تُمثل دول الخليج أهمية خاصة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تحتفظ بوجود عسكري كبير في منطقة الخليج، بدافع الحفاظ على تدفق النفط بكميات كافية لتأمين مصالح حلفائها، وتأكد هذا الدافع مع الحرب الروسية- الأوكرانية وانخفاض اعتماد الدول الأوروبية على روسيا ومطالبة الولايات المتحدة بزيادة إنتاج النفط، بالإضافة إلى دوافع أمريكية تقف وراء اهتمامها بهذه المنطقة، بهدف ضمان عدم سيطرة أي قوة دولية أو إقليمية ومزاحمة النفوذ الأمريكي بها أو التأثير فيها بما يُهدد مصالح حلفائها. ضمن هذا الإطار، يناقش التحليل السياسة الأمريكية المتوقعة إزاء دول الخليج في ظل إدارة ترامب الثانية ومستقبل العلاقات الأمريكية- الخليجية في ظل متغيرات إقليمية ودولية بالإضافة إلى التحول اللافت في سياسات دول الخليج.
تحول لافت
اتسم التحول في سياسة الدول الخليجية بالاعتماد على الذات في ضمان أمنها وتأمين مخاوفها وتنويع شراكاتها، في ظل عدم موثوقية العلاقات مع الولايات المتحدة التي لم تضمن أمن هذه الدول خلال إدارة ترامب الأولى، بعد تعرض منشآت أرامكو في السعودية في العام 2019 لضربات صاروخية حوثية، وعدم قيام ترامب بأي رد على هذا الهجوم.
وعليه، اختلفت سياسات دول الخليج الخارجية في ظل تحولات إقليمية ودولية عن سياستها خلال السنوات السابقة، واتجهت نحو تنويع الشراكات وبناء التحالفات لتحقيق مصالحها، مع العمل على تطوير قدراتها الذاتية، وتنفيذ استراتيجياتها التنموية. وهو ما ظهر بشكل جلي في تقاربها مع الصين وروسيا، وموازنة سياستها وعدم الانحياز لطرف على حساب الآخر خلال الحرب الروسية- الأوكرانية، فضلًا عن دور الوساطة الذي لعبته دول الخليج في بعض القضايا وما قامت به السعودية والإمارات في عملية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا. ومساعي السعودية بالدعوة لتحالف دولي لحل الدولتين على خلفية الحرب في غزة، بمشاركة عربية وأوروبية، والذي أعُلن في سبتمبر 2024 على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
بالإضافة إلى انتهاج دول الخليج سياسة التحوط الاستراتيجي بهدف تحقيق مصالحها عبر تقاربها الحذر مع إيران، وتوقيع الاتفاق الإيراني- السعودي في 10 مارس 2023 برعاية صينية، وتعزيز التعاون الاقتصادي بعقد الصفقات التجارية بين إيران والإمارات بالرغم من الخلافات السياسية في بعض القضايا على غرار النزاع حول الجزر الثلاث (طنب الصغرى، والكبرى، وأبو موسى). وفي الوقت ذاته اتجهت أبو ظبي إلى التطبيع مع إسرائيل في أغسطس 2020. فضلًا عن تنويع شراكتها الاقتصادية بمشاركتها في مبادرة I2U2 بين الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة كشراكة اقتصادية في عدة مجالات منها؛ المياه، والطاقة، والنقل، والفضاء، والصحة، والأمن الغذائي، والتكنولوجيا في يوليو 2022، وانضمام السعودية والإمارات إلى بريكس في يناير 2024.
محددات حاكمة وسياسة محتملة خلال إدارة ترامب الثانية
حافظت الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب الأولى على علاقات وثيقة نوعًا ما بدول الخليج سواء بحضوره القمة العربية الإسلامية في الرياض في مايو 2017، وتقارب الرؤى إزاء مخاطر البرنامج النووي الإيراني، وقدرات إيران الصاروخية، وأنشطتها المزعزعة لأمن واستقرار دول الخليج، وتوظيف أذرعها المختلفة في المنطقة. وتوجد محددات حاكمة لمستقبل العلاقات الأمريكية الخليجية خلال إدارة ترامب الثانية يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
• المحدد العسكري: تعد الولايات المتحدة شريكًا استراتيجيًا لدول الخليج، وتستضيف الأخيرة بعض القواعد العسكرية الأمريكية، حيث الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية في الكويت والبحرين، والذي يراقب حركة الملاحة، وخطوط الاتصال البحرية في المنطقة بما يشمل المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر. بالإضافة إلى الحضور الأمريكي عبر قاعدة العديد الجوية في قطر، وتصنيف الأخيرة حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو في يناير 2022، بالإضافة إلى قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات، ومقر القيادة المركزية الأمريكية في الكويت. ومن ثَمّ يحتل البعد العسكري أهمية في طبيعة العلاقات بين الطرفين بغض النظر عن الإدارة كونها ديمقراطية أو جمهورية، لذلك من المرجح خلال إدارة ترامب الثانية تعزيز التعاون العسكري سواء بعقد صفقات تسليحية مع بعض دول الخليج، في ظل رغبة إماراتية في الحصول على طائرات أف 35 والتي جمدت في عهد بايدن.
• إيران: بالرغم من الصورة الذهنية التي رسمتها الولايات المتحدة للدول الخليجية إزاء إيران باعتبارها التهديد الرئيسي لأمن المنطقة، فإن الموقع الجيواستراتيجي لإيران يمثل أهمية لمصالح الولايات المتحدة، إذ تغطي مساحة إيران ما يقرب من نصف ساحل الخليج على أحد جانبي مضيق هرمز، والذي تمر عبره أغلب إمدادات النفط والتجارة والنقل في الخليج.
وبالرغم من ممارسة ترامب سياسة فرض العقوبات على إيران خلال إداراته الأولى، لكنها لم تفلح في ضمان أمن الخليج سواء بانسحابه من الاتفاق النووي الإيراني في العام 2018، وعدم التصدي للهجمات الحوثية على المنشآت النفطية السعودية في 2019، والتصعيد باستهداف قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” في العام 2020.
وعليه، من المرجح الاستمرار في سياسة الضغط الأقصى إزاء طهران، لكن دون التصعيد في ظل متغيرات إقليمية على خلفية الحرب في غزة، ورغبة خليجية بخفض التوترات مع إيران، بمعنى انتهاج ترامب سياسة الضغط على إيران خلال إدارته الثانية مع تجنب توسع الحرب إقليميًا، والضغط على إسرائيل بهدف منع التصعيد تجاه إيران، وفرض العقوبات بهدف ضبط سلوكها وأذرعها إزاء أمن دول الخليج، أو ممارسة سياسة ضبط النفس واحتواء التصعيد الإسرائيلي- الإيراني في المنطقة، مع العمل على عقد الصفقات المختلفة مع إيران وإسرائيل ودول الخليج. سواء باستمرار مسار التطبيع السعودي- الإيراني، أو التوصل لصيغة مع إيران بشأن برنامجها النووي، ويُسهم تعيين المسئولين عن ملفات الخارجية والأمن القومي في إداراته في صياغة شكل التعاطي مع إيران خلال الفترة القادمة في ظل اختيار السناتور “ماركو روبيو” في الخارجية و”مايك والتز” كمستشار للأمن القومي واللذين يؤيدان سياسة متشددة إزاء إيران.
كذلك، ستعكس الصفقات الإقليمية القادمة سواء من خلال التهدئة أو استمرار حالة التصعيد الإقليمي، المسار الذي سيتبعه ترامب سواء بممارسة سياسة الضغط الأقصى بما يقابله هجمات من وكلاء إيران في المنطقة تجاه المصالح الأمريكية أو الخليجية، وبما يقود إلى استمرار العراق وسوريا كساحات للمواجهة. أو انتهاج مسار عقد الصفقات مع إيران ودول الخليج وإسرائيل بهدف عدم التصعيد، خاصة أن تصريحات نائب ترامب المحتمل “جيه دي فانس تعكس رغبة في التهدئة بقوله: “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، لكن مصلحتنا تكمن في عدم الدخول في حرب مع إيران”.
• الأزمة في اليمن: في حال استمرار الهجمات الحوثية التي تهدد أمن الملاحة في البحر الأحمر، فقد تستكمل إدارة ترامب ما قام به بايدن من تحالف في مواجهة الحوثي، وإعادة تصنيف الحوثي ضمن قائمة المنظمات الإرهابية المصنفة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنها وزير الخارجية “مايك بومبيو” قبل انتهاء ولاية ترامب الأولى في يناير 2021. في المقابل، وفي حال نجاح مسار التهدئة بين إيران والسعودية ربما تنخفض التهديدات الحوثية إزاء أمن الخليج، وربما ترغب دول الخليج بعد سنوات من الانخراط غير المحسوم في الصراع في اليمن إلى إنهاء الأزمة، وعدم التصعيد إزاء الحوثي بالتعاون مع الولايات المتحدة، بهدف استعادة الاستقرار في خليج عدن والبحر الأحمر، والدفع في مسار وقف إطلاق النار في غزة.
• مخاوف خليجية: لدى دول الخليج هاجس أمني إزاء التهديدات الإيرانية، بالإضافة إلى عدم ثقة في الولايات المتحدة كشريك وضامن لأمنها. ومن ثَمّ سوف تستمر دول الخليج في اتباع نهج حذر باتباع سياسة التحوط الاستراتيجي سواء بتوقيع السعودية للتطبيع مقابل الاتفاق الدفاعي مع الولايات المتحدة، بما يرتب استمرار الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة. لكن ربما يواجه هذا المسار بعض العقبات في حال استمرار التعنت الإسرائيلي إزاء القضية الفلسطينية، والتصعيد بضرب منشآت إيران النووية، بما قد يقود دول الخليج إلى سياسة تنمية الشراكات مع الصين في ظل انخراطها في المنطقة عبر مبادرة الحزام والطريق، والعمل على زيادة استثماراتها في البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة.
من ناحية أخرى، قد تمارس دول الخليج سياسة التحوط الاستراتيجي إزاء الولايات المتحدة خاصة أن لديها تخوفات من الدعم اللامتناهي من قبل الولايات المتحدة لإسرائيل، بما قد يقود إلى تصعيد في المنطقة بين إيران وإسرائيل يمتد إلى دول الخليج، لذلك ستمارس دول الخليج التحوط بمعنى التقارب البراغماتي مع الطرفين بما يحقق مصالحها ويأمن مخاوفها، وانتهاجها لمسار تهدئة التوترات مع إيران خاصة أن هناك مؤشرات نحو التهدئة بزيارات رسمية لرئيس الأركان العامة للقوات المسلحة السعودية “فياض بن حماد الرويلي” إلى طهران، ولقائه نظيره “محمد باقري” في 10 نوفمبر 2024، في ظل رعاية صينية لاستكمال مسار التطبيع السعودي- الإيراني، وتجنب الصدام مع إيران في ظل توجهات خليجية تنموية على غرار استراتيجية السعودية 2023 والإمارات 2071. أو اتباع دول الخليج المسار التقليدي باستمرار التوترات الخليجية مع إيران، في مقابل التطبيع مع السعودية، ومطالبة الولايات المتحدة بضمانات أمنية في مواجهة طهران.
• اتفاق التطبيع الإسرائيلي- السعودي: من المرجح في ضوء توقيع اتفاقيات إبراهيم خلال فترة إدارة ترامب الأولى مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، استكمال المسار ذاته بتوقيع اتفاق التطبيع الإسرائيلي- السعودي، مقابل الاتفاقية الدفاعية مع السعودية، ودعم البرنامج النووي السلمي الذي ترغب فيه، لكن هذا المسار مرهون بالصفقات المحتملة في المنطقة على خلفية وقف الحرب في غزة، وترتيبات اليوم التالي، إذ طرحت السعودية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية، ويمثل ذلك تحديًا أمام إدارة ترامب في ظل حكومة إسرائيلية يمنية ترفض فكرة الدولة الفلسطينية، ودعم ترامب المتناهي لإسرائيل خاصة أنه خلال إدارته الأولى اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، فضلًا عن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل.
• المحدد الاقتصادي: من المرجح أن تحظى العلاقات الأمريكية- الخليجية خلال إدارة ترامب الثانية بمزيد من الصفقات التجارية، خاصة أن الاستثمارات السعودية كانت حاضرة خلال إدارته الأولى عبر إدارة جاريد كوشنر” صهر ترامب لصندوق استثماري بقيمة ملياري دولار، والاتفاقيات الاستثمارية الموقعة مع السعودية بنحو 400 مليار دولار خلال زيارة ترامب للرياض في العام 2017، يضاف إلى ذلك زيارات القادة الخليجين بهدف تعزيز التعاون ولقائهم “ترامب” في سبتمبر 2024، ومنها زيارة أمير قطر الشيخ ” تميم بن حمد آل ثاني” بمقر إقامة “ترامب” في مار إيه لاغو بولاية فلوريدا، وكذلك زيارة الرئيس الإماراتي “محمد بن زايد” في الشهر ذاته.
• التكنولوجيا والطاقة: من المرجح أن تنمو العلاقات الأمريكية الخليجية في مجالات التكنولوجيا في ظل اهتمام خليجي بالذكاء الاصطناعي سواء من جانب السعودية أو الإمارات. وفي مجال الطاقة من المحتمل اتجاه ترامب خلال إداراته الثانية إلى تعزيز إنتاج الوقود الأحفوري وتصديره والتوسع في إنتاج النفط والغاز، بما يقود إلى انخفاض في أسعار النفط، بما قد يُشكل ضغطًا على اقتصاد الخليج خاصة أن صادرات النفط تشكل ركيزة أساسية لاقتصاد هذه الدول.
ختامًا، من المحتمل أن يحدث ترامب توازنًا في العلاقات مع دول الخليج باستكمال مسار التطبيع في مقابل التهدئة في غزة، وتحقيق الاستقرار في اليمن لمواجهة مخاوف الخليج، واستعادة الاستقرار في خليج عدن والبحر الأحمر، وفي الوقت ذاته العمل على ضمان الأمن الإسرائيلي وإدماجها تدريجيًا في المنطقة. ومواجهة التحركات الروسية والصينية إزاء دول الخليج، بتوقيع صفقات اقتصادية وتكنولوجية مستقبلية في ظل اهتمام دول الخليج بثورة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، مع إمكانية توظيف إدارة ترامب لعدد من أدوات الضغط على دول الخليج فيما يتعلق بشئونها الداخلية أو الصفقات العسكرية، لتحقيق استراتيجياتها في المنطقة.