يختلف التراجع الحالي الذي تعاني منه حركة النهضة عما تعرضت له في السابق، نتيجة تراجع شعبيتها بعد سنوات كثيرة منذ انخراطها في السلطة، ووصولها إلى البرلمان، وصراعها مع الرئيس “قيس سعيد”، عن فترة صراعها مع الرئيس “الحبيب بورقيبة” في الثمانينيات، والرئيس “بن علي” في تسعينيات القرن الماضي، إذ كانت تحتفظ بشعبيتها آنذاك لتبنيها خطاب المظلومية، مما ساعدها في تحقيق مكاسب انتخابية، وصعودها إلى رئاسة البرلمان المنحل في 30 مارس 2022، لكن في الوقت الحالي، وبعد تقييم تجربتها في الحكم، وضعف أدائها البرلماني، بل وصول الأمر إلى حد التشرذم بداخل المجلس، ومحاولتها لفرض مشروع الإخوان في المنطقة التي لم تفلح به؛ تراجعت شعبيتها، وتفكك هيكلها التنظيمي، وتصاعدت أزماتها الداخلية عبر الانشقاقات والاعتقالات، بما يعنى وجود مؤشرات قد تقود إلى حل الحركة، وربما تصنيفها بكونها إرهابية، وعليه يتناقش هذا التحليل مؤشرات ضعف الحركة، والسناريوهات المتوقعة بشأنها.
مؤشرات تراجع
مرت النهضة على مدار تاريخها بعدة تحولات؛ إذ تغيرت مما سُمي بحركة الاتجاه الإسلامي المحظورة في فترة الرؤساء السابقين “الحبيب بورقيبة” و”زين العابدين بن علي”، إلى حركة النهضة في فبراير 1989، ثم تحولت إلى حزب سياسي بعد 2011، وتدرجت بذلك في نشأتها من حركة إسلامية إلى حزب سياسي، وبتتبع مسارها نجد أنها شهدت مراحل من الصعود والهبوط، ولم تسرْ على وتيرة واحدة، وكان للحركة دورٌ دعويٌ في ستينيات القرن الماضي، وقبل ممارسة العمل السياسي كحركة معارضة في أواخر السبعينيات لنظام الرئيس الأسبق “الحبيب بورقيبة”، وبعد أن تولى الرئيس السابق “زين العابدين بن علي” في عام 1987، واجهت النهضة حملات قمع كبيرة، وتم سجن الآلاف من أعضائها؛ إذ نُفي الغنوشي وقادة آخرون لمدة عقدين من الزمن قبل أن يعودوا إلى تونس في العام 2011 بعد الثورة التونسية، ثم شاركت بعد سقوط نظام “زين العابدين بن علي” في الحكومة الائتلافية، وفي صياغة دستور 2014.
• فشل أدائها في البرلمان: بالرغم من حصول الحركة في انتخابات 2011 على 89 مقعدًا من إجمالي 217، لكن تراجع عدد المقاعد في عام 2014 إلى 69 مقعدًا، واستمر الأمر كذلك في الانتخابات التشريعية في عام 2019، وحصلت على 52 مقعدًا من إجمالي 217، وبتولي “راشد الغنوشي” رئاسة البرلمان ما بعد الانتخابات في عام 2019، شهدت الساحة البرلمانية حالة من التشرذم وضعف الأداء، واتسم الوضع خلال فترة رئاسته بالفوضى وفقدان الثقة في أعضاء الحركة، إلى أن اتخذ الرئيس “قيس سعيد” تدابير استثنائية في 25 يوليو 2021 كان بدايتها تجميد عمل البرلمان ثم حله لاحقًا، نتيجة سلوكها وإصرارها على السيطرة على مؤسسات الدولة، واختيار رئيس حكومة مقرب منها، إذ نسقت مع رئيس الوزراء الأسبق “هشام المشيشي” الذي تم إعفاؤه من منصبه لإجراء تعديل وزاري في يناير 2021، وأقال وزير الداخلية السابق “توفيق شرف الدين” وتم تعيين “وليد الذهبي”، الأمر الذي ساهم في دخولها بعد ذلك في صراع مستمر مع الرئيس “قيس سعيد”.
•انشقاقات وأزمات داخلية: واجهت حركة النهضة عدة استقالات في الفترة الأخيرة، والتي بلغت نحو 131 قياديًا وعضوًا أبرزهم (محمد النوري القيادي بالحركة، وعضو مجلس الشورى، وعبد اللطيف المكي، وسمير ديلو، ومحمد بن سالم، وتوفيق السعيدي، وعدد من أعضاء مجلس النواب السابق منهم: جميلة الكسيكسي، والتومي الحمروني، ورباب اللطيف، ونسيبة بن علي، وعدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي منهم: آمال عزوز، وبعض أعضاء مجلس الشورى الوطني، ومجالس الشورى الجهوية، والمكاتب الجهوية والمحلية)، مما يؤشر على حالة الهشاشة الداخلية داخل الحركة، بالإضافة إلى الخلافات السابقة مع رئيس الحركة “الغنوشي” قبل سجنه وتحميله مسئولية ما آلت إليه الأوضاع الداخلية، لا سيما من قبل القطاعات الشبابية غير الراضية عن أداء قادة الحركة، حيث وقّع حوالي 130 شابًا بيانًا في يوليو 2021 اتهموا فيه قادة الحزب بالفشل والتقصير، وعبروا عن ضرورة تغليب المصلحة الوطنية التونسية على الحسابات الضيقة لقادة الحركة، ورفض العديد من الأعضاء ترشح الغنوشي لولاية ثالثة كرئيس للحركة نتيجة انفراده بالقرار، وعدم التداول الديمقراطي لمنصب رئيس الحركة، وتمسكهم بالنظام الأساسي، واللوائح التي تنص على “عدم ترشح رئيس الحركة لأكثر من دورتين”.
• التورط في قضايا أمنية: تورط عدد من أعضائها وقاداتها في قضايا أمنية، ومنها اتهام الحركة بتأسيس جهاز سري يشرف على قضايا الاغتيالات لشخصيات سياسية، ومنها شكري بلعيد، ومحمد البراهمي؛ إذ أوضحت لجنة الدفاع عنهما تورط النهضة عبر تنظيم سري في اغتيالهما، بالإضافة إلى اتهام أعضاء الحركة بتسفير الشباب إلى بؤر التوتر في كل من: (ليبيا، والعراق، وسوريا)، وقد بلغ عدد التونسيين في بؤر التوتر حوالى ثلاثة آلاف في عام 2019، وفقًا لللجنة التونسية لمكافحة الإرهاب، وتم إيقاف رئيس الحكومة الأسبق “على العريض” ووزير العدل الأسبق ” نور الدين البحيري” نتيجة تورطهم في منح جوزات سفر للمقالتين.
توالت سلسلة اعتقال رموز قياداتها في 17 أبريل 2023 منذ سجن الغنوشي لتورطه بعدد من القضايا التي تمس الأمن القومي للدولة والتآمر عليها، فضلًا عن التخطيط لقلب نظام الحكم بها، وإنشائه جهاز أمن سري، واتهامه في قضايا أخرى تتعلق بغسيل الأموال والفساد، وعقب سجنه تم إغلاق مقر حركة النهضة، مع منع عقد اجتماعات في مقرها، وكذلك مقر جبهة الخلاص الوطني المعارضة لسياسات الرئيس سعيد، وتم القبض على القيادي بالحركة “محمد القوماني” ونائب رئيس المكتب السياسي “بلقاسم حسن”، ومسئول العمل الطلابي في الحركة “محمد شنيبة”؛ ويأتي ذلك على خلفية مشاركتهم في ندوة عقدتها جبهة الخلاص في 15 أبريل الماضي، والتي هددت بنشوب حرب أهلية في حال استبعاد الحركة من الحكم، ووصف القوى المساندة للرئيس سعيد بالإرهابيين، حيث قال الغنوشي: “تونس دون إسلام سياسي أو اليسار، أو أي مكون آخر يهدد بحرب أهلية”.
حكم على الغنوشي بالسجن لمدة عام في 15 مايو الماضي، ومن بين القيادات الأخرى التي تم سجنهم “غازي الشواشي”، وقياديون بجبهة الخلاص “جوهر بن مبارك” و”عصام الشابي”، وعضو مجلس شورى الحركة “عبد الفتاح التاغوتي” على خلفية التآمر على أمن الدولة، وتم القبض على عدد من قيادات الصف الأول على غرار (القيادي السيد الفرجاني، المدير السابق لمكتب الغنوشي فوزي كمون، مدير مكتب الغنوشي أحمد المشرقي، عضو القيادة المركزية في حركة النهضة يوسف النوري)، هذا فضلًا عن القبض على عدد من القيادات في الحركة منهم (رئيس الحكومة الأسبق علي العريض، ووزير العدل الأسبق نور الدين البحيري، والناشط السياسي والقيادي السابق بالحركة عبدالحميد الجلاصي، والقيادي الصحبي عتيق، والقيادي المستقيل محمد بن سالم، والقيادي سيد الفرجاني، والقيادي حبيب اللوز، ووزير الاستثمار الأسبق رياض بالطيب، ومدير محطة موزاييك نور الدين بوطار) في قضايا التآمر على أمن الدولة، وأخرى خاصة بالإرهاب.
بالإضافة إلى اعتقال كل من (القاضي بشير العكرمي، والقيادين في جبهة الخلاص جوهر بن مبارك، ورضا بلحاج، ورجل الأعمال السابق خيام التركي، والناشطين السياسيين علي اللافي، وسعد البوعزيزي، وأعضاء برلمان سابقين مثل: راشد الخياري، وأحمد العماري، والناشط محمد المزوغي، والكاتب العام الجهوي محمد صالح بوعلاقي، والقيادي يوسف النوري، ورئيس مجلس شورى الحركة عبد الكريم الهاروني وهو قيد الإقامة الجبرية على خلفية قضايا الفساد والإرهاب) وآخر هذه الاعتقالات إيقاف رئيس الحركة المؤقت “منذر الونيسي”، وجاء إيقافه على إثر تسريب صوتي يتضمن هجومًا على الحركة، واتهام أعضائها بتلقي أموالًا من الخارج، بالإضافة إلى إيقاف بعض قيادات المكاتب المحلية منهم: الكاتب العام الجهوي في بنزرت “علي النفاتي”، والكاتب العام المحلي لرأس الجبل “هيثم البنزرتي”، وعضو المكتب المحلي بأوتيك “حمزة العكاري”، كما تم إصدار مذكرة جلب دولية تجاه عدد من الشخصيات، عددهم اثنى عشر شخصًا، منهم نجل الغنوشي، ورئيس الوزراء السابق “يوسف الشاهد”، ومديرة الديوان الرئاسي السابقة ” نادية عكاشة “.
سناريوهات متوقعة
في ضوء مؤشرات التراجع التي شهدتها حركة النهضة على مدار السنوات الماضية، يمكن الإشارة إلى سيناريوهين متوقعين لمستقبل الحركة على النحو التالي:
•الأول: احتمالية تفكك حركة النهضة نتيجة الأزمات التي شهدتها على مدار السنوات الماضية، وعزم الدولة على استمرار التحقيق القضائي في القضايا التي يتورط فيها أعضاء النهضة، ومن ثَمّ قد يقود ذلك إلى حلّ الحركة وتفككها في ضوء توجه نواب البرلمان منذ يوليو الماضي، وفقًا لتصريحات النائبة “فاطمة المسدي” عن توقيع لائحة سياسية وتصنيف الحركة بالإرهابية على خلفية القضايا المتورطة بها، والتي تمس الأمن القومي للدولة التونسية ومنها؛ إنشاء جهاز سري، والتآمر على أمن الدولة، والاغتيالات السياسية، وتسفير الشباب لبؤر التوتر، وقد تضمنت اللائحة تأكيد ضرورة محاسبة كل من أجرم في حق الشعب طيلة العشرية الأخيرة، والعمل على تحقيق المفهوم الصحيح للسيادة باسترجاع المؤسسات الوطنية من الاختراقات التي دأبت عليها حركة النهضة. يضاف إلى ذلك قرار منع الاجتماعات في مقر حركة النهضة، وغلقه بما يعرقل من نشاطها السياسي، لكن يبقى تحدٍ يواجه هذا السناريو عبر مواجهة ضغط خارجي من دول تدعم الحركة، ومن ثَمّ قد يقابل ذلك دعم للنظام الحالي، من قبل دول أخرى لها موقف مضاد من تيارات الإسلام السياسي في تونس.
• الثاني: اتجاه حركة النهضة إلى محاولات التأقلم بالاستمرار سرًا، لحين توفر فرصة سانحة على غرار عودتها في السابق بالرغم من اعتقال قادتها، فعلى مدار تاريخها شهدت الحركة اعتقالات، وفى بعض الأحيان قامت بالعمل السري خلال عهد الرؤساء السابقين (الحبيب بورقيبة، وزين العابدين بن علي)، ومُنعت في بعض الأحيان من النشاط، واعتُقل قياداتها وتم تهجيرهم، ولم تكن هذه المرة الأولى في تاريخ الغنوشي الذي واجه بها الاعتقال، إذ تم الحكم عليه في عام 1981 بالسجن لمدة أحد عشر عامًا، وقضى حوالي ثلاث سنوات ثم خرج ضمن عفو عام، وحكم عليه غيابيًا بالسجن مدى الحياة في عامي 1991 و1988، لكنه هرب إلى بعض الدول منها الجزائر في عام 1989، ثم السودان وبريطانيا، وحصل على اللجوء السياسي في عام 1993، واستمر حوالي 21 سنة، ثم عاد بعد ذلك إلى تونس مع الثورة.
استنادًا إلى ذلك هناك احتمالية لعودته لممارسة العمل السياسي بعد قضاء مدة السجن، وليس بالضرورة العودة إلى رئاسة الحركة، والاتجاه إلى اختيار قيادات جديدة لرئاستها، بالرغم من الاعتقالات المتتالية فإنه من المقرر عقد المؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة في أكتوبر القادم، وقد أثيرت بعض المخاوف بشأن تأجيل المؤتمر العام، إذ كان انعقاد المؤتمر العاشر في عام 2016، وقد أثير خلاف في السابق مع الغنوشي بتأجيله لهذا المؤتمر لأكثر من مرة، واتهامه برغبته في تعديل النظام الداخلي لإعادة الترشح لرئاسة الحركة. إلا أنّ القيادي “بلقاسم حسن” صرح بأنّ عقد المؤتمر في موعده يعنى عدم التخلي عن راشد الغنوشي ونائبه “علي العريض”، وأنّ واجب المؤتمر تثبيت رئيسه ونائبيه، وانتخاب قيادة أخرى معهم. في حين أنّ هناك تصريحات لعضو مجلس شورى الحركة “محسن السوداني” تشير إلى احتمالية إلغاء المؤتمر، وأنّ الحركة لا تزال تناقش من يشغل منصب رئاسة الحركة بعد سجن “منذر الونيسي” الرئيس المؤقت، واختيار رئيس بالإنابة، لكنها توصلت إلى عدم اتخاذ قرار لحين صدور قرار قضائي تجاه الونيسي.
ختامًا؛ لا شك أنّ وجود بعض قيادات الصف الأول والثاني في السجن، فضلًا عن غلق المقر الرئيسي للحركة كلها، عوامل ساهمت في إرباك وتراجع مكانة حركة النهضة التونسية، وكذلك شعبيتها، إلا أنها قادرة على التأقلم والعمل سرًا في بعض الأحيان؛ وبالتالي قد تستطيع العودة مجددًا على المدى المتوسط، لكن يبقى الأمر هنا مرهون باتجاهات الدولة في تونس، وهل يحسم الأمر سريعًا في القضايا المتورطة بها، إلى أن يصل الأمر إلى قرار سياسي وإداري بحظر وحل الحركة على المدى القصير.