تشهد موريتانيا حالة من الحراك السياسي على ضوء اقتراب موعد الاستحقاق الدستوري المتعلق بالانتخابات النيابية والجمهوية والبلدية المتضمنة انتخاب البرلمان والمجالس البلدية والإقليمية للمحافظات الخمسة عشر المقرر عقدها اليوم، الثالث عشر من مايو 2023، في إطار من المتغيرات الحزبية والقواعد المنظمة لتلك الانتخابات، إثر الإجماع الوطني حول تنظيم تلك الاستحقاقات والتي جاءت بمشاركة الحكومة الموريتانية ممثلة بوزارة الداخلية وكافة الأحزاب السياسية الموالية والمعارضة.
وتُعد تلك الانتخابات – التي يتنافس فيها 25 حزبًا بإجمالي عدد 2071 قائمة – هي الأولى في عهد الرئيس محمد ولد الغزوني الذي تولى السلطة في عام 2019، وتأتي لتُشكل اختبار حقيقي حول قدرة النظام الحالي بتثبيت تواجده وتعظيم مكاسبه توظيفًا لها في الاستحقاق الرئاسي المقبل (2024)؛ في ضوء اخفاقات الحكومة في عدد من الملفات أبرزها الملف الاقتصادي.
إجراءت مُحفزة وبيئة داعمة
برّزت تحولات متعددة في إطار المشهد السياسي الموريتاني، تجعل من هذه الانتخابات مجالاً للتنافس بصورة أكبر كما تُمثل نافذة نحو تكثيف التنسيق والتعاون بين الأحزاب وبعضها البعض، وذلك وفقًا للمتغيرين التاليين:
- تقلص أعداد الأحزاب المنافسة: تشهد موريتانيا تقلصًا لإعداد الأحزاب السياسية المنخرطة في الاستحقاق التشريعي المقبل والبالغ عددها 25 حزبا، وذلك على ضوء قانون حل الأحزاب التي لم تتجاوز العتبة التي يفرضها القانون (1%) في الانتخابات البلدية.
- الحوار الوطني ومستجدات المشهد الانتخابي: علاوة على ذلك؛ جاءت تفاهمات الحوار السياسي بين الأحزاب السياسية والحكومة الموريتانية بشأن قانون الانتخابات التشريعية والمحلية والجهوية – الذي تم في العام الماضي- لتفضي إلى توقيع وثيقة سياسية تتعلق بالنسبية في الانتخابات الجهوية والبلدية والتشريعية، إذ أنها توافقت بشأن انتخاب النواب في الجمعية الوطنية بنسبة 50% طبقًا لنظام النسبية و 50% وفقًا لنظام الأغلبية في الجولتين، وزيادة عدد مقاعد البرلمان الموريتاني من 157 نائباً إلى 176 نائباً، نصفهم ينتخب بالاقتراع النسبي، والنصف الآخر بقاعدة الأغلبية المطلقة.
- استحدثات القانون الانتخابي: إلى جانب السابق؛ فقد تم استحداث لائحة وطنية للشباب بالتناوب بين الجنسين بموجب عدد 11 مقعدًا مع تضمين ذوي الاحتياجات الخاصة بها، وبلغت التفاهمات تفكيك العاصمة نواكشوط إلى ثلاثة دوائر انتخابية بعدد سبع مقاعد لكل دائرة، مع تنصيب اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، إلى جانب إقرار واعتماد التصويت المباشر للجاليات لأول مرة، مما يُثرى العملية الانتخابية.
لقد رسخّت تلك التفاهمات مسارًا مغايرًا للمرة الأولى في تاريخ الاستحقاق التشريعي يكمن في انتخاب لائحة برلمانية من الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة بما يدفع نحو مزيد من مشاركة الناخبين في خضم هذا التنافس، وبما يقطع الطريق أمام مساعي النظام السابق لاستقطاب الشباب إليه.
تحولات حزبية وملامح الخريطة السياسية
شهّدت موريتانيا تحولات حزبية متعددة في ضوء المنافسة الحزبية على الانتخابات التشريعية المقبلة، عقب انتهاج سياسات الحل التي اتبعتها الدولة حيال الأحزاب المترهلة، ليتقلص عددها من 100 حزب قبيل عام 2020 وصولاً لعدد 25 حزب تنافس على الانتخابات التشريعية المقبلة، بما يؤثر على القاسم الانتخابي، ولعل الخريطة التفاعلية في المشهد الموريتاني تتجلى في الآتي:
- حزب “الإنصاف” الحاكم وقاعدة الانتشار: يُعد الحزب الحاكم “الاتحاد من أجل الجمهورية” – سابقًا- الإنصاف حاليًا هو الكتلة السياسية الأبرز في المشهد السياسي، وحققت قدرة على تقديم ترشيحات لجميع مقاعد البرلمان والجهات والبلديات على مختلف المحافظات بينما لم تترواح نسبة تغطية الأحزاب الأخرى نحو 70%، ويشهد هذا الحزب تنافس تقليدي من جانب الأحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب “تواصل”، إلى جانب بروز خط منافسة داخل أحزاب المولاة ذاتها إضافة إلى وعلى الرغم من ذلك فإن هناك تطورًا ملحوظ في إذ أن أحزاب جديدة تحاول إزاحة حزب “الإنصاف” من تموضعه ذراعًا سياسيًا للرئيس الموريتاني، ومن بين تلك الأحزاب “الإصلاح الموريتاني” والذي يسعى للفوز بأكبر كتلة برلمانية، وذلك وفقًا لما صرّح به رئيس الحزب “محمد ولد طالبنا” نهاية أبريل 2023.
- “تواصل” ومساعي للالتفاف واقتناص الفرص: على مستوى المعارضة الموريتانية فإن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” الإسلامي يسعى لاستعادة تموضعه مرة أخرى في المجالس النيابية المختلفة بعدما شهّد تراجعًا كبيرًا في انتخابات عام 2018 (14 مقعدًا فقط) ومن ثّم افتقاده القدرة على تشكيل الحكومة، ويتطلع حزب تواصل العودة مرة أخرى لرفع نسب تمثيله تشريعًا؛ وسعى في ضوء تحقيق ذلك لإجراء إصلاحات هيكلية داخلية بداية من تغير رئيس الحزب وتنصيب “حمادي ولد سيدي المختار” رئيسًا جديدًا له في ديسمبر2022 بالتزامن مع انعقاد المؤتمر الرابع له، كإجراء إصلاحي داخلي يستهدف معالجة الاضطرابات والارتدادات التي انتابت الحزب وأثرت على قدرته التنافسية السياسية، بل ووسع الحزب من قواعده داخل المقاطعات الموريتانية المختلفة، كما تجاوز حاجز 150 لائحة على مستوى الدوائر الانتخابية بما يُعد ثاني أكبر ترشيح بعد حزب الإنصاف الذي غطي قرابة 75% من الدوائر البلدية.
وينتهج “تواصل” تكتيك التشكيك المبكر في العملية الانتخابية سواء فيما يتعلق بالإجراءات المتخذة أو في طبيعة تعاطي لجنة الانتخابات مع مسارات العملية الانتخابية، ويوّظف بشكل كبير من حالة الاستياء النسبي داخل المجتمع على سياسات الحكومة في تعظيم مكاسبه المختلفة، ولكن تبقى هناك تحديات تواجهه تتمثل في تراجع التمويلات الخارجية المقدمة له إلى جانب أن الوضعية السائدة في المغرب العربي تتسم بتراجع تيار الإسلام السياسي، إلى جانب التصدعات الداخلية في الحزب وخاصة في ضوء انتقاد الرئيس السابق للحزب “محمد جميل منصور” لتفاعلات وخطابات الحزب السياسية والتلويح بالانسحاب من الحزب.
- النظام السابق وسياسة الاصطفاف: منذ الإطاحة بالرئيس السابق “محمد ولد عبد العزيز” من حزب “الاتحاد من أجل الجمهورية- الإنصاف (حاليًا)” بات في البحث عن البديل وجاء في حزب “الرباط الوطني” المعارض، وسعيًا لإعادة تأثيره السياسي يجرى تنسيقًا مختلفة مع الأحزاب المعارضة الأخرى وعلى رأسها “حزب تواصل” الإسلامي، بهدف توسيع تحالفاته الحزبية، واتضحت معالم ذلك في عقد اجتماع ضم المعارضة الحزبية في مقر حزب تواصل بمشاركة (حزب الرباط الوطني – تحالف العيش المشترك – حركة أفلام- حركة إيرا الحقوقية) في ديسمبر 2022، بل والدفع في مسار تشكيل إطار سياسي وصياغة “ميثاق الوحدة الوطنية والسلم الأهلي”، بما يؤشر على مساعيه لتشكيل مظلة جامعة للقوى المعارضة في إطار منافسة الحزب الحاكم، ومزاحمة أحزاب المولاة في البرلمان بما يدعم خطة عودته للحياة السياسية.
وفي التقدير؛ سيستمر حزب “الإنصاف” في تصدّر المشهد البرلماني والحفاظ على وضعية أنه الحزب الحاكم، بالرغم من التحديات التي واجهة الحزب داخليًا أو تزايد رقعة المنافسة مع أحزاب المولاة الأخرى أو الأحزاب المعارضة، ولكن تلك المتغيرات لن تفقده الأغلبية في البرلمان المقبل، بل سيحقق هيمنة على البرلمان مع احتمالية أن يكون “محمد ولد مكت” الذي تم تعيينه على رأس “اللائحة الوطنية المختلفة” لحزب الإنصاف هو الرئيس القادم للبرلمان، وهذا لا يُعني افتقاد حزب “تواصل” لترتيبه في عدد المقاعد بل سيسعى والأطراف المعارضة الأخرى للحضور في العديد من الدوائر التي افتقدها في الاستحقاق الماضي وخاصة في العاصمة نواكشوط.