خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي في بيان باللغتين العبرية والانجليزية في 25 أكتوبر قبل شن العملية البرية على قطاع غزة، مقتبسا فقرات من العهد القديم في سفر التثنية (التوراة) وسفر إشعياء (أسفار الأنبياء) يشير فيها إلى تسمية الفلسطينيين بـ “العماليق” وتسمية الجيش الإسرائيلي بأنه أداة “الرب” في الأرض، ليخلصها من “حماس”.
حرص نتانياهو على قراءة فقرات العهد القديم باللغتين العبرية القديمة والانجليزية؛ بغرض توجيه الخطاب السياسي المغلف بالدين إلى الرأي العام في الداخل الإسرائيلي والرأي العام المسيحي؛ وبغرض دوافع متعددة، يمكن بيانها في المقال.
أولا: كيفية التوظيف الديني
ألقى نتنياهو خطابات تحتوي على إشارات إلى اللاهوت اليهودي والمسيحي، إذ قال في البداية عن الهجمات على قطاع غزة: “سيكون هذا انتصارًا للخير على الشر، والنور على الظلام، والحياة على الموت… هذه هي مهمة حياتنا. وهي أيضًا مهمة حياتي”.
واستمرارًا لمراجعه اللاهوتية في تصريحات لاحقة، فإن إحدى أبرز تعبيرات نتنياهو هي: “بالقوى المشتركة، والإيمان العميق بعدالة قضيتنا وبخلود إسرائيل، سنحقق نبوءة إشعياء (ضد حماس)”.
استغل نتانياهو إشارة سفر التثنية -السفر الخامس والأخير في التوراة التي هي جزء من العهد القديم (المكون الأول للكتاب المقدس) لدى اليهود والمسيحيين- إلى “العماليق” الذين سكنوا فلسطين قبل هجمات بني إسرائيل عليهم.
يهدف نتانياهو إلى ربط الذهنية اليهودية والمسيحية بأن الفلسطينيين هم العماليق، وأن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة وضد الفلسطينيين بشكل عام هو تنفيذ لإرادة الرب في العهد القديم، إذ قال نتانياهو إحدى فقرات العهد القديم: “اُذْكُرْ مَا فَعَلَهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ مِنْ مِصْرَ.” (تثنية 25: 17).
ثم أشار نتانياهو في موضع آخر من خطابه إلى الفقرة 19 من الإصحاح 25 في سفر التثنية”: فَمَتَى أَرَاحَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ حَوْلَكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا، تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لاَ تَنْسَ. سفر التثنية (25 :19). إذ يلمح رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الغرض العسكري سيكون إبادة ممثلي العماليق في فلسطين حاليا على حسب روايته اللاهوتية.
انتقل نتانياهو بعد انتهائه من استدعاء فقرات التوراة لربط تاريخ العماليق بالتاريخ الفلسطيني إلى استدعاء فقرات من أسفار الأنبياء وبالتحديد “سفر اشعياء”، إذا أشار إلى أن إسرائيل تمثل النور وأن حماس والفلسطينيين يمثلون الظلام، من الفقرتين الأولى والثانية من الإصحاح التاسع من السفر، والتي تقول: “لكن لن يخيم ظلام على التي تعاني من الضيق، فكما أذل الله في الزمن الغابر أرض زبولون ونفتالي، فإنه في الزمن الأخير يكرم طريق البحر وعبر الأردن، جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيما، والمقيمون في أرض ظلال الموت أضاء عليهم نور”.
ثانيا: دوافع التوظيف الديني
استدعى نتانياهو العهد القديم والتوظيف الديني لفقراته بغرض الوصول إلى مجموعة من الأهداف هي التي ترسم دوافع رئيس الوزراء الإسرائيلي حاليا، وهي:
- ترميم القاعدة الانتخابية والشعبية
حسب استطلاعات الرأي، يبدو أن نتانياهو يعاني من تراجع حاد في شعبيته على المستويين الشخصي، والحزبي كذلك. لذلك يستعمل نتانياهو جميع الأدوات الممكنة وغير الممكنة من أجل تحييد سيناريو نهايته السياسية التي قد تتفاقم لتصل إلى احتمالات سجنه في حال خسر منصب رئيس الحكومة.

قائمة الأحزاب الإسرائيلية حسب عدد مقاعدها المحتملة في الكنيست حسب استطلاعات الرأي الحديثة (إعداد: الباحث)
كما هو موضح في الرسم البياني فإن حزب الليكود يعاني من انخفاض عدد مقاعده من 30 حصل عليها في الانتخابات الماضية إلى 18 مقعدا فقط.

رسم بياني يوضح درجة الشعبية التي يحظى بها نتانياهو وبيني جانتس حسب استطلاعات الرأي (معاريف)
(إعداد الباحث)
توضح استطلاعات الرأي الحديثة في إسرائيل تناقص حاد في شعبية نتانياهو باعتباره رئيس الحكومة المفضل لدى الإسرائيليين قبل الحرب، ولأول مرة لا يرجح الإسرائيليون تفضيل نتانياهو كرئيس حكومة؛ مما ينقص من حظوظه في استمراره السياسي حسب المعطيات الحالية.
يعود استدعاء نتنياهو للاهوت التوراتي والمسيحاني؛ لأنه يؤثر في 13% من المجتمع الإسرائيلي، ورغم ضعف النسبة مقارنة بقطاعات أخرى في إسرائيل إلا أن نفوذهم الديني والسياسي في إسرائيل يتجاوز نسبتهم الديموغرافية؛ فهم يعدون نواة مهمة في النظام السياسي في إسرائيل التي يعتمد عليها نتانياهو في التمسك بالسلطة والهروب من الملاحقات القضائية.
وقد لوحظ منذ فترة سبقت اندلاع الصراع الأخير في 7 أكتوبر أن هناك تنامي لاستياء بين المستوطنين بسبب تباطؤ حركة الاستيطان وتدفق المال المخصص لهم من الميزانية العامة لعام 2023، كما أن التحفظ الرسمي الذي أبداه زعيم حزب عوتسماه يهوديت ووزير الامن العام “ايتامار بن جفير” انتقل إلى صفوف الإسرائيليين المحسوبين على التيار الصهيوني القومي مما أثر على شعبية نتانياهو.
- شرعية في الولايات المتحدة
لوحظ منذ سنتين أن هناك انخفاضا تدريجيا في نسبة التعاطف بين الأمريكيين تجاه إسرائيل لصالح القضية الفلسطينية، لا سيما بين الجمهوريين وبالتحديد قطاع “المعتدلين الليبراليين” المحسوبين على الحزب الجمهوري.

وتعود الظاهرة إلى استمرار نتانياهو في حكم إسرائيل، فتسبب أن 49% من الجمهوريين في الولايات المتحدة لا يثقون في نتانياهو، ولا يرغبون في استمراره بالحكم؛ لعل ذلك يُفسر سبب تحول الخطاب السياسي لدى “دونالد ترامب” (الرئيس الأمريكي السابق) وهجومه الصريح ضد نتانياهو.
يمكن أن يُعزى سبب استدعاء نتانياهو للدين هو التأثير على نسبة الحياد التي تزيد وسط قطاع المعتدلين الليبراليين المحسوبين على الحزب الجمهوري والتي تتراوح بين 22% إلى 33%. وتجدر الإشارة إلى أن الدين يدخل كمكون أساسي في تشكيل الوعي السياسي لدى الجمهوريين وخاصة الفئات المحسوبة على طائفة الايفانجليكيين.
انعكس ذلك بشكل جيد في الولايات المتحدة إذ أنه في 29 أكتوبر (أي بعد أربعة أيام من خطاب نتانياهو اللاهوتي) قال ترامب: “إسرائيل تناضل من أجل الحضارة ضد الهمجية”، وبذلك استخدم ترامب نفس تعبيرات نتانياهو.
وعليه، فمن المحتمل أن تجد الإدارة الأمريكية الحالية نفسها مضطرة للانجرار وراء الرواية اللاهوتية لنتانياهو في تفسير أبعاد الحرب في غزة؛ منعا من استغلال الجمهوريين لذلك الخطاب وكسب أرصدة سياسية تخدمهم في المشهد الانتخابي القادم في الولايات المتحدة.
- التسمية الدينية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وتجنيد الحريديم
تحرص الحكومة الإسرائيلية الحالية على حكر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في المربع الديني فقط، دون تجاوزه إلى أبعاد سياسية تتعلق بالأرض وبحق الشعب الفلسطيني السياسي في إقامة دولته المستقلة. ويرجع ذلك إلى إقناع العالم بالرواية الإسرائيلية القائلة بأن فلسطين هي “أرض الميعاد” لدى الشعب اليهودي.
يواجه نتانياهو مأزقا حادا يتعلق بشكل العلاقة بين السياسة والجيش الإسرائيلي، إذ يسعى الجيش الإسرائيلي على تجنيد “الحريديم” وإلزامهم بالخدمة العسكرية وإلا سيضطر الجيش بالاشتراك الفعلي في الاحتجاجات الشعبية على مشروع الإصلاح القضائي الذي يهدف إلى تغيير وجه إسرائيل من الصهيونية العلمانية إلى الصهيونية الدينية.
يضطر نتانياهو في الوقت الراهن توظيف التوراة والعهد القديم لإكساب الحرب ضد غزة وحماس الطابع الديني أملا في أن ذلك قد يحفز المجتمع الديني في إسرائيل على الاشتراك في الحرب والموافقة على الخدمة العسكرية في المستقبل.
- المبرر الديني في إسقاط حماس
تتهم الإدارة الأمريكية الحالية إسرائيل بأنها تفتقد الرؤية الشاملة للأوضاع المستقبلية في غزة في حال نجاح سيناريو إسقاط حماس. لذلك يقدم نتانياهو الرواية اللاهوتية التوراتية إلى العالم؛ لتبرير حربه والتأكيد على أن وجه إسرائيل تغير من دولة صهيونية إلى دولة يهودية تتخذ من شريعة التوراة أساس للحكم وأساس لتنفيذ القرارات السياسية والعسكرية.
وبذلك يوفد نتانياهو رسالة إلى العالم والولايات المتحدة بالتحديد بأن هدف إسرائيل في غزة هو إنشاء نظام أمني جديد في القطاع بديلا عن حماس؛ دون النظر في الوقت الحالي إلى أي اتفاقات سياسية بشأن طبيعة الإدارة الجديدة البديلة عن حماس. كما تهدف إسرائيل إلى تنبيه الولايات المتحدة بضرورة إسقاط حماس وعدم تقديم أي تنازلات إنسانية قد تصعب المهمة على تفكيك حماس ليس فقط في غزة بل وفي الشفة الغربية أو أي جبهة أخرى في منطقة الشرق الأوسط.
**
ختاما، تجدر الإشارة إلى أن التوظيف الديني لإسرائيل على الصراع مع الفلسطينيين ليس جديدا، بل المختلف هذه المرة هو الدوافع المنبثقة عن المعطيات الجديدة في المجتمعين الإسرائيلي والأمريكي.
يمكن القول إن التأثيرات السلبية الناتجة عن هذا التوظيف التوراتي قد تمتد إلى تغذية اليمين المتطرف في إسرائيل وخاصة في غور الأردن والضفة الغربة بشكل عام، كما قد تمتد تأثيراتها إلى تغذية الخطاب الأيديولوجي للمنظمات الإرهابية في المنطقة، كما قد تؤثر على تصاعد أعمال الكراهية الدينية في عدة بقاع من العالم.