في خضم مشهد مضطرب تعصف فيه حدة الصراعات العنيفة المتلاحقة والمتزامنة، والتحديات المتعددة التي تُواجه الحكومة الفيدرالية الإثيوبية في مختلف أقاليم البلاد، تتصاعد وتيرة المعارك المسلحة بين قوات الجيش الإثيوبي ومليشيا فانو في إقليم أمهرا بشمال غرب البلاد، وتحديدًا بعد إطلاق الحكومة الإثيوبية عملية عسكرية نهائية في الأول من أكتوبر 2024، وذلك بالتنسيق مع قوات الأمن الإقليمية في إقليم أمهرا ضد مليشيا فانو. وفي الوقت نفسه قامت بحملات اعتقال تعسفية تستهدف شبكات دعم ومؤيدي فانو. ضمن هذا السياق، تنطوي المواجهات المسلحة بين الجيش الإثيوبي ومليشيا “فانو” الأمهرية على مجموعة من العوامل البنيوية والأبعاد العابرة للحدود الوطنية، والتداعيات الخطرة على آفاق السلام المستدام، ومستقبل “الفيدرالية الإثنية”، ويمكن توضيح ذلك تاليًا:
أولًا- جدل الأراضي المتنازع عليها في جنوب وغرب إقليم تيجراي:
تمثلت الدوافع المباشرة للصراع في إقليم أمهرا في خطة الحكومة الفيدرالية الإثيوبية في أبريل 2023، لنزع سلاح القوات الإقليمية الخاصة ومليشيا “فانو” ودمجها في الجيش والشرطة الفيدرالية، واستقبال النخب الأمهرية اتفاق بريتوريا للسلام مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي في نوفمبر 2022، بحالة من الشك وعدم الثقة في سياسات “آبى أحمد”؛ مما تسبب في تفكيك الشراكة بين الحلفاء السابقين، واندلاع اشتباكات عنيفة في أوائل أغسطس 2023 في جميع أنحاء إقليم أمهرا، وامتدت مسارح القتال إلى مدن رئيسية بما في ذلك عاصمة الإقليم (بحر دار)، ومدن مثل جوندار ولاليبيلا، التي استولى عليها المتمردون لفترة وجيزة، ونجحت القوات الفيدرالية في طردهم، لكن أعادت مليشيات فانو تجميع صفوفها في المناطق الريفية التي اتخذت منها مناطق ارتكاز لشن هجمات جديدة على المدن الحضرية.
على الرغم من ذلك، ثمة معضلات مُرحلة ومظالم قديمة على مدار السنوات الماضية وأسباب جذرية للمواجهات المسلحة الدائرة في إقليم أمهرا؛ حيث يظل السخط المتعلق بقضية الأراضي المتنازع عليها في جنوب وغرب إقليم تيجراي محل جدل واسع بين سكان المجتمعات الأمهرية القاطنين في مناطق (ويلكايت ورايا) جنوب وغرب إقليم تيجراي، مع رغبة هذه المجتمعات أن تكون تحت حكم وإدارة سلطة إقليم أمهرا، ومعارضة معظم الأمهرين إجراء أي استفتاء لتقرير مصير هذه المجتمعات، وضرورة اتخاذ قرار سياسي لحسم هذه القضية، وما فاقم من هذه القضية المادة (10) بند رقم (4) في اتفاق بريتوريا التي نصت على حل قضية الأراضي المتنازع عليها وفقًا لدستور إثيوبيا لعام 1995، وهو ما يعني وفقًا للنخب الأمهربة موافقة ” آبى أحمد” على تسليم هذه الأراضي للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي.
ثانيًا- استهداف مجتمعات أمهرا وصعود مليشيا “فانو”:
تعرضت مجتمعات أمهرا لانتهاكات وهجمات عنيفة قبل وبعد وصول “آبي أحمد” برغم من تعهده بإنهاء السياسات الإثنية التمييزية، ومعاملة الجميع على قدم المساواة تحت شعارات الوحدة الإثيوبية ومبدأ التآزر (Medemer)، واستيعاب الاختلافات السياسية، لكن أصبحت مجتمعات الأمهرا في جميع أنحاء البلاد هدفًا للهجمات وتزايد عمليات النزوح وتحديدًا في أوروميا، وبني شنقول- جوموز، وسط حالة من التراجع لدور القوات الفيدرالية في الدفاع عن المدنيين والبنية التحية في إقليم أمهرا وبشكل خاص في أثناء حرب تيجراي، ورصدت العديد من التقارير ومنها تقرير المركز الأوروبي للقانون والعدالة (ECLJ) بعنوان “المعاناة الصامتة لشعب الأمهرا في إثيوبيا” المنشور في أبريل 2024، الذى يوضح حجم التحديات والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وعمليات النزوح القسري، وحوادث القتل المتعمدة التي تواجهها مجتمعات الأمهرا.
على خلفية هذا المشهد، تشكلت مليشيا “فانو” الأمهرية لمواجهة القمع المنهجي وعمليات الإبادة الجماعية ضد شعب الأمهرا، وإنقاذ إثيوبيا من البلقنة تحت شعار “نقطة انطلاقنا أمهرا، ونقطة نهايتنا إثيوبيا”، واستطاعت “فانو” إقامة علاقات إيجابية مع سكان المجتمعات المحلية في أمهرا، ويرجع ذلك إلى دورها في الدفاع عن السكان المدنيين من الأمهرا خلال حرب تيجراي؛ مما ساعدها في تكوين قاعدة مجتمعية قوية مع هذه المجتمعات بشكل خاص في منطقة شرق وغرب جوجام التي تتعاون مع مليشيا “فانو” من خلال تبادل المعلومات، وتقديم الدعم اللوجستي، وتوفير الملاذات الآمنة. وعلى النقيض من الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، قد تتمكن مليشيا فانو من جلب الإمدادات عبر الحدود السودانية، في ظل تطور قدراتها العسكرية.
ثالثًا- احتدام مسار المعارك العسكرية في أمهرا:
بعد فترة من الهدوء والهجمات منخفضة الحدة منذ أغسطس 2023، استطاعت مليشيا “فانو” توسيع مناطق سيطرتها على العديد من الطرق الرئيسية ومهاجمة جوندار ثاني أكبر مدينة في إثيوبيا في سبتمبر 2024، وقامت بنهب أسلحة وذخيرة من قواعد قوات الدفاع الإثيوبي، وأعادت إمداد نفسها لشن مزيد من الهجمات، مع تغير نمط القتال من أسلوب حروب العصابات إلى حروب الاستنزاف لقوات الجيش الإثيوبي، وفي المقابل ضاعفت قوات الدفاع الوطني الإثيوبي عملياتها العسكرية المضادة بين منتصف شهري سبتمبر وأوائل أكتوبر 2024، وذلك باستخدام الطائرات المسيرة. بالإضافة إلى ذلك، تصاعدت الاشتباكات المسلحة في مناطق شرق أمهرا؛ حيث هاجمت مليشيات فانو قواعد عسكرية في بلدة ولديا يومي 13 و14 أكتوبر 2024، وردت قوات الدفاع الوطني الإثيوبي بإطلاق قذائف الهاون، ووقعت اشتباكات أخرى في غرب وشرق جوجام، وشمال وجنوب وللو.
وقد أفرزت المعارك العسكرية معاناة ومآسي آلاف اللاجئين السودانيين ومواجهة المخاطر نفسها في معسكرات ومخيمات اللاجئين (كومر وأولالا) بإقليم أمهرا، مع التحول من مناطق لجوء إلى أخرى بحثًا عن أماكن أمنة بعيدًا عن الاشتباكات المسلحة في إقليم أمهرا، وبعد أن كانت هذه المخيمات بمثابة ملاذ وبوتقة للاجئين السودانيين الفارين من الصراع السوداني، أصبحت هذه المخيمات رمزًا لأزمة إنسانية أوسع نطاقًا تجتاح المنطقة ككل.
رابعًا- آفاق قاتمة للسلام:
على الرغم من الوضع الإنساني الكارثي في إقليم أمهرا، لا تتقدم المفاوضات بين الحكومة الإثيوبية ومليشيا فانو، ومن غير المرجح أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق خلال الأشهر المقبلة، في ظل تعارض الأهداف، وفشل محادثات السلام في أغسطس 2024، مع استمرار الأعمال القتالية، وإصرار الحكومة الإثيوبية على الحسم العسكري في مواجهة مليشيا فانو.
كما توجد مجموعة من التحديات المعرقلة لإجراء أي مفاوضات سلام أبرزها تباين وجهات النظر بشأن الأراضي المتنازع عليها في جنوب وغرب تيجراي، ومُعضلة تمثيل أمهرا في المفاوضات في ضوء الافتقار إلى الوحدة، والصراعات الداخلية داخل فصائل فانو المختلفة، وقد أكد على هذا التحدي “إسكندر نيجا”، وهو زعيم بارز في جبهة فانو الشعبية؛ حيث صرح بأن “فانو ليست مستعدة للتفاوض مع الحكومة الإثيوبية نتيجة تركيزها الحالي على التوحيد الداخلي”.
حاصل ما تقدم، تظل عقدة المظالم التاريخية والنزاعات المتشابكة في إثيوبيا عقبة في سبيل حل الخلافات بين الخصوم والفصائل الإقليمية المتنافسة في الداخل الإثيوبي، مع تفاقم مأزق “آبى أحمد” في الموازنة بين عدم الاستقرار الحالي في أمهرا ومخاطرة العودة إلى الحرب الأهلية في تيجراي في حالة عدم تنفيذ اتفاق بريتوريا، في ظل تغير خريطة التحالفات الداخلية، واختلال توازن القوة الفيدرالية في مواجهة تحدى المليشيات والجماعات المسلحة، ومخاطر انتقال وزحف الاضطرابات من إقليم أمهرا إلى الأقاليم الأخرى.