لم يطّلع أحدٌ في أوروبا على المشروع الأمريكي لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، “صفقة القرن”، كاملًا؛ إذ يبدو أن السلطات الأمريكية وافت الدبلوماسيين الأجانب بقدرٍ معقولٍ من التفاصيل فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية للمشروع، ولكنها لم تُفصح بمعلومات حول الشق السياسي. ولذلك، تجنّب كلٌّ من الاتحاد الأوروبي -كدولٍ ومنظمة- حتى الآن إعلان موقفهم من مشروع “ترامب” للتسوية.
دعوة لرفض أوروبي
يمكن القول، من خلال ما هو منشور في الإعلام الأوروبي ومواقع مراكز الفكر، أن ثمة تشككًا كبيرًا في فرص نجاح المشروع الأمريكي للتسوية، لأنه سيكون في الغالب ترجمة لعلاقات القوة على الأرض وهي في صالح إسرائيل، وانعكاسًا للتحيزات الأيديولوجية لفريق العمل الذي أعده، وتعبيرًا عن تصورات وتوصيات اليمين الإسرائيلي، وامتدادًا لسياسات “ترامب” المتجاهلة بل المعادية للفلسطينيين، والتي تتجاهل القانون الدولي، ولا تُقدّر حاجتهم للحياة في دولة مستقلة غير محتلة توفر لهم العيش الكريم، والتي ترى باختصار أن مطالب الفلسطينيين هي مطالب فريق انتصر في المواجهة (وذلك لم يحدث)، وأن ما يسمح لهم بعدم الاعتراف بالهزيمة هو عنصر المساعدات الدولية.
باختصار، فإن ممارسات وخطاب إدارة الرئيس “ترامب” تدفع قدرًا معتبرًا من المراقبين والخبراء إلى الاعتقاد بأن المشروع لن يُقر حل الدولتين.
وفي هذا السياق، وجّه ساسة ومسئولون أوروبيون(١) في يوم ١٧ أبريل الماضي خطابًا مفتوحًا إلى وزراء خارجية أوروبا وإلى “فريدريكا موجريني” (الممثلة العليا للشئون الخارجية في الاتحاد الأوروبي)، لحثهم على رفض أي مشروع أمريكي للتسوية لا يلتزم بقواعد القانون الدولي وأحكامه، ولا يتبنى حل الدولتين. ورأى الموقّعون في اتفاقيات أوسلو مرجعية يجب التمسك بها، وثمرة تعاون عابر للأطلسي. وأدانوا ترك الإدارة الأمريكية الحالية أُسس الحل السلمي للنزاع العربي-الإسرائيلي المتفق عليها دوليًّا، ونقل سفارتها للقدس، وعدم اكتراثها بالسياسات الاستيطانية، وتوقفها عن تمويل المساعدات للفلسطينيين، مما عرّض -وفقًا لهم- أمن واستقرار دول “تقف على أبواب أوروبا” للخطر الشديد.
كما طالب الموقّعون المسئولين الأوروبيين باليقظة وبالتأهب للتصدي لخطط الولايات المتحدة، وبالتفكير والعمل الاستراتيجيين، وبالتقدم بمبادرة أوروبية للسلام قائمة على مبادئ القانون الدولي وعلى ثوابت المواقف الأوروبية، أي على حل الدولتين وعلى الاعتراف بالقدس عاصمة للدولتين.
وناشدوا أيضًا برفض أي مشروع للحل لا يقوم على تلك المبادئ، وقالوا إنهم يُقرّون بأن الوضع الأمثل هو وضع تتعاون فيه أوروبا والولايات المتحدة لحل مشكلة الشرق الأوسط، ولكن أوروبا مضطرة إلى العمل منفردة عندما يتعلق الأمر “بمصالحها الحيوية وقيمها الأساسية”. وناشدوا المسئولين الأوروبيين بالعمل لحماية حل الدولتين وليظل هذا الحل ممكنًا.
كما نددوا بالقيود المفروضة على المجتمع المدني، وبانتهاكات حقوق الإنسان في كلٍّ من إسرائيل والأراضي المحتلة، وبالانزلاق التدريجي إلى واقع مكوّن من دولة واحدة لا يتمتع فيها المواطنون بحقوق متساوية.
تخوف من التبعات
ورغم الامتناع عن التعليق الرسمي على مبادرة/صفقة لم يتم الكشف عن تفاصيلها، فإنه بات واضحًا أن دول أوروبا تخشى تبعات سياسات الإدارة الأمريكية على أمن المنطقة واستقرار دولها، وعلى أمن واستقرار الدول الأوروبية. ومن المعروف أن تلك الدول تولي اهتمامًا خاصًّا للهجرة والإرهاب، وبالتالي تخشى أي سياسة من شأنها أن تزيد عدد اللاجئين والنازحين، وتراقب بقلق تأثير السياسات الجديدة على استقرار كلٍّ من المملكة الهاشمية والأراضي المحتلة.
وتخشى أن يدفع كلٌّ من موقف الإدارة الأمريكية المؤيد تمامًا لأطروحات اليمين الإسرائيلي والرفض الفلسطيني لمبادرة “جاريد كوشنر” (مستشار الرئيس الأمريكي وصهره) إسرائيل إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية، وإلى “دفن” اتفاقيات أوسلو. ويخشون أن تكون الخطوة الأمريكية التالية سحب اعترافها بتلك الاتفاقيات.
وهناك إرادة أوروبية جماعية ترغب في دعم نظام دولي قائم على احترام القانون، وفي إقامة علاقات أكثر من جيدة مع الدول الإسلامية، وفي إقناع الشعوب الإسلامية والجاليات المسلمة في أوروبا بأن الموقف السلبي من بعض الدول والكيانات -إيران وحماس مثلًا- لا ينمّ عن كراهية للإسلام، ولا يمكن أن يُعد كيلًا بمكيالين، بل هو رفض لسلوك لا يحترم القانون الدولي وقيمًا يفترض فيها العالمية.
وبالطبع، يرى الكثيرون في أوروبا وغيرها أن خيارات الإدارة الأمريكية الحالية تعادي النظام الدولي، وتُضعف القوانين والضوابط الحاكمة له، وتدعم خطابات الكراهية، وتُفقد خطاب الانفتاح على الإسلام قدرًا كبيرًا من المصداقية.
ومن ناحية أخرى، هناك قلق أوروبي على مستقبل إسرائيل. وفي بعض الدول هناك تخوف من تنامي المشاعر المعادية لليهود في المجتمعات الأوروبية، وتوجس من توتر العلاقة بين المواطنين المنتمين للديانتين اليهودية والإسلامية، ومن تأثير ما يحدث في الشرق الأوسط على تلك العلاقة التي تدهورت كثيرًا بعد انتفاضة القدس.
وتسعى تلك الدول إلى طمأنة مواطنيها اليهود المستائين من نشاط حركة BDS المطالبة بمقاطعة إسرائيل والتوقف عن التعامل معها وعن الاستثمار فيها، والقلقين من تعاظم نفوذ الإسلام السياسي في بعض الدول الغربية، ومن اتجاه بعض التيارات اليسارية -أبرزها حزب العمال البريطاني، وفي أحوال نادرة تسلك قوى يمينية المسلك نفسه- إلى التحالف مع الحركة.
فقد اتخذت ألمانيا -على سبيل المثال- إجراءات ضد حركة المقاطعة لإسرائيل، لأنها اعتبرت بعض شعاراتها معادية فعلًا للسامية. ومع أن البعض داخل أوروبا يدرك أن الجمع بين الانفتاح على الدول الإسلامية، وطمأنة المواطنين اليهود والمسلمين في آنٍ واحد، والحفاظ على أمن إسرائيل، والعمل على استرداد الفلسطينيين لحقوقهم، ليس سهلًا في أحسن الأحوال؛ إلا أنهم يعتقدون أن سياسات الإدارة الأمريكية تجعل هذا مستحيلًا، ويتشككون في صحة الفرض الأمريكي الأساسي الذي يؤمن برغبة الدول العربية الحليفة في قبول الصفقة، وبقدرتها على تمريرها وعلى فرضها على الفلسطينيين فرضًا، وعلى تمويل المشروعات الاقتصادية الملازمة لها.
الموازنة بين الرفض والقبول
ومع أن ما سبق قد يعني أن رفض أوروبا لخطة “ترامب” مضمون وحتمي، فإن الأمور تبدو أكثر تعقيدًا. ففي المقابل، يدرك الأوروبيون أن المقاربات السابقة فشلت، وأن حل الدولتين يزداد صعوبة كل يوم، وأنه سيقابل بتعنت إسرائيلي، وأن خطر ضم إسرائيل أراضيَ جديدة ما زال قائمًا وورادًا.
ومن ناحيةٍ أخرى، يستنتج الجميع من الخلفيات الأيديولوجية للفريق المُعِدّ للصفقة، ومن التأخر في الكشف عن الشق السياسي منها، أنه سيكون حتمًا سيئًا جدًّا، ولكن هناك احتمال وإن كان ضئيلًا ألا يكون شرًّا مطلقًا، وقد يكون هناك في الدوائر الأوروبية من يحذر من معارضة السياسة الأمريكية على كل الجبهات وعلى طول الخط، ويرى أنه يجب تقديم تنازلات في ملفٍّ ما، وأن المرحلة هي مرحلة الموازنة بين خيارات مرة واختيار أخف الأضرار.
وهنا تجدر الإشارة إلى ظاهرة هامة في العلاقات الأوروبية الأمريكية، فكما أن كراهية الإدارة الأمريكية الحالية لا تحتم معارضتها في كل الملفات، فإن العلاقات الجيدة معها لا تعني الموافقة على كل سياساتها.
وقد يكون موقف الدول العربية الحليفة محدِّدًا هامًّا لما يفعله الأوروبيون، لا سيما إن كان هناك إجماع عربي على رفض مبادرة “ترامب”.
وفي كل الأحوال فإنه لا يُمكن التنبؤ بردود فعل الدول الأوروبية طالما لم يتم الكشف عن الشق السياسي. وحتى بافتراض أن التوقّعات سليمة، وأن المبادرة سيئة جدًّا؛ فإن الأوروبيين سيدينونها مع ترك الباب مواربًا. وسيكون اجتماع المنامة مؤشرًا هامًّا، وستلعب أيضًا تطورات الأزمة مع إيران دورًا في تحديد مختلف المواقف إزاء المبادرة بما في ذلك الموقف الأوروبي.
————
- ضمت قائمة الموقعين أسماء رئيسة جمهورية سابقة (أيرلندا)، وسبعة رؤساء وزارة (من فرنسا، وبولندا، والسويد، وإيطاليا، ورومانيا، وبلجيكا)، ورئيس سابق للمجلس الأوروبي، وأكثر من ثلاثين وزير خارجية سابقًا (من فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وإسبانيا، وسلوفاكيا، وهولندا، والدنمارك، والسويد، وتشيكيا، وفنلندا، والنمسا، وبلجيكا، وسلوفينيا، وكرواتيا، ولوكسمبورج).