تتعدد الأزمات السياسية الليبية في المرحلة الحالية، بينما تدخل عملية الانتقال السياسي منعطف الأشهر الأخيرة للوصول إلى الاستحقاق الرئيسي لخريطة الطريق والخاص بإجراء الانتخابات في 24 ديسمبر المقبل، مما يضاعف من المخاوف بشأن تنفيذ هذا الاستحقاق بشكل سلس وفي أجواء سياسية مستقرة. فلم تكد تنتهي أزمة عدم إقرار البرلمان للموازنة العامة التي تقدمت بها حكومة الوحدة الوطنية، حتى اندلعت بينهما أزمة أكبر تتمثل في قرار البرلمان سحب الثقة من الحكومة. وفيما تعكس المؤشرات الحالية بين مختلف الأطراف تصعيدًا سياسيًا، وهناك تباين في السيناريوهات لدى المراقبين بشأن انعكاسات هذا التصعيد على العملية السياسية، بين فريق يرى أن الأمر يتعلق بالحكومة التي يقلص القرار من هامش حركتها، وبالتالي فإن الأطراف الحريصة على خوض الانتخابات لن تبادر إلى الانخراط في التصعيد وهو ما سيقلل من أثر هذه الخطوة على العملية الانتخابية، وفريق آخر يرى أن المشهد الليبي بطبيعة الحال حافل بالمفاجآت، ومن ثم قد يكون هذا المسار إعادة لإنتاج الخلافات والانقسامات التي شهدتها المراحل الانتقالية السابقة.
ردود الأفعال
داخليًا؛ جاءت أبرز ردود الأفعال بطبيعة الحال من رئيس الحكومة “عبدالحميد الدبيبة” الذي أعلن رفضه القرار، وصعد في اتجاه التلميح بعدم التعامل مع البرلمان في المرحلة المقبلة، وعدم الامتثال لتشريعاته أو قراراته؛ بل وَطَعَنَ في القوى التي اتخذت القرار، معتبرًا أنهم يسعون إلى دمار الوطن. كما دعا إلى حشد جماهيري يوم الجمعة (24 سبتمبر 2021)، وهي خطوة رمزية يهدف بها إلى التلويح بأنه سيستمد مشروعية عبر الشارع وليس البرلمان الذي سحب منه الثقة. أما رئيس المجلس الرئاسي فلم ينتقد قرار المجلس علانية، لكنه تضامن -في الوقت ذاته- مع الحكومة، حيث عدّد إنجازات حكومة الوحدة في لقاء مع وزراء خارجية الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية في لقاء بخصوص ليبيا على هامش اجتماعات الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وهي سياسة دبلوماسية تتفق وطبيعة رئيس المجلس القادم مع الخارجية، كما دخل المجلس الأعلى للدولة على خط التصعيد بإعلان بطلان القرار قانونيًا، وهو السياق المتوقع منه أيضًا في ضوء حالة الاحتقان المتبادلة بين المجلسين منذ فترة تعود إلى ما قبل المرحلة الانتقالية الحالية، والتي فاقم من حدة التصعيد خلالها رغبة مجلس الدولة في المشاركة في عدم سن التشريعات، وهو ما يرفضه البرلمان وتجاوزه عمليًا من خلال إصدار قانون الانتخابات وإرساله إلى المفوضية العليا للانتخابات. بينما طالبت العديد من الشخصيات السياسية، ولا سيما المحسوبة على تيار الإسلام السياسي، بإعادة تفعيل المحكمة العليا للطعن أمامها على التشريعات الصادرة من البرلمان.
أما خارجيًا، فيبدو أن هناك تلميحات أيضًا بانتقاد القرار، فخلال لقاء “المنفي” مع وزراء الخارجية صدرت تصريحات من وزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا تؤكد على مشروعية الحكومة، وهو تأكيد بطبيعة الحال على رغبة الإدارة الدولية في استكمال العملية السياسية بدون أزمات جانبيه تؤثر عليها، ولا سيما من جانب القوى الرئيسية المشاركة في مسار برلين (الذي يشكل إحدى مرجعيات عملية الانتقال السياسي الليبي)، وهو الخط ذاته الذي انتهجته البعثة الأممية لدى ليبيا التي أصدرت بيانًا شديد اللهجة أشارت فيه إلى اعتراضها على القرار من جهة، وانتقدت موقف البرلمان أيضًا بالتمليح إلى أنه كان يتعين عليه وعلى الأطراف الليبية عمومًا التفرغ لاستكمال باقي إجراءات خريطة الطريق، والتطلع لإنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وهو رد الفعل الذي رفضه رئيس البرلمان، واعتبره تدخلًا في الشأن الداخلي.
تعقيدات محتملة
من المتصور أن المغزى السياسي من قرار البرلمان عمليًا هو قطع الطريق مبكرًا على الحكومة في إطالة أمد العملية الانتقالية، ودفع كافة الأطراف السياسية إلى الالتزام بالسقف الزمني، وهو ما يرتبط بأكثر من مؤشر، منها -على سبيل المثال- حديث وزيرة الخارجية “نجلاء المنقوش” خلال مشاركتها في مؤتمر آلية دول الجوار بالجزائر مطلع سبتمبر 2021 عن أن هناك مخاوف من عدم إنجاز الاستحقاق الانتخابي في موعده، بما يعد أبرز تصريح حكومي في هذا السياق. المؤشر الأخر أن البرلمان أنجز قانون الانتخابات، وتم تمريره إلى المفوضية العليا للانتخابات والبعثة الأممية قبل هذه الخطوة مباشرة، وبالتالي أنجز كل ما يمكن إنجازه من تشريعات مطلوبة فيما يتعلق بهذا الاستحقاق، وقطع الطريق على مجلس الدولة في عرقلة هذا الإصدار، لا سيما وأن هناك خطوة أخرى محتملة يدور حولها الحديث حاليًا وهي تعليق عمل البرلمان، حيث أكد نواب في البرلمان أن الرئيس سيدخل في إجازة ثلاثة أشهر، وأن آخر جلسة له كانت جلسة إصدار قرار سحب الثقة، وبالتالي يسعى إلى قطع الطريق على السجال في البرلمان مرة أخرى على هذه الخطوة. وأن الرسالة الضمنية من كافة هذه التحركات هي دفع الجميع إلى التفرغ للعملية الانتخابية.
لكن -في المقابل- لا يبدو أن العديد من القوى الأخرى سوف تستسلم أمام هذا التوجه بسهولة، فخطوة التعبئة الجماهيرية التي لجأ اليها رئيس الوزراء “عبدالحميد الدبيبة” ستزيد من تعقيدات المشهد السياسي المرتبك بشكل عام، كما ستعيد إنتاج طبعة جديدة من الخلاف السياسي بين البرلمان والحكومة، على نحو ما جرى في المراحل الانتقالية السابقة، خاصة في عهد حكومة الوفاق، باستثناء أن حكومة الوحدة الوطنية حصلت على اعتماد البرلمان ثم جرى طرح الثقة فيها بعد ستة أشهر، بينما لم يتم اعتماد الوفاق من جانب البرلمان الأساسي، لكن في الحالتين تبقى المحصلة واحدة، وهي أن المؤسسات ستعمل بمعزل عن بعضها بعضًا، كما ستتبادل الأطراف الطعن في عدم مشروعية القرارات الصادرة عن أي منهم، فلا يعتقد أن “الدبيبة” سيتقيد بحدود دور “حكومة تصريف أعمال”، كما أن البرلمان لم يمنح القرارات أو الاتفاقيات التي سيبرمها خاصة مع الدول الخارجية المشروعية القانونية المطلوبة لا سيما في حالة تعليق الانعقاد إن تمت.
حدود التصعيد
تتزايد احتمالات خروج الموقف عن السيطرة بين أقطاب العملية السياسية، فرئيس البرلمان اعتبر أن توجه رئيس الوزراء لتعبئة الجماهير بمثابة “تحريض”، كما كشفت العديد من التقارير المحلية أن هناك اتجاهًا لاستغلال المظاهرات ليس فقط لانتقاد موقف البرلمان تجاه الحكومة، وإنما للمناداة بإسقاطه في الوقت ذاته، ولكن في الوقت ذاته يرى العديد من المراقبين أنه رغم تطور هذه الأزمة لكنها ستظل في حدود التصعيد السياسي، وأن المشهد لن ينزلق إلى التصعيد المسلح مرة أخرى على نحو ما جرى في المرحلة الانتقالية السابقة في عهد حكومة الوفاق الوطني برئاسة “فايز السراج”، وذلك بالنظر إلى أن القوى التي تمتلك السلاح لم تنخرط حتى الآن بشكل مباشر في المعركة القائمة بين البرلمان من جهة والحكومة ومجلس الدولة من جهة أخرى. إضافة إلى تأكيد رئيس الحكومة على أنه لا يسعى إلى أن يكون طرفًا في معركة من هذا النوع.
لكن في واقع الأمر ووفقًا للخبرة الليبية التي تراكمت عبر العقد الماضي، يمكن الجزم بأنه لا توجد ضمانات لاستمرار الوضع الحالي على ما هو عليه، وبالتالي أصبح الجميع في وضع الترقب للتطورات المقبلة والمفاجئة، لكن على الأرجح سيظل سيناريو التصعيد المسلح مؤجلًا لما بعد الانتخابات التي ستكون بمثابة الاختبار الحقيقي لمدى قبول الأطراف بأطر العملية السياسية، فالأطراف التي سترفض العملية الانتخابية ستستثمر اللغط الحالي في الإجراءات البرلمانية في الدفع بالطعن على نتائج الانتخابات.
في الأخير، يمكن القول إن الوصول إلى مرحلة الاستقرار السياسي في الحالة الليبية بات مهددًا، لا سيما وأن المؤسسات السياسية الليبية لا تزال تعمل في إطار الحسابات السياسية ومصالح الأطراف المتنافسة والمتباينة -في الوقت نفسه- إلى حد كبير، لكن مستوى عدم الاستقرار سيتوقف على تطورات المشهد المرتبك.