يواصل الاتحاد الأوروبي تنفيذ استراتيجيته الرامية لوقف الحرب الروسية في أوكرانيا، والتي ترتكز على بُعدين أساسيين هما: مواصلة الدعم العسكري والمساعدات الإنسانية والمالية لأوكرانيا، واستمرار محاصرة وعزل الاقتصاد الروسي والضغط عليه من خلال العقوبات الاقتصادية، التي يُنظر إليها على أنها العامل الأهم والأكثر حسمًا في إضعاف الاقتصاد الروسي و”المكتسبات البوتينية”، ونقصد بها الجهود التي قام بها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” خلال العقدين الماضيين، والتي ساهمت في تنامي الاقتصاد الروسي، وعودة روسيا مرة أخرى إلى المنافسة الاستراتيجية مع الغرب، بعد فترة من الضعف أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي وتقليص نفوذ موسكو السياسي وحصارها في موقعها الجغرافي، مما دفع حلف شمال الأطلسي إلى تبني سياسات توسعية في شرق أوروبا مستغلًا هذا التراجع وتفكيك كتلة دول حلف وارسو، وكانت نتائج هذه السياسة أن قامت موسكو بغزو عسكري لثاني أكبر بلد أوروبي من حيث المساحة الجغرافية.
في خضم المساعي الأوروبية لإضعاف وتقويض الاقتصاد الروسي الذي يمثل “شريان الحرب” وافق الاتحاد الأوروبي بعد جهود مضنية ومناقشات مطولة بين أعضائه على “الحزمة السادسة” من العقوبات ضد موسكو، والتي تشمل حظر استيراد النفط الخام المنقول بحرًا من روسيا، مع فترة انتقالية مدتها 6 أشهر للسماح للأسواق العالمية بالتكيف، كما سيحظر الاتحاد الأوروبي استيراد المنتجات البترولية المكررة من روسيا بعد فترة انتقالية مدتها 8 أشهر، في حين لا يزال استيراد النفط عبر خطوط الأنابيب مسموحًا بسبب المعارضة القوية من بعض الدول في أوروبا الوسطى والتي على رأسها المجر التي قال رئيس وزرائها “فيكتور أوربان” نحن في موقف صعب للغاية بسبب السلوك غير المسئول لهيئة الاتحاد الأوروبي”، في إشارة منه إلى المقترح الأول الذي يتضمن حظرًا كُليًا لواردات الطاقة الروسية.
ما بين معارض ومؤيد لحظر واردات الطاقة الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي، يبقى السؤال المطروح هو: كيف يمكن فهم تلك التباينات في مواقف الدول الأوروبية بشأن حظر واردات الطاقة الروسية؟ والتي يمكن تفسيرها بالارتكاز على محددين هما: المصلحة الوطنية للدول، والأيديولوجيا السياسية للأحزاب التي تعتلي هرم السلطة، والتي كثيرًا من الأحيان ما تأرجحت مواقف وسلوك السياسة الخارجية للدول الأوروبية منذ هذه الحرب بين هذا وذاك. نحاول هنا استنادًا إلى هذين المحددين فهم هذه الانقسامات والتباينات في مواقف الدول الأوروبية.
أوروبا الوسطى تنحاز للنفط الروسي
تزايدت الفجوة بين مواقف الدول الأوروبية على إثر موقف اليميني المتطرف “فيكتور أوربان” رئيس وزراء المجر الذي قال: “إن حظرًا كليًا للنفط الروسي هو بمثابة قنبلة نووية ألقيت على الاقتصاد المجري”، وهو أحد أقوى التصريحات التي خرجت من الدول المعارضة لوقف استيراد النفط الروسي، والتي تضم المجر والتشيك وسلوفاكيا، وهي دول حبيسة لا تمتلك موانئ بحرية، وتعتمد بنسبة تقارب 85% من مصادر الطاقة على الغاز والنفط الروسي القادم عبر خطوط الأنابيب، وهم يعارضون حظر النفط دون وجود بدائل معقولة لهذه الدول التي تعتمد بشكل شبه كلي على مصادر الطاقة الروسية. فخطوط الأنابيب توفر الكثير من التكلفة في حال قررت هذه الدول البحث عن مصادر طاقة بديلة، فهذا يعني إعادة تهيئة البنية التحية في البلاد وإصلاح نظام الطاقة بشكل كلي لاستيعاب التغيرات الجديدة، وهو ما بدا أنه مساومة سياسية مع الاتحاد الأوروبي مفادها، إذا أراد الاتحاد الأوروبي أن نشارك في العقوبات ضد الروس فعليه أولًا أن يقدم مليارات الدولارات لتلك الدول، وهو شكل من أشكال الابتزاز المالي للاتحاد الأوروبي، وهو أيضًا تكتيك وأسلوب غالبًا ما يتبناه اليمينيون المتطرفون في السلطة.
ليس فقط تلك المصالح الملحة التي تتعلق بأمن إمدادات الطاقة إلى الدول الحبيسة في وسط أوروبا والتي تتزعمها “بلغاريا” ورئيس وزرائها السبب في معارضة العقوبات، وإنما أيضًا التوجهات الأيديولوجية التي تلعب دورًا رئيسيًا في رسم وبناء المصالح الخارجية، فـ”فيكتور أوربان” هو يميني متطرف، واليمينيون المتطرفون هم في الأساس معارضون للاتحاد الأوروبي، وللمؤسسات العبر وطنية، وللهجرة بشكل خاص. وبالتالي ثمة انتقادات حادة داخل دول الاتحاد للأصوات المتطرفة باعتبار أنها تقوض الوحدة الأوروبية، وتعيق القيم الأوروبية التي يدافع عنها الأوكران، وهي الديمقراطية وحكم القانون ضد القيم السلطوية الروسية. ولكن لسوء حظ تلك الأصوات فإن آلية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي هي بالإجماع، وبالتالي فمن دون موافقة المجر والدول التي لديها مخاوف اقتصادية أخرى لن يتم تمرير الحزمة السادسة من العقوبات ضد روسيا، وهو ما نجحت فيه بلغاريا بالحصول على استثناءات فيما يتعلق بحظر النفط الروسي عبر الأنابيب لكل من المجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك.
مخاوف مشروعة: دول البلطيق تندد بضرورة حظر النفط الروسي
“كلما كانت العقوبات أقوى، فستنتهي الحرب بشكل أسرع”.. هذا ما قاله رئيس وزراء لاتفيا “كريشانيس كاريش” أحد أبرز المؤيدين لحظر إمدادات الطاقة الروسية، فلاتفيا إلى جانب إستونيا وبولندا وليتوانيا (أول بلد يوقف استيراد الغاز الروسي) لديهم مواقف أكثر تشددًا إزاء حظر الطاقة الروسية، وهم أبرز مؤيدي الحظر الكلي والشامل لكل واردات الطاقة الروسية، لأن هذا هو السبيل الوحيد -من وجهة نظرهم- لدعم الأوكران وهزيمة روسيا، وكذلك دعم القيم الديمقراطية وحكم القانون ونحر السلطوية. خلف هذا الموقف المتشدد تكمن القيم الليبرالية الديمقراطية، التي لا تنظر إلى الصراع فقط باعتباره تقويضًا للأمن الأوروبي، وإنما أيضًا تقويضًا للقيم الغربية والليبرالية، فقد تمت مهاجمة أوكرانيا لأنها أرادات الديمقراطية وحكم القانون وانحازت للقيم الغربية، وبالتالي لا بديل عن إلحاق هزيمة كبيرة بروسيا. والعقوبات الاقتصادية التي يأتي على رأسها حظر شامل لواردات النفط والغاز الروسي الذي يُدخل ما يقرب من مليار يورو يوميًا إلى خزينة الحكومة الروسية، هو أحد أهم الأمور التي يتحتم على الاتحاد الأوروبي أخذها في الحسبان إذا ما أراد إلحاق الهزيمة بروسيا وتقويض اقتصادها الذي يشعل آلة الحرب، ودعم الديمقراطية في أوكرانيا.
أحد أهم المحددات الأخرى لدول البلطيق هو القرب الجغرافي مع روسيا وروسيا البيضاء البلد الذي يدعم الرئيس بوتين في هذه الحرب، فقد سبق أن حذر الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” من أنه حال هزيمة أوكرانيا، فإن روسيا ستستهدف بقية دول أوروبا الشرقية بدءًا من دول البلطيق، قائلًا: “إذا لم نعد موجودين، فسيأتي دور لاتفيا وليتوانيا وإستونيا”، وهو أمر يثير قلقًا بالغًا في تلك الدول. إلى جانب المنافذ البحرية على بحر البلطيق والموانئ المطلة عليه لهذه الدول، وهو ما يخلق بدائل أخرى متاحة لتلك الدول تتيح خيارات مختلفة لصناع القرار فيها، وهي البدائل غير المتاحة لدول أوروبا الوسطى التي تقف ضد حظر واردات النفط والغاز.
الأولويات المتعارضة: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا بين الاقتصاد والأمن
ما بين هزيمة كلية لروسيا في أوكرانيا أو على الأقل عدم انهيار أوكرانيا كليًا أمام روسيا، وما بين القدرات الصناعية للدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي والتي تعتمد في جزء كبير منها على إمدادات الطاقة الروسية وأولويات الأمن الأوروبي الذي بات مسألة ملحة للنقاش بعد اجتياح أوكرانيا عسكريًا من قبل الجيش الروسي؛ تقف كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا بين ما يمكن تسميته بالمطرقة والسندان.
ألمانيا لا تريد أن تخسر نفوذها في شرق أوروبا، لا سيما أنها تدرك حجم المخاطر الأمنية التي تنتج من انتصار روسيا في الحرب، لكنها أيضًا مهددة بوضع اقتصادي صعب إذا وافقت على حظر الغاز والنفط الروسي، فألمانيا تعتمد على روسيا في أكثر من 50٪ من الغاز الطبيعي الذي تستورده من روسيا عبر خطوط الأنابيب، وكذلك 50٪ من الفحم، و36٪ من النفط. وتقوم الشركات الألمانية بأعمال تجارية بمليارات الدولارات مع كل من روسيا وأوكرانيا.
شركات مثل “Siempelkamp”، التي تعتمد، مثل معظم ألمانيا، على الطاقة الروسية والمواد الخام الروسية مثل الحديد الخام لتصنيع قطع غيار لشركات مثل tesla, Rolls-Royce, Caterpillar”” سيتعين على هذه الشركات أن تدفع 10 مرات أكثر مما كانت تدفعه مقابل الكهرباء، وفي النهاية ترتفع الأسعار على المستهلكين. صحيح أن إيجاد بدائل للفحم والنفط الروسي يمكن أن يكون سهلًا نسبيًا بالنسبة لألمانيا عبر ناقلات النفط العملاقة على البحر المتوسط قادمة من الخليج، لكن المشكلة تكمن في الغاز الروسي. ألمانيا تستقبلها عبر خطوط الأنابيب، والبديل عن ذلك، استيراد الغاز الطبيعي المسال من دول أخرى مثل الولايات المتحدة وقطر، وهو أمر صعب لأن ألمانيا ليس لديها أي محطات للغاز الطبيعي المسال، وسيستغرق بناؤها سنوات وتكلفة مالية بمليارات الدولارات.
فرنسا تختلف عن ألمانيا المترددة، فالرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الذي لم يستبعد ليس فقط حظرًا كليًا على واردات النفط الروسية وإنما الغاز الروسي أيضًا ليشمل الحظر كل واردات الطاقة القادمة من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي. ففرنسا ماكرون تحاول الضغط بأقسى درجة بهدف انهيار الاقتصاد الروسي وعدول بوتين عن مساعيه وأهدافه في أوكرانيا، ولكن على الأرجح نحن نتحدث عن فرنسا ماكرون الذي أعيد انتخابه مؤخرًا بفارق 7% فقط عن المرشحة اليمينية المتطرفة “ماري لوبان” التي لديها علاقات طيبة مع موسكو وتقف ضد الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعكس انقسامات واسعة في فرنسا، فما يقرب من 43% وهي نسبة من صوتوا للوبان لا يؤيدون السياسة الخارجية للرئيس ماكرون، ويؤيدون بناء علاقات جيدة مع روسيا. مرة أخر يظهر أثر الأيديولوجيات السياسية في تشكيل وبناء المصالح الخارجية والتي كانت ضمن المحددات الرئيسية للانقسام الأوروبي حول حظر امتدادات الطاقة الروسية.
إيطاليا تتلقى أكثر من 40٪ من غازها الطبيعي من روسيا من خلال خطوط الأنابيب، وهي واحدة من الدول التي تتحفظ في كثير من الأحيان على العقوبات الأوروبية التي تنال قطاع الطاقة، فقد قال “ماريو دراجي” رئيس الوزراء الإيطالي الحالي والشخصية البارزة في الاتحاد الأوروبي: “في حالة انقطاع إمدادات الغاز من روسيا، فإن إيطاليا لديها الكثير لتخسره مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى التي تعتمد على مصادر مختلفة، لكن هذا لا يقلل من تصميمنا على دعم العقوبات التي نعتبرها مبررة وضرورية”. وهو موقف لا يعكس الكثير من القوى السياسية التي تربطها بموسكو علاقات وثيقة والتي ترفض انضمام إيطاليا إلى العقوبات الأوروبية، وعلى رأسها حركة النجوم الخمس إحدى أبرز القوى اليمينية في إيطاليا، والتي برزت كقوة مناهضة للمؤسسة وهي ضد مصادر بديلة للطاقة.
يدرك رئيس الوزراء الإيطالي هذا الأمر وهو ما دفعه لإلقاء اللوم على القادة الإيطاليين السابقين وتحميلهم مسئولية ميلهم بشدة إلى روسيا، قائلًا: “تُظهر أحداث هذه الأيام الحماقة المتمثلة في عدم زيادة تنويع مصادر الطاقة لدينا وموردينا في العقود الماضية”. وعلى الرغم من الصعوبات التي من المنتظر أن تواجه إيطاليا فيما يتعلق بقطاع الطاقة والغذاء، وافق رئيس وزرائها على الحزمة السادسة من العقوبات. لكن ما هو جدير بالذكر أن تلك المواقف لا تحظى بدعم شعبي كبير، لارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية أضعافًا مضاعفة في ظل شتاء قادم يُضاعف المعاناة على الأسر الإيطالية، وينذر بانتفاضات شعبية واسعة قد لا تتأخر كثيرًا ضد الحكومات الأوروبية.
في الأخير، يمكن القول إن تغيرات استراتيجية كبيرة تخيم على القارة الأوروبية، ومستقبلًا مليئًا بالغيوم أيضًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا ما زال ينتظر أوروبا، فتشديد العقوبات على روسيا قد يأتي بنتائج عكسية بحيث ترتفع أسعار الطاقة عالميًا بجانب معدلات التضخم وزيادة أسعار المواد الغذائية، وهو الأمر الذي من المحتمل أن تستغله الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا لدفع الناخبين للتصويت لهم، لأنهم في حال نجاحهم في الانتخابات من المحتمل أن تحظى بلدانهم بعلاقات طيبة مع موسكو، بحيث تنخفض أسعار الطاقة من ناحية ويتم الوصول إلى تسوية وصيغة تفاوضية مع الرئيس بوتين بشأن أوكرانيا.
في الوقت الحالي تعلق الحكومات الأوروبية آمالًا عريضة على الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى منطقة الشرق الأوسط، والتي من المحتمل أن يكون زيادة إنتاج النفط والغاز على رأس أجندة الرئيس بايدن، ولا سيما مصر وإسرائيل التي من المحتمل أن تحل محل روسيا في السنوات القادمة في إمداد القارة الأوروبية بالغاز بفضل مكتشفات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.