لم تكتفِ تركيا بتغيير ميزان القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، حيث عملت على ترسيخ دورها في الملفات الأمنية والعسكرية، وتعزيز سيطرتها على مناطق واسعة في شمال سوريا، بل تزامن ذلك مع تحركاتها النشطة نحو تعزيز دورها كقوة مؤثرة في القارة الإفريقية، وتوسيع نطاق نفوذها في الساحل الإفريقي، وتحديداً في تشاد، فقد استغلت أنقرة فرصة انسحاب القوات الفرنسية من قاعدة “أبيشي” العسكرية، لترسيخ وجودها العسكري في تلك المنطقة الاستراتيجية. هذا التحول يشير إلى التغير في موازين القوى الدولية، وبروز تركيا كلاعب مؤثر في صياغة المشهد الجيوسياسي. تُحاول هذه الورقة البحثية تناول السياق المُصاحب للانسحاب الفرنسي من تشاد، ومعرفة كيف وظفت تركيا هذا السياق لتعزيز دورها في التأثير على مجريات الأحداث في القارة الإفريقية.
السياق المُصاحب للانسحاب الفرنسي من تشاد
لأكثر من ستة عقود، كانت تشاد حليفاً مهماً للقوات الفرنسية في عملياتها لمكافحة التمرد في منطقة الساحل، لكن أعلنت حكومة تشاد في نوفمبر 2024 أنها ستنهي اتفاقية الدفاع مع فرنسا وأمرت بانسحاب جميع العسكريين الفرنسيين خلال شهرين. فقد كان هناك حوالي 1000 جندي فرنسي متمركزين في ثلاث قواعد في تشاد؛ “نجامينا”، و”فايا لارجو”، و”أبيشي”. وفي ديسمبر 2024، سلمت القوات الفرنسية المتمركزة في تشاد القاعدة العسكرية في “فايا لارجو”، المدينة الرئيسية في شمال البلاد، للجيش التشادي. وقد استمرت عملية انسحاب القوات المسلحة الفرنسية في تشاد حيث تم تسليم قاعدة “أبيشي” العسكرية للقوات المسلحة التشادية في يناير 2025.
الجدير بالذكر أن، خطة الانسحاب الفرنسي بالكامل من تشاد لم تكن مطروحة، ولكن ما هو مخطط له كان تقليص عدد القوات الفرنسية المتواجدة في تشاد. فقد كان مطلب تشاد بالانسحاب الكامل للقوات الفرنسية بمثابة مفاجأة كاملة، فقد كان الفرنسيون يخططون لتقليص وحدتهم في تشاد من 1000 إلى 300 جندي، لكن الانسحاب الكامل من تشاد لم يكن مطروحاً على الطاولة.
نجد أن هناك مجموعة من العوامل التي دفعت تشاد لفك الارتباط مع فرنسا، والتي يمكن ذكرها؛ فهناك حالة من الاحتقان داخل تشاد حيال الوجود الفرنسي، فقد انتقدت المعارضة في تشاد التواجد الفرنسي، حيث أن الوجود العسكري الفرنسي في تشاد كان له تأثير سلبي على الاستقرار السياسي في البلاد، كما أنها لم تجلب أي فائدة كبيرة لتشاد في مواجهة تحديات مثل الهجمات الإرهابية، فقد أخفقت القوات الفرنسية في مساعدة تشاد أثناء هجوم جهاديي بوكو حرام على قاعدة عسكرية في أكتوبر 2024، وقد أسفر هذا الهجوم عن مقتل أكثر من 40 جنديا تشادياً. علاوة على ذلك، أن المشاعر المعادية لفرنسا هو اتجاه سائد في غرب افريقيا، ففي أغسطس 2022، أكملت فرنسا انسحابها من مالي، تلتها بوركينا فاسو في فبراير 2023. كما غادر الجيش الفرنسي النيجر في ديسمبر 2023، كما يمثل قرار تشاد الأخير برحيل القوات الفرنسية خطوة أخرى في تراجع الوجود العسكري الفرنسي، حيث يُعد رحيل فرنسا عن تشاد بأنه “ضربة قوية لنفوذ باريس في إفريقيا”، خاصة وأن تشاد كانت تُعد بمثابة “مركزاً لوجستياً مهماً” للعمليات العسكرية الفرنسية في القارة.
تشاد: من النفوذ الفرنسي إلى الشراكة التركية
قد أتاح تراجع النفوذ الفرنسي فرصة لتركيا لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية في منطقة الساحل، فقد انتهزت الفرصة لتعزيز حضورها العسكري، وهو ما أتضح جلياً في منتصف يناير 2025، فقد تم التوصل لاتفاق رسمي بين تركيا وتشاد، يتم بموجبه سيطرة تركيا على قاعدة “أبيشي” العسكرية في شرق تشاد والتي كانت تديرها القوات الفرنسية سابقًا ، وجاء هذا الاتفاق بعد مفاوضات مكثفة بين سفير تركيا في نجامينا ومسؤولين تشاديين. علاوة على ذلك، نشرت تركيا طائرات بدون طيار بالقرب من قاعدة “فايا لارجو”، الواقعة بالقرب من الحدود الشمالية لتشاد مع ليبيا. كما تم نشر مستشارين عسكريين أتراك في هذا الموقع الاستراتيجي لمساعدة القوات التشادية. وتبرهن هذه التحركات على التزام تركيا بتعزيز البنية التحتية الأمنية في تشاد وسط عدم الاستقرار الإقليمي. الجدير بالذكر أن، تشاد تواجه تحديات أمنية مُعقدة، حيث تعاني تشاد من هجمات الجماعات الإرهابية، لاسيما جماعة “بوكو حرام” الإرهابية التي تتخذ من شمال شرق نيجيريا مركزاً لنشاطها، وتمتد عملياتها إلى دول الجوار مثل تشاد والنيجر والكاميرون. بالإضافة إلى ذلك، تشترك تشاد في حدود طويلة مع دول تشهد اضطرابات وعدم استقرار، مثل السودان وليبيا، وهو ما يفاقم التحديات الأمنية التي تواجه تشاد.
يمكن القول أن النفوذ التركي المتزايد في تشاد، هو محصلة للتفاعلات التركية النشطة لتعزيز أواصر العلاقات مع تشاد، فهناك تصريحات رسمية تركية تؤكد على أن هناك حرص على تعزيز العلاقات بين البلدين على كافة الأصعدة، فقد أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارة الوفد التشادي رفيع المستوى برئاسة الجنرال محمد إدريس ديبي لتركيا في 27 أكتوبر 2021، على تقديم جميع أنواع الدعم لتشاد، كما أعلن أردوغان عن استعداد تركيا لتطوير تعاونها مع تشاد في المجالات العسكرية والدفاعية والأمنية، وقد توجت هذه الزيارة بالتوقيع على اتفاقية للتعاون العسكري بين تركيا وتشاد، وتتضمن إطار عمل يشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات المشتركة والتدريب واللوجستيات.
الجدير بالذكر أن، تشاد قد تلقت مجموعة متنوعة من المعدات العسكرية من تركيا في السنوات الأخيرة، فقد تلقت تشاد 20 ناقلة جنود مدرعة من طراز “أجدر يالتشين” المتطورة المضادة للألغام والهجمات البالستية من تركيا في عام 2018 ، و30 مركبة مدرعة من طراز Nurol Makina NMS في عام 2021. كما تلقت في 2023 ثلاث طائرات تدريب هجوم خفيف من طراز Hurkus-C وطائرتين بدون طيار من طراز Anka من شركة TAI. في وفى عام 2024 ، سلمت تركيا طائرات بدون طيار قتالية من طراز Aksungur إلى تشاد ، توصف Aksungur بأنها قادرة على تنفيذ مهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.
دلالات النفوذ العسكري التركي
نجد أن النفوذ العسكري التركي المُتزايد في تشاد، يعكس استراتيجية تركية طموحة لتوسيع نفوذها في أفريقيا وتعزيز مصالحها في المنطقة، حيث يمنح الحضور العسكري التركي في تشاد ميزة استراتيجية لتامين المصالح التركية في غرب إفريقيا، وكذلك في ليبيا التي تعتبر مركزاً حيوياً لمصالحها، كما يُمكن لتركيا لعب دور مؤثر في الأزمة السودانية، باعتبارها دولة جوار لتشاد. إلى جانب الحضور التركي في غرب إفريقيا، نجد أن تركيا لديها حضور قوى في إقليم القرن الإفريقي، ويتجلى الوجود التركي المتنامي من خلال أنشطتها العسكرية والاقتصادية في الصومال، فمن خلال القاعدة العسكرية التركية في العاصمة الصومالية مقديشو، تعزز أنقرة حضورها العسكري في القرن الأفريقي، ولا يقتصر التعاون بين البلدين على الجانب الأمني فحسب، بل يمتد ليشمل الجانب الاقتصادي، حيث أبرمت أنقرة ومقديشو مذكرة تفاهم في فبراير 2024 تمنح تركيا حقوق التنقيب عن واستخراج النفط من الكتل النفطية في الصومال. إضافة إلى ذلك، تلعب تركيا دوراً هاماً في الوساطة بين الصومال وإثيوبيا، وهو ما يعزز مكانتها كلاعب إقليمي مؤثر.
لا شك أن الدور المتزايد لتركيا يواجه عدد من التحديات من جانب القوى التقليدية التي لها مصالح راسخة في القارة الإفريقية، لاسيما فرنسا التي حافظت تاريخياً على دور عسكري واقتصادي مهيمن، لاسيما في غرب إفريقيا، بالإضافة إلى ذلك ربما ستواجه تركيا تنافس من جانب روسيا التي نسجت علاقات أمنية متزايدة مع دول القارة الإفريقية.
وفى الختام، يمكن القول إن، التقارب المتزايد بين تشاد وتركيا، فيما يتعلق بتعزيز التعاون العسكري، سيمكن تشاد من نقل الخبرات العسكرية التركية؛ بما في ذلك تعزيز قدرات الجيش التشادي وتبادل المعلومات الاستخباراتية ونقل التكنولوجيا وتصدير المعدات العسكرية، ولكن هل سيكون النموذج التركي فعالاً بالمقارنة بالنموذج الفرنسي في مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها تشاد، وهو ما يتطلب متابعة التحركات التركية وتقييمها خلال الفترة القادمة.
المراجع:
- Ezenwa E. Olumba, Bernard Nwosu, Chad’s break with France: why it happened and what it means for power dynamics in the Sahel region, The Conversation, December 11, 2024, available at: https://theconversation.com/chads-break-with-france-why-it-happened-and-what-it-means-for-power-dynamics-in-the-sahel-region-245429
- Paris’ influence fades: French troops complete withdrawal from Chad’s Abéché base, CALIBER, 11 January 2025, available at: https://caliber.az/en/post/paris-influence-fades-french-troops-complete-withdrawal-from-chad-s-abeche-base
- Chad: French forces continue to withdraw, Abeché base handed over today, Agenzia Nova, January 11 2025, available at: https://www.agenzianova.com/en/news/chad-continues-the-withdrawal-of-french-forces-today-the-return-of-the-abeche-base/
- Zagazola Makama, Turkey Assumes Control of Strategic Military Bases in Chad Amid Shifting Regional Alliances, Global Upfront Newspapers, February 16, 2025, available at: https://globalupfront.com/2025/02/16/turkey-assumes-control-of-strategic-military-bases-in-chad-amid-shifting-regional-alliances
- Turkey’s Expanding Influence in Chad: A Shift in Regional Alliances, STRATURKA , February 2025, available at: https://www.straturka.com/turkeys-expanding-influence-in-chad-a-shift-in-regional-alliances/
- Yusuf Kamadan, Türkiye’s strategic embrace of Africa: It’s win-win, not exploitation,TRT World, August 2024, available at: https://www.trtworld.com/turkiye/turkiyes-strategic-embrace-of-africa-its-win-win-not-exploitation-18186986
- Turkey ready to enhance cooperation with Chad: Turkish president, Middle East Monitor, October 28, 2021, available at: https://www.middleeastmonitor.com/20211028-turkey-ready-to-enhance-cooperation-with-chad-turkish-president/
- تشاد البدء في تشغيل طائرات UAV “أكسونغور – “Aksungur تركية الصنع، مجلة المسلح ، أبريل 2024، متاح على الرابط التالى: https://www.almusallh.ly/ar/news/4929-2024-04-29-23-25-29