يتوجه الناخبون الأتراك إلى صناديق الانتخابات للمرة الثانية خلال أقل قليلًا من عام لانتخاب رؤساء البلديات وأعضاء المجالس المحلية يوم 31 مارس 2024، وتكتسب الانتخابات المحلية الثالثة عشرة منذ إجرائها للمرة الأولى عام 1963، أهمية مضاعفة كونها تأتي في ظل مناخ سياسي محتدم خلفته الانتخابات العامة خلال مايو 2023، كما أنها ستكون كاشفة للأوزان النسبية للأحزاب في الشارع السياسي، ومصيرية لتحديد مستقبلها داخل خريطة المشهد السياسي خلال السنوات المقبلة، وربما تدفع نتائجها بعض الأحزاب باتجاه تحقيق درجة من الاستقرار المؤسسي والرسوخ داخل النظام الحزبي يؤهلها لمشاركة أوسع خلال الاستحقاقات الانتخابية التالية، والبعض الثاني باتجاه تعميق الانقسامات وتكرار المطالبات بإعادة التنظيم والهيكلة على المستويين الأيديولوجي والمؤسسي، وإخراج البعض الثالث خارج المشهد الحزبي.
ملامح المشهد الانتخابي
بحلول يوم 31 مارس هناك 61 مليون شخص مدعون للإدلاء بأصواتهم، بينهم مليون شاب يصوتون للمرة الأولى، حيث يختار ناخبو المدن الحضرية عمدة بلدية العاصمة، ورؤساء البلديات، ورئيس وأعضاء المجلس البلدي، بينما ينتخب ناخبو المقاطعات غير الحضرية رئيس البلدية، وأعضاء الجمعية العمومية الإقليمية، ورئيس وأعضاء المجلس البلدي، وفيما يلي يُمكن استعراض ملامح المشهد الانتخابي:
1. ارتفاع عدد المرشحين المتنافسين: يشارك 35 حزبًا سياسيًا في الانتخابات المحلية التي تجرى في 30 بلدية حضرية، و51 بلدية إقليمية، و922 مقاطعة، و32 ألفًا و105 أحياء، و18 ألفًا و306 قرى، ونظرًا لغياب التحالفات عن المشهد الانتخابي، فإن الأحزاب تنافس بمشرحيها ومن ثَمّ ارتفع إجمالي عدد المرشحين مقارنة بعام 2019، ليسجل 14 ألفًا و122 لرئاسة البلديات و734 لمنصب عمدة بلديات العاصمة.
2. ارتفاع طفيف في مشاركة المرأة: أظهرت سجلات المرشحين زيادة طفيفة في نسبة الإناث المرشحات قياسًا على انتخابات 2019، لتسجل 11.5% بالنسبة لرئاسة البلديات مقارنة بـ 8% خلال 2019، و12.8% بالنسبة لعمدة العاصمة مقارنة بـ 10.80% خلال 2019، وتُسجل أحزاب العمال التركية، والشيوعي التركي، والحركة الشيوعية التركية، أعلى نسبة مرشحات لمنصب رؤساء البلديات، بينما تُسجل أحزاب الحركة الشيوعية التركية، واليسار، والديمقراطي، نسبة المرشحات الأكبر لمنصب عمدة العاصمة. وتنخفض النسبة لحوالي 9.26% بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري مُقدمًا 103 مرشحة من أصل 1112 مرشحًا لمنصب رؤساء البلديات، بينما تصل النسبة إلى 2.23% فقط لحزب العدالة والتنمية الذي قدم 27 مرشحة من أصل 1211 مرشحًا لمنصب رؤساء البلديات.
3. انفراط عقد تحالف الطاولة السداسية: ضربت الانشقاقات تحالف المعارضة الرئيسي كنتيجة منطقية لانتفاء العامل الرئيسي لتشكيله وصموده، وهو الإطاحة بأردوغان وتحالف الشعب الحاكم، وغلبت التباينات الأيديولوجية على الحسابات السياسية، وتبادل قطباه الرئيسيان؛ حزبا الشعب الجمهوري والجيد، التراشقات اللفظية والاتهامات بالمسئولية عن الفشل في حسم الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح التحالف. وعليه، أنهت أحزاب الجيد والمساواة والسعادة والديموقراطية والتقدم والمستقبل والديموقراطي، سياساتها التحالفية وفضَّلت خوض الانتخابات المحلية بشكل منفرد ومتنافس. وبينما تستهدف استراتيجية المنافسة المنفردة لحزب الجيد تعزيز هويته وإثبات قدرته على الفوز المنفرد بصناديق الاقتراع خارج إطار سياسات المساومة في جناح المعارضة بهدف رأب التصدعات الداخلية، فإن الأحزاب الأربعة الصغيرة تتحرك ضمن إطار أضيق يستهدف بالأساس قياس شعبيتهم وأوزانهم النسبية في الشارع السياسي، وزيادة ثقلهم في المفاوضات التي ستجرى قبل انتخابات 2028 عبر اكتساب شرعية شعبية، فضلًا عن إضعاف قوة تحالف الشعب في الجمعيات الوطنية الإقليمية عبر الفوز ببعض المقاعد في مجالس المقاطعات والمناطق.
4. أزمات تعصف بحزبي المعارضة الرئيسيين: تخوض أحزاب المعارضة الانتخابات المحلية بينما لم تتمكن بعد من تضميد جراح هزيمة 2023، وتجاوز أزماتها الداخلية، مما يضعها أمام اختبار حرج يجعل تماسكها ومستقبلها السياسي ومستقبل قياداتها رهنًا بأدائها الانتخابي؛ إذ يواجه حزب الشعب الجمهوري أزمة هوية وصراعًا على القيادة بين ثلاثة أقطاب رئيسية هم؛ رئيسه الحالي أوزغور أوزيل الذي يواجه اختبارًا حاسمًا لقدرته على تحقيق مكاسب سياسية للحزب، وأكرم إمام أوغلو الذي يواجه انتقادات داخلية بأنه صاحب القرار الرئيسي في الحزب، والرئيس السابق كمال كيليجدار أوغلو الذي يتطلع إلى العودة للمشهد السياسي. وينعكس الصراع داخل المستويات العليا على هيئة استقطاب وانشقاقات بين صفوف الحزب، ومن شأن فشله –على الأقل– في الاحتفاظ بمكتسبات 2019 الدخول في أزمة سياسية حقيقة، وتعمّق الانقسامات والصراعات والاستقالات الجماعية، وتصاعد المطالبات بالإصلاح.
كذلك، تعصف بحزب الجيد أزمات داخلية تتعلق بتنامي الانتقادات الموجهة إلى زعيمته ميرال أكشنار واتهامها برفض التغيير والتسبب في فقدان الحزب هويته وأيديولوجيته بالتحالف مع أحزاب مغايرة أيديولوجيًا، علاوة على الانفصال بين المركز والقواعد، وضعف الانتماء الحزبي، ووجود اتهامات بالفساد وعدم الشفافية في إدارة الشئون المالية، لذلك ستكون الانتخابات المحلية مصيرية لمستقبل أكشنار السياسي ولتحديد موقع الحزب داخل العملية السياسية التركية خلال المرحلة المقبلة كونها الأولى التي يخوضها الحزب منفردًا.
5. المنافسة المنفردة للأكراد: قرر حزب المساواة والديموقراطية الشعبية (الشعوب الديموقراطية الموالي للأكراد سابقًا) خوض المنافسة المحلية منفردًا بعدما فشلت التفاهمات والمواءمات مع حزب الشعب الجمهوري طارحًا مرشحيه في 59 ولاية، تنقسم إلى 16 بلدية حضرية بينهم إسطنبول وأنقرة وأزمير، و40 بلدية إقليمية، و3 مناطق. ويُمكن إيعاز قرار الحزب لسبيين رئيسيين؛ الأول: إرجاع التقديرات السياسية للحزب بتراجع شعبيته من 11.7% إلى 8.8% خلال الانتخابات العامة الأخيرة إلى تحالفه مع حزب الشعب الجمهوري، وأن استمرار الصيغة التحالفية نفسها دون الحصول على مكاسب تذكر من شأنه أن يفقد الحزب هويته ويجعله تابعًا للشعب الجمهوري. والثاني: رفض إمام أوغلو عرض الحزب الكردي لدعمه مقابل شروط ثلاثة تتضمن: إعلان التحالف الرسمي بين الحزبين، وتقديم الشعب الجمهوري دعمًا لمرشحي المساواة والديموقراطية في بعض مناطق إسطنبول، والتعهد بتعيين موالين للحزب في مناصب رفيعة ببلدية إسطنبول؛ ويبدو أن إمام أوغلو أراد الحصول على دعم الحزب الكردي مقابل وعود سرية وعدم إعلان التحالف بينهما علنًا خوفًا من استفزاز الناخبين القوميين والمحافظين وتفضيلهم المرشح المنافس.
6. تماسك تحالف الشعب الحاكم: أظهر تحالف الشعب تماسكًا بدرجة أكبر مقارنة بتحالف الطاولة السياسية مدعومًا بالدفعة المعنوية والسياسية للنصر الانتخابي في الانتخابات العامة 2023؛ فبينما انفصل حزبا الهدى بار الكردي والرفاه الجديد وقررا التقدم بمشرحين منفصلين، لم يواجه حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية، المكونان الرئيسيان لتحالف الشعب، أي عقبات كبيرة في تسمية المرشحين للانتخابات المحلية ونجحا في تقديم مرشحين موحدين في 30 مدينة حضرية، على أن تدعم الحركة القومية مرشحي العدالة والتنمية لمنصب عمدة العاصمة في 28 بلدية حضرية، والعكس بالنسبة لمنصب عمدة العاصمة في مرسين ومانيسا، ويتقاسم الحزبان الترشيحات في الولايات الـ 51 المتبقية اعتمادًا على شعبية كل منهما، ويستهدف التحالف استعادة المدن الكبرى، بما في ذلك القوة الاقتصادية والثقافية، مثل إسطنبول وأنقرة والمراكز الصناعية والزراعية والسياحية في أنطاليا وإزمير وأضنة ومرسين.
7. منافسة ذات طابع ضعيف لكن مُربك للأحزاب الصغيرة: تخوض ثلاثة أحزاب منخفضة الأوزان النسبية الانتخابات المحلية بمشرحيها المنفردين وهم حزب الرفاه الجديد (2.8% خلال الانتخابات العامة 2023)، وحزب النصر (2.23%)، وحزب العمال التركي (1.8%)، ورغم محدودية قدرتها على قلب نتائج الانتخابات، إلا أنها تخلق منغصات للأحزاب الكبيرة فكل صوت يحصل عليه هؤلاء يشكل خصمًا من أصواتهم. ويمتلك حزب العمال التركي التأثير الأضعف لمحدودية مرشحيه بحيث يتركز تأثيره في بلديات معينة مثل هاتاي، بينما يُمثل حزب الرفاه الجديد إزعاجًا أكبر بالنسبة للعدالة والتنمية بعدما فشلت محاولات تحالفهما، كونه يُنافس بإجمالي 617 مرشحًا لرئاسة البلديات، بما في ذلك 30 مدينة و51 مقاطعة و456 منطقة و90 بلدية، معظمهم أعضاء سابقون في حزب العدالة والتنمية، فغالبية المرشحين في مقاطعات مثل سكاريا وقونيا وكهرمان ماراش وبيتليس وبينغول هم أعضاء سابقون في الحزب الحاكم، ومن ثَمّ يُمكنهم اجتذاب قطاع من الناخبين الإسلاميين الذين يشعرون بخيبة الأمل أو عدم الرضا عن حزب العدالة والتنمية.
8. الميل للاستقالات الحزبية: مع انتهاء الأحزاب من تحديد قوائم مرشحيها، ارتفع عدد السياسيين الذين أعلنوا استقالتهم من أحزابهم معلنين انضمامهم إلى أحزاب أخرى ودعم مرشحي أحزاب منافسة، احتجاجًا سواء على عدم إعادة ترشيحهم أو على سياسات أحزابهم، وهي ظاهرة شهدتها أحزاب الجيد والعدالة والتنمية والديموقراطية والتقدم.
معركة إسطنبول
تكتسب إسطنبول مكانة مركزية في الانتخابات المحلية الحالية، فالمعركة الانتخابية الحقيقية مقرها إسطنبول، ومعيار الانتصار السياسي الحقيقي للحزبين الرئيسيين؛ العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، يتحدد بقدرة أحدهما على انتزاع إسطنبول تلك المدينة التي شهدت محطات محورية في التطور السياسي التركي، ولا تزال تُمثل رمزية مهمة بالنسبة للأطراف السياسية ولأردوغان شخصيًا لعديد من الأسباب:
• الأول: ارتكزت الحياة السياسية لأردوغان على نجاحه عندما كان عمدة بلدية إسطنبول عام 1994 عن حزب الرفاه ومن ثَمّ تدرج في المناصب السياسية حتى عين رئيسًا للوزراء ثم رئيسًا للجمهورية.
• الثاني: أن حزب العدالة والتنمية ظل مُسيطرًا على إسطنبول لعقدين كاملين منذ انتخابات 1999 حتى انتخابات مارس 2019 عندما استطاع مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو انتزاع الولاية.
• الثالث: يأخذ التصويت في إسطنبول طابعًا سياسيًا أكثر منه خدميًا إذ يُنظر إليها باعتبارها نموذجًا مُصغرًا للدولة التركية، فهي المدينة ذات الكثافة السكانية الأعلى بـ 15 مليونًا و655 ألفًا و924 نسمة (حوالي خُمس السكان) وتستضيف أُناس من جميع المدن المختلفة، ويكتسب حاكم المدينة مكانة معنوية لدى الجمهور تُعادل رئيس الوزراء، وبات متداولًا أن من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا، رغم أن نتائج الانتخابات العامة الأخيرة أثبتت عدم حتمية المقولة.
• الرابع: تنبع أهمية إسطنبول –كغيرها من البلديات الحضرية– من الصلاحيات والمسئوليات الواسعة الممنوحة لها في مجالات التخطيط الحضري واستثمارات البنية التحتية والنقل العام والخدمات الاجتماعية والتعليم والثقافة، مما استتبعه من زيادة إيرادات البلديات الحضرية، وتخصيص المزيد من الحصص من الموازنة المركزية للبلديات الحضرية.
• الخامس: سيكون لنتائج إسطنبول تأثير كبير على المستقبل السياسي لحزب الشعب الجمهوري وتماسكه، فإعادة انتخاب إمام أوغلو ستجعله الزعيم الطبيعي للمعارضة التركية وتعزز طموحاته الرئاسية، بينما فوز مرشح العدالة والتنمية سيعني استكمال الهيمنة السياسية لأردوغان، وسيؤدي إلى أزمة عميقة لحزب الشعب الجمهوري إذ سيُعد فشلًا سياسيًا لزعيمه الجديد أوزغور أوزيل مماثلًا لإخفاق سلفه كمال كيليجدار أوغلو في هزيمة أردوغان وتحالف الشعب خلال الانتخابات العامة، مما يُضعف مكانته السياسية والمركزية أمام التيارات المناوئة له داخل الحزب.
لذلك، تشهد إسطنبول المنافسة الأشرس بإجمالي 49 مرشحًا بينهم 22 حزبيًا و27 مستقلًا، حيث تسابقت الأحزاب على طرح مرشحيها للفوز بالمدينة الأهم؛ فبينما أعاد حزب الشعب الجمهوري ترشيح رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو، أوكل حزب العدالة والتنمية هدف “إسطنبول مرة أخرى” إلى وزير البيئة والتحضر الأسبق مراد كوروم. ودفع حزب المساواة والديموقراطية الشعبية بنائبة رئيس كتلته البرلمانية، ميرال دانيش بيشتاش ومراد تشيبني، مرشحَين مشاركَين لرئاسة بلدية إسطنبول. أما حزب الرفاه الجديد بزعامة فاتح أربكان فقدم زوج شقيقته محمد ألتين أوز للمنافسة، وأعلن حزب الجيد ترشيح رئيس فرعه في إسطنبول بوغرا كاونجو لرئاسة البلدية، فيما دفع حزب النصر القومي بظافر عزمي كارا أوموت أوغلو. ورغم المنافسة الشديدة، فإن السباق الانتخابي سينحسر بشكل رئيسي بين أكرم إمام أوغلو ومراد كوروم، وعليه، سيتم تقييم فرص كلاهما:
• أكرم إمام أوغلو: هو الرئيس الحالي للبلدية، والمرشح عن حزب الشعب الجمهوري، تشكل معركة إسطنبول لحظة فارقة لطموحات إمام أوغلو السياسية الذي أصبح نجمًا صاعدًا في السياسة التركية باعتباره الشخص الذي استعاد إسطنبول من حزب العدالة والتنمية؛ فإذا حسمها لصالحه فإنها ستكون بمثابة بوابته السياسية للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة 2028، أما حال خسارتها فربما تضع حدًا لمسيرته السياسية.
ويمتلك إمام أوغلو مقومات شخصية وعملية تؤهله للمنافسة، إذ يُعدّ شخصية سياسية قادرة على التواصل مع جمهور الناخبين بفئاتهم العمرية المختلفة عبر توظيف فن الخطابة والظهور المتكرر سواء تلفزيونيًا أو عبر الإعلانات العامة، فهو يُعطي أولوية للميزانيات المخصصة للإعلانات حتى إن بلدية إسطنبول الكبرى خصصت عام 2023 ميزانية قدرها 1.8 مليار ليرة للإعلانات، كما أنه يتقن استخدام وإدارة وسائل التواصل الاجتماعي إذ بلغ عدد متابعي حسابه على منصة X (تويتر سابقًا) حوالي 9 ملايين، هذا بالإضافة إلى صغر سنه نسبيًا مقارنة بالسياسيين البارزين (52 عامًا)، مما يسهل تواصله مع فئة الشباب الذين شكلوا الكتلة الحرجة الداعمة له خلال انتخابات 2019.
كذلك، يعيد إمام أوغلو استخدام الاستراتيجيات والخطابات التي تبناها خلال انتخابات 2019 التي تتضمن مفردات مثل “قناة إسطنبول”، وإيجاد حلول لمشكلات “النفايات” و”ارتفاع الإيجارات” و”محاربة الفساد”، ويلجأ أحيانًا إلى الخروج عن أجندة الانتخابات المحلية وخلق أجواء شبيهة لأجواء الانتخابات العامة في إسطنبول من خلال إطلاق تصريحات تستهدف أردوغان ليخلق تصورات وكأنه ينافس أردوغان. أيضًا، طور إمام أوغلو خطابًا سياسيًا يجتذب المرشحين اليمينيين للاستعاضة عن تحالف إسطنبول، ويبدو أنه أجرى تفاهمات غير معلنة مع حزب المساواة والديموقراطية الشعبية عكسها تفضيل الحزب تقديم المرشحة الأضعف ميرال دانيش بيشتاش، بدلًا من باشاك دميرطاش، زوجة صلاح الدين دميرطاش، وعدم طرح مرشحين في 22 مقاطعة من أصل 39 بإسطنبول.
بالمقابل يواجه إمام أوغلو تحديات عديدة؛ أولها: وجود انقسامات داخل حزب الشعب الجمهوري بين أنصار رئيسة الجديد أوزغور أوزيل والمقربين من رئيسه السابق كمال كيليجدار أوغلو الذين يتهمون أوزيل بتنفيذ عملية تطهير داخل الحزب، ويبدو صعبًا على المقربين من كيليجدار أوغلو دعم إمام أوغلو ما لم يُصرح الأول بدعمه.
وثانيها: احتمالية خسارة أصوات بعض المجموعات التي يعتمد على شعبيته بينها، مثل المجموعات الدينية المحافظة والقومية؛ فربما يتردد الناخبون المحافظون في دعمه خشية استغلال فوزه لتطوير طموحاته السياسية والمهنية متجاوزًا الصعيد المحلي للمنافسة على الصعيد الوطني خلال الانتخابات العامة 2028، وبالمقابل يكتسب حزب النصر القومي شعبية بين الناخبين القوميين الذين يرون أن إمام أوغلو متساهل للغاية مع اللاجئين السوريين والأكراد.
وثالثها: فقدان الدعم الكردي الذي يُشكل حوالي 7% إلى 8% من مجموع الناخبين في إسطنبول.
ورابعها: توجيه انتقادات لإمام أوغلو بسبب التركيز على الجانب الدعائي السياسي مقابل تراجع معدلات الإنجاز الخدمي مثل انخفاض معدلات التطوير الحضري للمناطق العشوائية، والاكتفاء بإنجاز مشروعات مواقف السيارات المطروحة قبل عام 2019 دون إضافة مشروعات جديدة لها، وفشل بلوغ هدف زيادة النقل البحري أربعة أضعاف، وانخفاض وتيرة توسيع مرافق البنية التحتية من طرق وخطوط مياه شرب وخزانات مياه ومرافق معالجة مياه الصرف الصحي خلال الفترة بين 2019-2023 مقارنة بالفترة بين 2014-2019. علاوة على انتقادات بشأن قضائه إجازات مع عائلته دون قطعها بينما تمر إسطنبول ببعض الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والسيول والفيضانات.
وخامسها: احتمالية تعرضه للتصويت العقابي احتجاجًا على فشل حزب الشعب الجمهوري خلال الانتخابات العامة، واستمرار الصراع على السلطة داخله.
وسادسها: احتمالية تأييد محكمة الاستئناف في 25 أبريل 2024 الحكم القضائي ضد إمام أوغلو بالسجن مدة تتراوح بين ثلاث إلى سبع سنوات بتهمة إهانة موظفين عموميين ومن ثَمّ مواجهة حظر سياسي.
إضافة إلى ذلك، فقد إمام أوغلو ميزتين أساسيتين مكنتاه من الفوز بين انتخابات 2019 و2024؛ الأولى: طابع المفاجأة، فخلال 2019 كان سياسيًا غير معروف نسبيًا لم يوله حزب العدالة والتنمية أهمية جدية وواجه بن علي يلدريم الذي كان واثقًا من فوزه، لذلك استطاع مفاجأة خصمه بتحركاته غير المتوقعة، وبشخصيته وأسلوبه السياسي وقدرته على اجتذاب الجمهور، أما هذه المرة، بات إمام أوغلو معروفًا لحزب العدالة والتنمية الذي وضع استراتيجية جدية لاسترداد رئاسة بلدية إسطنبول بالتركيز على أوجه قصور أداء خصمه خلال رئاسته للبلدية.
أما الثانية: فتتعلق بغياب “تحالف إسطنبول” الداعم، وهو ليس تحالفًا حزبيًا فعليًا، وإنما صيغة تفاهمية سياسية لدعم إمام أوغلو، فخلال انتخابات 2019 حصل على دعم مباشر من حزب الجيد ودعم غير مباشر من حزب الشعوب الديمقراطي، أما وإن انفض الحزبان عن دعم شريكهما السابق، وطرحا مرشحيهما في إسطنبول معتبرين أن فوز أو خسارة إمام أوغلو ليست مسئوليتهما السياسية، فإن المعادلة الحسابية في إسطنبول ستتغير وسيفقد إمام أوغلو كتلة تصويتية، وإن لم تكن فارقة فإنها مُرجحة؛ بالنظر إلى فارق الأصوات الضئيل الذي حسم بلدية إسطنبول لصالحه عام 2019 والمُقدر بـ 13.729 صوتًا فقط (رغم اتساع الفارق لحوالي 777 ألف صوت عقب إعادة الانتخابات، يُفضل القياس على نتائج الجولة الأولى كونها أكثر تعبيرًا عن المزاج الشعبي، ولا تحتمل تصويتًا عقابيًا ضد حزب العدالة والتنمية، ويبدو أنه حكم نتائج جولة الإعادة). وتقريبيًا، يفقد رئيس البلدية حوالي 18% من أصل 54% حصل عليهم عام 2019، مقسمين إلى حوالي 12% من الأصوات مصدرها حزب الشعوب الديمقراطية، وما بين 6% و7% من حزب الجيد.
• مراد كوروم: حرص حزب العدالة والتنمية على اختيار شخصية تتسق وطبيعة المهام المنوطة برؤساء البلديات ذات الطابع الخدمي بالأساس، فكوروم يمتلك سيرة ذاتية تُظهر خبرات في قطاع الخدمات، فهو مهندس مدني يجسد الدور المركزي الذي يلعبه البناء في المجالين الاقتصادي والسياسي التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، وعمل في إدارة تطوير الإسكان (TOKI) وهي مؤسسة لعبت دورًا رئيسيًا في مشاريع التنمية الحضرية لحزب العدالة والتنمية، قبلما يُعين وزيرًا للبيئة والتخطيط العمراني والتغير المناخي بين عامي 2018 و2023، ويشغل حاليًا منصب رئيس لجنة البيئة البرلمانية بعد فوزه نائبًا عن حزب العدالة والتنمية في اسطنبول خلال انتخابات 2023.
ويسعى كوروم لتوظيف استراتيجية إمام أوغلو الناجحة خلال انتخابات 2019، ومضمونها عدم اللجوء إلى الخطابات السياسية، واعتماد لغة إيجابية قدر الإمكان، والتركيز على قضايا إسطنبول؛ إذ ركزت حملته على معالجة أوجه قصور سياسات إمام أوغلو عبر الوعد بتطوير خدمات تتضمن التأهب للزلازل وإيجاد حلول لحركة المرور الكثيفة والمشاكل الناجمة عن الفيضانات واستكمال مخططات التحول الحضري، ويستخدم فريق حملته الانتخابية وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي لإيصال هذه الرسائل للجماهير. ولعل إحدى مزايا خبرات كوروم السابقة هي الادعاء بأنه الشخصية الأجدر بتأهيل مدينة إسطنبول التي تواجه احتمال حدوث زلزال مدمر. كذلك، تشكل حقيقة صغر سن كوروم (48 عامًا) ميزة نسبية لجعله قادرًا على مخاطبة فئة الشباب واجتذابهم. فضلًا عن أردوغان بثقله خلف كوروم عبر مشاركته الشخصية في الحملات الانتخابية الميدانية، وتعبئة موارد الدولة لصالح حملته الانتخابية.
وبالمقابل، يفتقد كوروم للشخصية الكاريزمية ويتميز بالطابع الاحتوائي المُسالم مقارنة بإمام أوغلو القادر على جذب انتباه الجمهور خلال المناسبات التي يحضرها، ويواجه اتهامات بالفساد تتعلق بتلقي رشوات وتكبيد الدولة خسائر مالية خلال تولية إدارة تطوير الإسكان، كما أنه شخصية تكنوقراطية وليس سياسيًا معروفًا يمتلك قاعدة جماهيرية ومن ثَمّ ربما سيعتمد بالأساس على الدعم السياسي لأردوغان وكوادر حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، ومع ذلك، يبدو أنه لم يجنِ إجماع حزب العدالة والتنمية؛ فكل من سلجوق بيرقدار، صهر أردوغان، وعلى يرليكايا، وزير الداخلية، لم يتحمسا لكوروم وأظهرا ميلًا أكبر لإمام أوغلو.
ختامًا، يُمكن القول إن الترقب هو سيد الموقف لبيان ما إذا كان حزب العدالة والتنمية سيحقق النجاح نفسه الذي حققه في المدن الكبرى عام 1994، أم سيحافظ حزب الشعب الجمهوري على مكتسبات عام 2019، مع ترجيحات بأن يتمكن حزب العدالة والتنمية بانتزاع إسطنبول الذي يوليها أهمية خاصة مع فرص أقل بالنسبة للبلديات الكبرى الأخرى مثل أنقرة وأزمير، مع التأكيد على أن الباب لا يزال مفتوحًا أمام تفاهمات وصفقات اللحظات الأخيرة التي قد يتوصل إليها حزب العدالة والتنمية أو الشعب الجمهوري مع الأحزاب المنافسة الصغيرة في بعض البلديات لسحب مرشحيهم الأقل حظًا في الفوز ضمانًا لعدم تفتيت الأصوات مقابل وعود انتخابية.