يُلقي تباطؤ الاقتصاد الأمريكي بظلاله القاتمة على المشهد العالمي، ضاربًا ناقوس الخطر لركود محتمل قد يجتاح مختلف أرجاء المعمورة. ونظرًا لمكانة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عظمى، فإنّ أي اهتزاز يضربها يُحدث ارتداداتٍ عنيفةٍ في مختلف أنحاء العالم.
يُواجه الاقتصاد الأمريكي تحدياتٍ جمةٍ تُنذر باحتمال دخوله في حالة ركودٍ خلال الفترة القادمة، حيث خفض الخبراء والمحللون الاقتصاديون توقعات النمو للعام الجاري بشكلٍ كبير، لتنخفض على إثرها توقعات النمو الاقتصادي للولايات المتحدة خلال الربع الثاني من العام الجاري بنسبةٍ كبيرةٍ وصلت إلى 50%. فقد تمّ خفض التوقعات من 3.4%، التي كانت سائدةً في بداية العام، إلى 1.8% فقط؛ ممّا يُمثل مؤشرًا خطيرًا على ضعفٍ ملحوظٍ في النشاط الاقتصادي.
لا تقتصر المخاوف على خفض توقعات النمو فقط، بل تتضافر معها العديد من المؤشرات التي تُعزز احتمالية دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركودٍ خلال الفترة القادمة تتمثل في أداء متراجع لقطاع التصنيع؛ والذي يُعدّ أحد أهم محركات النمو الاقتصادي، وتراجع أدائه مؤشرٌ خطيرٌ على ضعفٍ عامٍ في الاقتصاد، فقد انكمش نشاط التصنيع الإجمالي في الولايات المتحدة للمرة الـ 18 خلال العام ونصف فقط؛ ممّا يُشير إلى تباطؤٍ ملحوظٍ في الإنتاج والطلب.
أضف لهذا الضعف في الإنفاق الاستهلاكي؛ والذي يمثل أحد أهم مكونات النمو الاقتصادي حيث يشكل الإنفاق الاستهلاكي ثلثي الاقتصاد الأمريكي، ويُعدّ تراجعه مؤشرًا خطيرًا على ضعفٍ في القوة الشرائية للمستهلكين، فقد سجلت مؤشرات نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي 2.8% فقط خلال شهر إبريل الماضي؛ ممّا يُشير إلى ضعفٍ في الإنفاق الاستهلاكي للمواطنين.
وقد حذر الخبير الاقتصادي البارز “محمد العريان” من مخاطر جسيمة تلوح في الأفق، ناشئة عن تباطؤ الاقتصاد الأمريكي بشكل أسرع من المتوقع، وقد أشار إلى أن مؤشرات التضخم، وعلى رأسها مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي، تُظهر تباطؤًا ملحوظًا، بينما يتمسك البنك الفيدرالي بسياساته النقدية الحالية دون مراعاة لهذه التطورات.
يُؤكد العريان على أن الاقتصاد الأمريكي يتباطأ بوتيرة أسرع مما توقعه معظم المحللين، كما يُجادل بأن الاقتصاد الأمريكي يفتقر إلى المساحة الكافية للمناورة، وأن استمرار البنك الفيدرالي في الاعتماد على البيانات التاريخية بشكل مفرط يُشكل خطًا فادحًا. ويُشير إلى أن تجاهل سوقي الأسهم والسندات الأمريكية للضغوط الاقتصادية والسياسية، سواءً الداخلية أو الدولية، ينبع من 3 معتقدات راسخة لدى المستثمرين، والتي تتمثل في استثنائية الاقتصاد الأمريكي وقدرته على تجاوز التحديات والتغلب على أي أزمات، إلى جانب توقعات أن يُقدم البنك الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة في القريب العاجل، هذا بالإضافة إلى تحفيز النمو الاقتصادي بفضل ثورة الذكاء الاصطناعي.
ولعل تلك المعتقدات تمثل السبب وراء الجدل بين خبراء الاقتصاد والسياسيين حول الدلالات التي تحدد الركود، إلا أن المؤشرات الاقتصادية والمتمثلة في تباطؤ نمو الإسكان والتصنيع تعكس انخفاضًا كبيرًا في النشاط الاقتصادي الأمريكي بغض النظر عن إعلان حالة الركود رسميا أم لا.
يقدم هذا المقال في فقراته التالية تحليلًا لأبرز تداعيات ركود الاقتصاد الأمريكي على الاقتصاد العالمي بداية من توقعات النمو الاقتصادي، والمديونية العالمية، بالإضافة إلى أبرز التداعيات على أسواق السلع الرئيسية، والمعادن والنفط.
أولًا: ركود أمريكي يهدد النمو العالمي
يُتوقع أن يُؤدي تباطؤ الاقتصاد الأمريكي إلى انخفاضٍ ملحوظٍ في معدلات النمو العالمي. فمع تراجع الطلب الأمريكي على السلع والخدمات، ستُعاني الدول المصدرة بشكلٍ خاص من هذه الظاهرة. ويشير تقرير البنك الدولي الأخير “الآفاق الاقتصادية العالمية” الصادر في يونيو 2024 إلى استقرار النمو العالمي في عام 2024 للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات، لكن عند مستويات منخفضة مقارنة بالمعايير التاريخية الحديثة.
ويتوقع البنك الدولي أن يظل النمو العالمي ثابتًا عند 2.6% في عام 2024، ثم يرتفع إلى 2.7% في المتوسط خلال الفترة 2025-2026. يعتبر هذا الرقم أقل بكثير من متوسط 3.1% الذي كان سائدًا في العقد السابق لجائحة كورونا. كما يُشير التقرير إلى أن بلدانًا تمثل أكثر من 80% من سكان العالم وإجمالي الناتج المحلي ستشهد نموًا أبطأ خلال الفترة 2024-2026 مقارنة بالعقد السابق للجائحة.
وفي ظل ما يعانيه الاقتصاد الأمريكي تشهد الاقتصادات الكبرى عددًا من التحديات تتمثل في حالة الركود التي تُعاني منها الصين، ناتجة عن أزمةٍ حادةٍ في قطاع العقارات، وظهر هذا جليًا في هجرة عدد كبير من المستثمرين الأجانب؛ ممّا أدى إلى تراجعٍ كبيرٍ في قيمة الأسهم، حيث فقدت 7 تريليونات دولار منذ ذروتها في أوائل عام 2021 حتى 2024. لتُعاني بذلك من أطول سلسلة انكماشية منذ الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة بلومبيرج في فبراير 2024.
ولا تسلم أوروبا من مخاطر الركود أيضًا، حيث انزلقت المملكة المتحدة في ركودٍ معتدلٍ في النصف الثاني من عام 2023، وتُواجه ألمانيا خطر الانكماش مجددًا في عام 2024؛ ممّا قد يجرّ معه بقية منطقة اليورو إلى هاوية الركود، كما سقطت اليابان، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بشكلٍ غير متوقعٍ في حالة ركودٍ العام الماضي.
ثانيًا: تداعيات على التجارة العالمية
ستُلقي حالة الركود الأمريكي بظلالها سلبًا على حركة التجارة العالمية، حيثُ ستُؤدي إلى انخفاض الطلب على الواردات من مختلف الدول. وبالتالي، ستُواجه الدول المصدرة صعوباتٍ جمةً في بيع منتجاتها؛ ممّا قد يُؤدي إلى تراكم الفوائض التجارية وتراجع الإيرادات.
رفع البنك الدولي توقعاته لنمو التجارة العالمية في العام 2024 إلى 2.5%، وفي العام المقبل 2025 إلى 3.4%. وبحسب تقرير نشره البنك الدولي سيبلغ نمو التجارة العالمية من السلع والخدمات في نهاية العام الحالي 2.5%، بزيادة نسبتها 0.2% عن التوقعات المنشورة في يناير الماضي.
كما قدمت وحدة إيكونوميست إمباكت في عام 2024 تقرير (التجارة في مرحلة انتقالية: مواجهة تيارات عدم اليقين) والتي قدمت مشهد سلاسل التوريد العالمية في عام 2024 صورةً متناقضة من التحديات والتفاؤل. بينما تُشكل تكاليف الشحن المرتفعة ونقص سائقي الشاحنات وعمليات التسليم الأخيرة عبئًا على الشركات، يُقدم التقدم التكنولوجي وتحسن الاستقرار الاقتصادي أسبابًا للأمل. وتُصبح إدارة سلاسل التوريد الفاعلة أكثر أهميةً من أي وقت مضى، مع اعتماد الشركات على نماذج هجينة وتوظيف حلول ذكية لتحقيق الكفاءة والقدرة على الصمود.
ثالثًا: مصير النفط والذهب على المحك
يُتوقع أن يُؤثر تباطؤ الاقتصاد الأمريكي في أسعار النفط والذهب بشكلٍ مُتباين. فمن ناحية، قد يُؤدي انخفاض الطلب على الطاقة إلى تراجع أسعار النفط. أمّا من ناحية أخرى، فقد يلجأ المستثمرون إلى الذهب كملاذٍ آمنٍ لحماية ثرواتهم خلال فترات عدم اليقين؛ ممّا قد يُؤدي إلى ارتفاع أسعاره.
وفيما يخص السلع الأساسية فمن المتوقع أن يظل متوسط أسعار السلع الأساسية في الفترة 2024-2025 أعلى بنحو 40% تقريبًا مقارنة بمستويات السنوات 2015-2019. على سبيل المثال، من المتوقع أن تتراجع أسعار الطاقة والسلع الغذائية، لكنها ستظل أعلى بنحو 40% و30% من متوسطات السنوات 2015-2019 على التوالي. كما من المتوقع أن ترتفع أسعار المعادن الأساسية بصورة طفيفة هذا العام والعام المقبل بنحو 40% مقارنة بما كانت عليه في 2015-2019.
الشكل: ارتفاع أسعار السلع الأساسية مع ضعف معدلات النمو
خاتمة
يُمثل تباطؤ الاقتصاد الأمريكي تحديًا كبيرًا للاقتصاد العالمي بأسره. فمن المتوقع أن يُؤدي إلى انخفاض معدلات النمو، وتراجع التجارة العالمية، وازدياد حدة التقلبات في الأسواق المالية. ومع ذلك، تبقى بعض المؤشرات الإيجابية، مثل احتمالية ارتفاع أسعار الذهب؛ ممّا قد يُساهم في تخفيف حدة بعض التأثيرات السلبية. ولكن في نهاية المطاف، يعتمد مسار الأحداث على سرعة تعافي الاقتصاد الأمريكي وفاعلية السياسات المُتخذة لمواجهة تداعيات هذا التباطؤ.