لم يُقدِّم البيت الأبيض إجابة واضحة لإسرائيل على طلبها زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد إلى واشنطن مدة شهرين ونصف شهر، حتى تقرر موعد زيارة “نفتالي بينيت” في 26 أغسطس 2021. أثناء ذلك تبادلت الوفود الأمنية الأمريكية والإسرائيلية زيارات بين البلدين؛ لتنسيق وجهات النظر حول طبيعة إدارة التهديدات الأمنية الإيرانية في المنطقة، وبحث مدى تقدم برنامجها النووي. وتستهدف الزيارة -بشكل عام- تقريب وجهات النظر الإسرائيلية الأمريكية بشأن مجموعة من القضايا والملفات، ويدرك “نفتالي بينيت” أن مهمته الصعبة ستكون حول ترتيب أولويات هذه القضايا على أجندة العلاقات المشتركة.
الصورة العامة (خطة إسرائيلية بديلة)
سيسافر “بينيت” في أول زيارة خارجية له منذ تنصيبه رئيسًا لحكومة إسرائيل (إبريل 2021) إلى الولايات المتحدة مع مستشاريه الدبلوماسيين والأمنيين المقربين، أبرزهم مستشار الأمن القومي “إيال هولتا” (رجل الموساد السابق والمقرب من بينيت)، وقد سبق هذه الزيارة المقررة في 26 أغسطس زيارات متبادلة على مدار شهرين ونصف شهر للوفود الأمنية والعسكرية بين إسرائيل والولايات المتحدة من أجل تنسيق القضايا المشتركة المتعلقة بالتحديد بالأزمة الإيرانية. فعلى سبيل المثال، هدفت زيارة مسئول وكالة سي آي إيه (CIA) الأمريكية إلى سد الفراغات المعلوماتية من أجل إدارة رشيدة ومتناسقة لدى الجانبين للملف الإيراني.
يسافر “بينيت” إلى واشنطن وهو يحمل هدفًا عامًا هو ترميم العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية التي تدهورت أثناء فترة حكم “نتنياهو” لإسرائيل نتيجة مجموعة من العوامل من بينها هجومه المتكرر على السياسات الأمريكية في عهد “أوباما”، ثم هجومه على الحزب الديمقراطي في فترة “ترامب”. كما استدركت إسرائيل متأخرة أنها تفقد قاعدتها الشعبية بين الشباب الأمريكيين والمجتمع اليهودي المحسوب على الحزب الديمقراطي، وهو ما انعكس بشكل ملحوظ على شكل العلاقة بين إسرائيل وجماعات الضغط اليهودية.
يدفع الديمقراطيين بشكل عام -سواء من الأمريكيين المسيحيين أو اليهود- اعتبار سياسي أخلاقي تجاه إسرائيل يتمثل في رؤية الأخيرة دولة ديمقراطية ليبرالية لا تتحكم بها سياسات يمينية متطرفة، وبالتالي تهدد أمن إسرائيل ذاتها وتفجر المنطقة بأزمات أمنية غير مطلوبة. ذلك الدافع الذي ظل يدخل ضمن محددات العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية إبان عهد “أوباما” ويعود مرة أخرى في عهد “بايدن”، ويفسر سبب تصريحات إدارة “بايدن” المتكررة بالحفاظ على حل الدولتين كحل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني (حتى وإن ظلت التصريحات في إشارتها اللفظية فقط دون ترجمة واقعية).
لكن الدوافع الاستراتيجية الأهم للحكومة الإسرائيلية الحالية -بالتحديد: رئيس الحكومة، الأجهزة والمؤسسات الأمنية، الجيش الإسرائيلي- يمكن إجمالها في ثلاثة دوافع رئيسية، تشمل:
(1) إقناع الولايات المتحدة بسياسة إسرائيل في إدارتها للملف الإيراني –البرنامج النووي ونفوذها الإقليمي- من خلال أدوات هجومية على المستوى العسكري والاقتصادي يتضح في التصريح بأن إسرائيل صاغت خطة شاملة لمواجهة إيران مدة شهرين.
(2) أن تنجح إسرائيل، على أقل تقدير، في تقديم خطة بديلة للولايات المتحدة في حال فشلت مباحثات الاتفاق النووي. لا سيما وأن هناك تقديرات تشير إلى تعرقل الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران، وتقديرات إسرائيلية تقول إن إيران تفصلها خطوات بسيطة على تصنيع قنبلة نووية واحدة، بعد نجاح طهران في تخصيب اليورانيوم بنسبة بين 20٪ إلى 60٪، وتطوير أجهزة الطرد المركزي، واستخدام اليورانيوم المعدني.
(3) أن تطرح إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة دمج أطراف إقليمية في الشرق الأوسط لصياغة معادلة الأمن الإقليمي الموجهة ضد إيران ووكلائها في المنطقة؛ لتحقيق عاملين: أن تظل إسرائيل هي رأس الحربة في الملف الإيراني في المنطقة والمدافع بالتحديد عن قلاقل دول الخليج. يضاف إلى ذلك أن يسمح التكتل الإقليمي مواجهة جماعية للتهديد الإيراني المتمثل في الصواريخ والدرونز.
الرؤية الأمريكية تجاه إسرائيل
سبق تحديد زيارة “نفتالي بينيت” إلى واشنطن اتصال من نائب الرئيس الأمريكي “كاميلا هاريس” لرئيس إسرائيل “يتسحاق هرتوسج” أكدت فيه على “أمن إسرائيل” وعلى “حل الدولتين”. وعلى الرغم من إزاحة حكومة “نتنياهو” ذات الطبيعة الهجومية المسببة للتوتر مع واشنطن من المشهد السياسي الإسرائيلي وصعود حكومة تروج لنفسها بأنها “حكومة وطنية” فمن البديهي أن تتزايد مساحة التقارب في وجهات النظر بين الجانبين في كثير من الملفات. إلا أنه لا يزال هناك عدد من القضايا العالقة، يمكن توضيح وتفكيك تعقيدات أبرزها.
١. القضية الفلسطينية:
وافقت الولايات المتحدة على تأجيل فتح قنصليتها في القدس الشرقية حتى إقرار الموازنة العامة في نوفمبر القادم منعًا من سقوط الحكومة الهشة التي تجمعها تناقضات أيديولوجية “أشبه بالحادة”. ترافق الزيارة المقررة تصريحات من مسئولين إسرائيليين (من بينهم وزيرة الداخلية المتطرفة أييلت شاكيد) التي تقر برفض الحكومة الحالية إقامة دولة فلسطينية.
في المقابل، يرى الحزب الديمقراطي في أجندته الاستراتيجية التي تنعكس على موقف الإدارة الحالية أهمية بقاء السلطة الفلسطينية كونها الشريك الفلسطيني على طاولة المفاوضات أمام إسرائيل من أجل الوصول إلى تسوية نهائية على أساس مبدأ حل الدولتين، لكن تحاول إسرائيل تقديم متغير إضافي في روايتها بشأن القضية الفلسطينية وهي خطط السلطة الفلسطينية للانتشار في غور الأردن المدعومة ماليًا من الاتحاد الأوروبي. إذ صرّح رئيس المستوطنات الإسرائيلية في الضفة بأن على “بينيت” أن يصطحب معه خريطة تبين تغول رام الله في المنطقة (ج) بالضفة (حسب الرواية الإسرائيلية)؛ تمهيدًا لتبرير أحقية إسرائيل ضم الغور لسيادتها.
من جهة أخرى، ترفض الولايات المتحدة سياسة الاستيطان في الضفة لأنها تهدر فرص إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وذات جغرافيا طبيعية، وذات سيادة مستقلة ومستقرة، وهو ما تبين في استدراك تل أبيب مؤخرًا لعدد المستوطنات الذي تم إقراره وإنقاص العدد من 3000 إلى 2500 وحدة استيطانية. من الصعوبة أن تقبل الحكومة الجديدة وقف الاستيطان لعدة عوامل أهمها هو: (1) الحفاظ على تماسك المجتمع الديني والقومي المتطرف وكسب ثقته السياسية. (2) تقويض ظاهرة نزوح الحريديم إلى المجتمعات الإسرائيلية العلمانية، ومن ثم تزايد التوتر بين الدينيين والعلمانيين داخل المدن الإسرائيلية. لذا من المقدر ألا تتوقف الحكومة عن البناء، كما تحرص واشنطن على فرض الاستقرار الأمني والتنموي في قطاع غزة، وهو ما يعني ضرورة التنسيق الكامل مع مصر لدعم جهودها في إعادة الإعمار؛ لذا من المقدر أن تقبل إسرائيل فك الارتباط بين ملفي تبادل الأسرى وإعادة الإعمار، يزيد على ذلك التقديرات الإسرائيلية التي تشير إلى احتمالية تجدد التصعيد الأمني مع حماس.
يخلص القول -في هذا السياق- إلى أن على إسرائيل تقديم تنازلات حرجة في القضية الفلسطينية (تشمل الضفة والقطاع) من بينها تعزيز سلطة رام الله، بما يضمن تقريب وجهات النظر بين إسرائيل والأردن -التي تعود لأن تصبح فاعلًا إقليميًا مهمًا بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط- فيما يتعلق بغور الأردن، وبين إسرائيل ومصر فيما يتعلق بقطاع غزة.
٢. إعادة النظر في طبيعة العلاقة الإسرائيلية-الصينية:
أصبحت المنافسة بين القوى العظمى والدور المتنامي لروسيا والصين في الشرق الأوسط على جدول الأعمال الأمريكي الإسرائيلي متزايدة، فقد صرّحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية بأن “واشنطن تعلم أن شركاءها وحلفاءها في الشرق الأوسط يقيمون علاقات تجارية مع الصين، وهذا قد يكون جيدًا، لكننا أوضحنا لهم أن هناك نوعًا معينًا من التعاون لا يمكننا التعايش معه”.
ترغب الولايات المتحدة في أن تضمن انضمام حليفتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط (إسرائيل) لمعسكر الدول الديمقراطية في العالم المناهض لمعسكر الصين من أجل بناء نظام عالمي ليبرالي يتوافق مع السياسة الأمريكية. من جهتها، تواجه إسرائيل معضلة في هذا الملف تتبين تعقيداتها في التالي:
(1) هناك زخم إيجابي في العلاقات الإسرائيلية-الصينية في السنوات الأخيرة. تهتم الصين بشكل متزايد بالتكنولوجيا الإسرائيلية، وتشارك الشركات الصينية في مشاريع البنية التحتية الإسرائيلية (رغم الإشارة الإعلامية الإسرائيلية إلى الهجمات السيبرانية الصينية على البنية التحتية الإسرائيلية). علاوة على ذلك، تتفاوض إسرائيل والصين على اتفاقية للتجارة الحرة يمكن توقيعها في وقت متأخر من هذا العام.
(2) تزايد ظاهرة انعدام اليقين في آسيا، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وصعود طالبان سيدفع إسرائيل إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والأمنية مع الدول الآسيوية الرئيسية على رأسها الصين والهند.
(3) صرحت الصين بأنها لن تتنازل عن هجوم إسرائيل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في حال تناسب ذلك مع مصالحها الخاصة المباشرة. وهو ما يعني أن الصين تخطط لانخراط عميق في الشرق الأوسط وبحث فرص إعادة إعمار دول الصراعات مما يستلزم الحاجة الإسرائيلية إلى عدم تفكيك العلاقة مع الصين، (على الأقل) من أجل تنسيق الرواية الإسرائيلية بشأن القضية الفلسطينية مع الصين، وترتيب المصالح الإسرائيلية في الإقليم بالتحديد في سوريا ولبنان.
(4) ترفض الولايات المتحدة تداخل العلاقة بين إسرائيل والصين في مشروعات حساسة مثل مشروعات التكنولوجيا ذات الاستخدام المشترك (المدني والعسكري) مثل الأمن السيبراني على سبيل المثال. كانت الهجمات السيبرانية الصينية اختبارًا صينيًا لإسرائيل على مدى فعالية أمنها، وأنها تستطيع الوصول إلى البنية التحتية الإسرائيلية حتى وإن امتلكتها شركات أمريكية، وهو ما لا ترغب فيه إسرائيل أن تكون ساحة هجمات سيبرانية صينية أمريكية. في الوقت ذاته، ترغب إسرائيل في إقامة منظومة سيبرانية قوية تقف أمام احتمالات الحرب السيبرانية الإيرانية عليها مستقبلًا.
(5) ترفض الولايات المتحدة امتلاك الصين لموانئ إسرائيلية في شرق المتوسط حتى لا تدخل ضمن مشروع “الحزام والطريق” وحتى لا تكون الموانئ نقطة مراقبة لتحركات البحرية الأمريكية في البحر المتوسط، وهو ما يتعارض مع رغبة إسرائيل في أن تصبح نقطة اتصال إقليمية رئيسية بين القارات الثلاثة آسيا وإفريقيا وأوروبا.
(6) تخطط إسرائيل وقبرص واليونان لإقامة خط كابلات كهربائي بحري لتحويل الطاقة إلى شبكة الكهرباء الأوروبية The EuroAsia Interconnector، ويقول الاتحاد الأوروبي إنه سيمول المشروع جزئيًا وقد ترتفع النسبة إلى 50%. عرضت الشركات الصينية بناء الكابلات واتفقت الحكومة الإسرائيلية السابقة مع الشركات الصينية على بناء الكابلات وخطوط الكهرباء، كما ضغطت الصين على اليونان لتنفيذ مشروع الربط من خلالها مما استدعى رفض بروكسل القاطع. يمكن أن تنجح إسرائيل في هذا الاختبار بشرط نجاح إقامة الصندوق الإبراهيمي المقام بين الإمارات وإسرائيل بقيمة 10 مليارات دولار والذي يهدف إلى تعزيز فرص إقامة مشاريع بنية تحتية استراتيجية لنقل الكهرباء إقليميًا، كما ستبحث إسرائيل تمويل لإقامة مصانع تحويل الوقود الأحفوري إلى طاقة كهربائية.
ختامًا، يمكن القول إن زيارة “بينيت” إلى واشنطن هي مبادرة إسرائيلية للترويج لرؤيتها فيما يتعلق بطبيعة تفاعلات الإقليم ككل، وفيما يتعلق كذلك بطريقة معالجة القضية الفلسطينية، مع الأخذ في الاعتبار الرفض لإقامة دولة فلسطينية. كما تواجه إسرائيل اختبارًا صعبًا في الملفين المذكورين من أجل الحفاظ على استراتيجية العلاقة مع الولايات المتحدة، وعلى ترميم فعلي للعلاقات التي توترت سابقًا.