1- ولاية نهر النيل:
انطلقت الاحتجاجات بولاية نهر النيل بمدينة عطبرة التي تُعد بؤرة تاريخية للاحتجاجات المناهضة للحكومة، ما أدى إلى إعلان حالة الطوارئ في نفس يوم الاحتجاجات (19 ديسمبر). وبرغم موجة الاحتجاجات تلك، إلا أن والي الولاية المهندس “حاتم الوسيلة” ذهب إلى أن الولاية تنعم بدرجة من الهدوء، ونفى وجود أزمة خبز بالولاية، وأن تشغيل مطاحن الدقيق بعطبرة يجري بشكل طبيعي، ولا توجد أزمة احتياج للدقيق في الولاية.
في الوقت ذاته، أكد “الوسيلة” اعتقال 30 شخصًا بمدينة بربر بسبب تورطهم في أعمال تخريب وسرقة بمباني الحكومة، وعدد مماثل بمدينة عطبرة، بسبب تورطهم في أعمال تخريب وتحريض على التظاهر، إضافة إلى القبض على بعض قادة الأحزاب بالولاية ممن قاموا بالتحريض على التظاهر. وقدر “الوسيلة” حجم الخسائر بالولاية الناتجة عن الاحتجاجات وتداعياتها بحوالي 100 مليون جنيه سوداني.
2- ولاية شمال كردفان:
بدأت الاحتجاجات بالولاية في مدينتي الأبيض والنهود، وانضمت إليهما لاحقًا مدينة الرهد يوم السبت 22 ديسمبر. وقد استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع لفض المتظاهرين، كما تم تعليق الدراسة في الولاية، وإعلان حالة الطوارئ يوم السبت 22 ديسمبر. ووفقًا لقناة “العربية”، فقد أضرم محتجون النيران بمقر الحزب الحاكم بالمدينة، وانتشرت أخبار حول حرق منزل الوالي وأمانة الحكومة، إلا أن والي الولاية “أحمد هارون”، نفى ذلك، وأكد استقرار الأوضاع الأمنية، وفقًا لتصريحه لإحدى الصحف السودانية.
3- الولاية الشمالية:
شهدت مدينتا دنقلا وكريمة بالولاية احتجاجات أدت إلى إعلان مجلس وزراء حكومة الولاية برئاسة الوالي “ياسر يوسف”، مساء الجمعة (21 ديسمبر)، حالة الطوارئ، وحظر التجوال بالولاية، وذلك من الساعة السابعة والنصف مساء وحتى السادسة صباحًا، وتمت مناقشة الترتيبات الأمنية لإيقاف المظاهرات، وتوفير الخبز والوقود، ودعوة المتظاهرين لضبط النفس، والحفاظ على الممتلكات العامة، وتفويت الفرصة على المتربصين.
4- ولاية سنار:
شهدت الولاية احتجاجات خلال الأيام الماضية أدت إلى تعليق الدراسة بجامعة سنار. وبخلاف ولاية نهر النيل، اتخذت ولاية سنار تدابير استباقية لحماية المقرات الحكومية من الحرق والتخريب. وكشف والي الولاية “عبدالكريم موسى”، عن وجود محرضين يدفعون المواطنين للتظاهر، ما أدى إلى خروج عدد من الشباب بمنطقة “ود النيل”، وقاموا بأعمال شغب أمام نيابة ود النيل، لكن الشرطة تمكنت من فض الاحتجاجات بصورة سلمية، وتم القبض على 30 شخصًا أيضًا بتهمة التحريض على التظاهر. واتخذت الولاية تدابير اقتصادية مماثلة، شملت توفير الدقيق والوقود. كما أعلن الوالي عن عدم وجود نية لرفع سعر الخبز.
5- ولاية القضارف:
شهدت الولاية سقوط ثمانية أفراد. وقد أعلن معتمد البلدية “الطيب الأمين”، تشكيل لجنة لحصر عدد الوفيات. وشهدت الولاية هدوءًا ملحوظًا يوم السبت (22 ديسمبر)، وتم الإعلان عن توقيف عدد ممن قاموا بنهب الممتلكات بالأسواق والمكاتب الحكومية. وأكدت الولاية توفير الوقود والخبز، إلا أنها ما زالت بحاجة إلى الدعم لضمان توفير هذه البنود.
ووفقًا لوكالة الأنباء السودانية، أصدر الرئيس “البشير” قرارًا بتعيين الضابط في جهاز الأمن والمخابرات العميد أمن مبارك محمد شمت واليًا على ولاية القضارف، بعد وفاة الوالي السابق “ميرغني صالح” في حادث تحطم طائرة مروحية منذ ثلاثة أسابيع.
6- ولاية الخرطوم:
امتدت الاحتجاجات لتصل إلى ولاية الخرطوم التي شهدت احتجاجات في عدد من مدن الولاية، منها أم درمان، ما أدى إلى إعلان وزارة التربية والتعليم بالولاية وقف العمل بكافة المدارس حتى إشعار آخر. وتراجعت الاحتجاجات يوم السبت (22 ديسمبر) لتقتصر فقط على منطقة الحاج يوسف. ورغم ذلك، وكما أعلنت الحكومة السودانية، تم وقف الدراسة في كافة جامعات ولاية الخرطوم اعتبارًا من يوم الأحد (23 ديسمبر).
7- ولاية النيل الأبيض:
واصلت موجة الاحتجاجات زخمها لتصل إلى مدن الربك وكوستي والدويم بولاية النيل الأبيض، والتي شهدت احتجاجات عارمة، أحرق خلالها المحتجون مقر الحزب الحاكم وعددًا من المباني الحكومية. واتهمت الحكومة المعارضة باستغلال الاحتجاجات لتحقيق أغراض سياسية. وتم إعلان حالة الطوارئ بالولاية، وإغلاق المدارس فيها، حيث تجددت الاحتجاجات العنيفة يوم الجمعة (21 ديسمبر) بمدينة الجزيرة أبابا، التي تعد معقل حزب الأمة المعارض بقيادة “الصادق المهدي”.
8- ولاية الجزيرة:
شهدت ولاية الجزيرة، القريبة من العاصمة، احتجاجات متفرقة يوم السبت (22 ديسمبر)، حيث قطع المحتجون الطريق الرابط بينها وبين الخرطوم عند منطقة “ود راوة”.
ثانيًا- الاستجابة الحكومية:
كانت هناك درجة كبيرة من التماثل بين رد فعل الحكومة المركزية وحكومات الولايات. ويمكن تحديد الملامح العامة لرد فعل الحكومة السودانية فيما يلي:
1- الإجراءات الأمنية:
– اتسم رد الفعل الأمني بالهدوء في بداية التظاهرات، والاعتراف بحق الشعب السوداني في التظاهر، باعتباره حقًّا دستوريًّا. لكن مع تزايد العنف من قبل المتظاهرين، استخدمت الشرطة الرصاص، وتم اعتقال عدد من المخربين. وصرح كافة مسئولي الولايات بأنهم لن يسمحوا بالتخريب، وسيتصدون لكافة المخربين. وتولى الجيش مهمة تأمين المواقع الاستراتيجية بالبلاد، بحسب ما ذكره مساعد الرئيس. وأكد الجيش التفافه حول النظام، وحرصه على مكتسبات الشعب، والعمل جنبًا إلى جنب مع قوات الشرطة، وذلك ردًّا على ما تردد حول وجود انقسامات داخل الجيش.
– تم إعلان حالة الطوارئ في المدن والولايات التي شهدت احتجاجات، شملت أربع ولايات: الولاية الشمالية، ونهر النيل، والقضارف، وشمال كردفان، لتنضم إليهم ولاية النيل الأبيض يوم الجمعة (21 ديسمبر).
– حجب مواقع التواصل الاجتماعي إثر تحولها إلى منصات إعلامية بديلة، بالإضافة إلى تشديد الرقابة الأمنية على الصحف. من جانبه، أكد رئيس جهاز المخابرات في تصريح له رفضه حجب مواقع التواصل، وأن الأفضل هو تكذيب الشائعات، لا حجب المعلومات.
2- الإجراءات الاقتصادية:
على المستوى الاقتصادي، تم اتخاذ إجراءات اقتصادية سريعة متماثلة إلى حدٍّ كبير مع الإجراءات التي تم اتخاذها على مستوى الولايات. وشملت هذه الإجراءات: توفير الخبز والوقود، والتراجع عن رفع أسعار الخبز. ووفقًا لوكالة الأنباء السودانية، أعلن الأمين العام لاتحاد المخابز “جبارة الباشا”، زيادة حصص المخابز من الطحين بالخرطوم بشكل دائم.
3- تحميل المسئولية للمعارضة:
بالإضافة إلى الإجراءات السابقة، ركز خطاب المسئولين على تحميل المعارضة وأطراف خارجية مسئولية الاحتجاجات. من ذلك، على سبيل المثال، تصريح مساعد الرئيس ونائبه في الحزب الحاكم “فيصل حسن إبراهيم”، الذي استشهد فيه بمقتل اثنين من ضباط الجيش بالقضارف، كانوا يرتدون زيًّا مدنيًّا ومشاركين بالاحتجاجات. وفي الاتجاه ذاته، اتهم مدير جهاز الأمن والمخابرات السودانية “صلاح قوش”، الموساد الإسرائيلي بإثارة الفوضى في السودان، وتجنيد عناصر من حركة “عبدالواحد نور”، حيث أعلن رصد 280 فردًا من الحركة.
على جانب آخر، وعلى مستوى المعارضة، أعلن “الصادق المهدي”، في مؤتمر صحفي بأم درمان، إدانته للقمع المسلح للاحتجاجات التي أدت إلى سقوط 22 شهيدًا، ودعا إلى نظام جديد بحكومة جديدة. وفي بيان صحفي للمعارضة أعلنت عن اعتقال 14 من قادتها، أبرزهم “فاروق أبو عيسى” رئيس تحالف قوى الإجماع الوطني، وذلك أثناء اجتماع عقدوه في مقر حزب البعث في أم درمان، بالتشارك مع قوى نقابية ومجتمع مدني، في إطار التخطيط لتنفيذ عصيان مدني يوم الأربعاء (26 ديسمبر). ولم تؤكد السلطات هذه الاعتقالات.
ثالثًا- ما قبل أزمة الخبز:
يمكن الرجوع بجذور الأزمة الراهنة إلى يناير 2018، عندما واجهت البلاد احتجاجات بسبب الموازنة السودانية التي أجازها البرلمان في 31 ديسمبر 2017، والتي تضمنت زيادة سعر الدولار، الرسمي والجمركي، إلى 18 جنيهًا مقابل 6.9 جنيهات في الموازنة السابقة. ولا يمكن فهم أزمة الخبز الراهنة بمعزل عن هذه القرارات، خاصة بعد الإعلان عن رفع الدعم نهائيًّا عن القمح، ما أدى لزيادة أسعار الدقيق بنسبة تزيد عن 200 بالمائة.
ويستهلك السودان 2.5 مليون طن قمح سنويًّا، ينتج منها 40% فقط. ويواجه البنك المركزى صعوبات في توفير النقد الأجنبي اللازم للاستيراد بسبب تراجع معدلات إنتاج البترول والذي كان يبلغ 470 ألف برميل يوميًّا، فضلًا عن مشكلة تهريب الذهب بسبب فرق سعره الرسمى عن السوق الموازي، ما أثر -في المجمل- على قدرة البنك على توفير سيولة.
واكتمل الضغط الحكومي بعدة إجراءات اقتصادية اتخذتها الحكومة أدت إلى رفع سعر الدولار، حيث قامت بتطبيق آلية جديدة أفسحت المجال أمام البنوك والمصارف لتحديد سعر صرف الجنيه، حيث أصبح مديرو البنوك مسئولين بشكل يومي عن تحديد سعر الصرف. وفي 7 أكتوبر أصبح الدولار الأمريكي يساوى 47.5 جنيهًا سودانيًّا، بعد أن كان يعادل نحو 29 جنيهًا. وخلال الأسابيع الأخيرة، تفاقمت الأزمة ليصل الدولار إلى حوالي 70 جنيهًا سودانيًّا.
ومع أهمية موجة الاحتجاجات الراهنة، إلا أنها ليست الأولى في السودان. فمن ناحية، تعود عملية الإصلاح المالي في السودان إلى انفصال جنوب السودان، حيث واصلت الدولة منذ ذلك الوقت تقريبًا تطبيق خطط تقشفية، ركزت على رفع الدعم عن الوقود بشكل مستمر. وقامت على إثر تلك الإجراءات موجات متتالية من الاحتجاجات في يونيو 2012، وسبتمبر 2013، وفي عام 2016.
ومن ثم يمكن القول، إن موجة الاحتجاجات الراهنة ليست سوى فصل من الفصول المتكررة في هذا المجال منذ انفصال جنوب السودان في 2011، والذي نتج عنه خسارة السودان ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي، وحرمانه من ملايين الدولارات من عائدات كانت تشكل أكثر من نصف إجمالي إيرادات البلاد، وحوالي 90% من إجمالي قيمة الصادرات.
وهكذا، ومع أهمية الأسباب المباشرة وراء موجة الاحتجاجات الراهنة، والمتمثلة في أسعار الخبز والوقود، إلا أن هذه الأسباب والواقع الراهن ليسا سوى نتاج لجملة من العوامل المتراكمة عبر عدة سنوات متتالية، يرتبط بعضها بتطورات داخلية، ويرتبط بعضها بنمط علاقة السودان بالعالم الخارجي.