في ضوء مستجدات الواقع السياسي بالجزائر، وتصاعد وتيرة الحراك الشعبي الذي نتج عنه إقالة الرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة” في مطلع أبريل الماضي، وإلغاء الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في الرابع من يوليو؛ أعلن الرئيس الجزائري المؤقت “عبدالقادر بن صالح” الثاني عشر من ديسمبر المُقبل موعدًا للانتخابات الرئاسية، وذلك على الرغم من استمرار انقسام الآراء الجزائرية بشأنها، بين فريق يرى أهمية إقامتها على نحو عاجل، وآخر يرى أولوية القضاء على رموز النظام السابق قبل إجرائها.
منذ أن تم التوافق على أهمية إجراء انتخابات رئاسية في ديسمبر المُقبل كأحد مخرجات الحوار الوطني، قام 143 شخصًا بسحب أوراق الترشح من السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات؛ إلا أن 23 شخصًا فقط قاموا بإيداع أوراقهم لدى السلطة كمرشحين محتملين. وبعد فحص الملفات، أعلنت السلطة الوطنية للانتخابات عن قبول ملفات ترشح خمسة مرشحين فقط ممن استوفوا كل الشروط القانونية. وعلى الرغم من تقدم تسعة من المرشحين المرفوضين بطعون قانونية، إلا أن المجلس الدستوري رفض جميع الطعون ليؤيد قائمة المرشحين الخمسة التي أعلنتها السلطة الوطنية للانتخابات.
وتتضمن قائمة المرشحين الخمسة: “عبدالمجيد تبون” رئيس الوزراء الأسبق، و”علي بن فليس” رئيس الوزراء الأسبق أيضًا ورئيس حزب طلائع الحريات المعارض، و”عبدالقادر بن قرينة” وزير السياحة الأسبق ورئيس حركة البناء الوطني (هو حزب إسلامي ينتمي لتيار الإخوان، إلا أنه انشق عن الحزب الرئيسي حركة مجتمع السلم). كما يخوض المنافسة الانتخابية أيضًا “عبدالعزيز بلعيد” رئيس حزب المستقبل الذي نافس الرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة” في الانتخابات الرئاسية عام 2014 حاصلًا على 3.3% فقط من الأصوات. و”عز الدين مهيوبي” الأمين العام بالنيابة لحزب التجمع الوطني الديمقراطي والذي شغل منصب وزير الثقافة وقبلها وزير الاتصالات.
الانتخابات الرئاسية.. دوافع متعددة
هناك عدد من الدوافع وراء إعلان الرئيس الجزائري المؤقت “عبدالقادر بن صالح” إجراء انتخابات رئاسية في الثاني عشر من ديسمبر المُقبل، تتمثل في الآتي:
1- محاولة سد الفراغ السياسي: يتمثل الدافع الأساسي وراء تمسك السلطة المؤقتة والمؤسسة العسكرية بإجراء انتخابات رئاسية في الموعد المُشار إليه في محاولة ملء الفراغ السياسي، الذي بدأ منذ استقالة الرئيس السابق “عبدالعزيز بوتفليقة”، والسعي لإعادة الحياة السياسية إلى طبيعتها، والذي لن يتم في ظل شغور منصب رئيس الجمهورية. كما يأتي ذلك في ظل تمدد حالة الوضع الاستثنائي، وانتهاء فترة الرئيس المؤقت “بن صالح” منذ مطلع يوليو الماضي، بعد انتهاء المدة المُحددة دستوريًّا بــ90 يوما، وبات بقاؤه في منصبه كرئيس مؤقت خارج أي إطارٍ دستوري.
2- استكمال خارطة الطريق: وهي الخريطة التي أطلقها الجيش الجزائري في ضوء تفاقم الأزمة، والمتضمنة أربعة بنود تتمثل في: التمسك بالشرعية الدستورية، وإطلاق حوار جاد بين مختلف الأطراف، وتنصيب لجنة عليا مستقلة للانتخابات، وإجراء انتخابات رئاسية في أقرب وقت، وذلك للحيلولة دون استمرار حالة عدم الاستقرار، والحفاظ على مقدرات الدولة، وإعادة الحياة لطبيعتها، وقطع الطريق أمام إطالة أمد المرحلة الانتقالية لما له من تداعيات سلبية على المجتمع الجزائري، والخروج من المأزق السياسي الذي تمر به الدولة منذ اندلاع الحراك الاحتجاجي.
3- استعادة الثقة بين مؤسسات الدولة والقواعد الجماهيرية: يأتي تمسك مؤسسات الدولة الجزائرية بإجراء الانتخابات الرئاسية في ديسمبر المُقبل في إطار جهودها الرامية لإعادة الثقة المفقودة بين الشعب والمؤسسات المختلفة، وهو الأمر الذي تجسد في تأكيد المؤسسات التزامها بعقد انتخابات حرة ونزيهة من دون أي تدخل، فضلًا عن استحداث هيئة مستقلة لإدارة العملية الانتخابية، وهو المطلب الذي طالما طالبت به القوى السياسية والمدنية، والتي ستدير الانتخابات الرئاسية للمرة الأولى في ديسمبر المقبل بدلًا من وزارة الداخلية التي كانت المسئولة تقليديًّا عن إدارة الانتخابات، مما فتح الباب في مناسبات عديدة للشكيك في حيادية العملية الانتخابية ونزاهتها.
4- التخفيف من الضغوط على المؤسسة العسكرية: تشهد المؤسسة العسكرية الجزائرية تحديات مختلفة خلّفها الحراك الشعبي في إطار حرصها على الحفاظ على تماسك الدولة وعدم تفتتها وحماية أمنها القومي، لذلك ترغب في التغلب على الأزمة سريعًا من خلال إجراء انتخابات رئاسية للتفرغ لمهامها التقليدية في أقرب فرصة. فمنذ بداية الأزمة، تلعب المؤسسة العسكرية دورًا فاعلًا في التفاعلات السياسية للخروج من الوضع الاستثنائي الذي تمر به الجزائر منذ مطلع العام الجاري، وتدفع بصورة أو بأخرى لإتمام عملية التحول التي لن تتم إلا بوجود رئيس منتخب. فالمؤسسة العسكرية تسعى منذ استقالة “بوتفليقة” إلى تأكيد أهمية الذهاب إلى انتخابات رئاسية لإنهاء حالة الفراغ، وهو ما يتضح في ضوء التصريحات والتحذيرات المختلفة التي أبداها الفريق “أحمد قايد صالح” -رئيس أركان الجيش الجزائري- من اتخاذ “جزاء رادع” أمام من يقف أمام عرقلة الانتخابات ويقف مهددًا للاقتراع.
إجراءات تمهيدية مُسبقة
على خلفية استمرار الحراك الشعبي، وحالة غياب الثقة داخل المجتمع الجزائري تجاه القائمين على الحكم، وتحقيقًا لخارطة الطريق الانتقالية؛ قامت السلطات الجزائرية بعدد من الإجراءات التي تبثُّ رسائل طمأنة للرأي العام الداخلي، وكان أولى تلك الخطوات إعلان الرئيس المؤقت “بن صالح” إطلاق حوار وطني تقوده شخصيات مستقلة لوضع خارطة طريق تحول دون استمرار ذلك الفراغ، وتحقيقًا لتطلعات الرأي العام في التغيير الجذري لنظام “بوتفليقة”، والإعداد التكاملي والتشاركي لكافة أطياف المجتمع الجزائري لرسم مرحلة ما بعد “بوتفليقة”، وللتأكيد على أهمية إجراء الانتخابات الرئاسية -كمسار أساسي لا بديل له- في أقصى وقت ممكن وتهدئة للشارع الجزائري. وقد حيد الرئيس المؤقت كافة المؤسسات الرسمية بما فيها المؤسسة العسكرية من ذلك الحوار ضمانًا لنزاهتها وشفافيتها.
واتصالًا بما سبق، قامت الدولة بالاستجابة لمطالب الحراك من خلال تعديل قانون الانتخابات وتكييفه بشكل يتجاوب تمامًا مع المطالب الملحة للشعب الجزائري، حيث تم تضمينُ هذه التعديلات في القانون العضوي للانتخابات الأحكام الخاصة المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية الموجودة في الباب الثالث من القانون.
علاوة على ما سبق، تم استحداث “السلطة المستقلة للانتخابات” كأحد مخرجات الحوار الوطني الذي تولت تنسيقه هيئة الوساطة الجزائرية بقيادة “كريم يونس”. وقد صادق البرلمان في منتصف سبتمبر الماضي على قانون إنشاء السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات –برئاسة “محمد شرفي” وزير عدل الأسبق- ليُناط بها الإشراف على العملية الانتخابية، بدءًا من التسجيل في القوائم الانتخابية، وصولًا للإعلان عن نتائجها. وبهذه الخطوة يكون قد تم سحب تنظيم الانتخابات من وزارة الداخلية الجزائرية بما يُعزز مبدأ الثقة بين الرأي العام وبين الإدارة المؤقتة، ويؤكد نوايا الدولة في إجراء انتخابات تتميز بالنزاهة والشفافية، الأمر الذي يُعطي دفعة للمشاركة في تلك الانتخابات.
تحديات مستقبلية
يرتبط مستقبل الانتخابات الرئاسية الجزائرية بالقدرة على تجاوز عددٍ من التحديات المهمة، والتي تتمثل في:
1- وجود تيار كبير معارض لعقد الانتخابات الرئاسية في هذا الوقت. ويضم هذا التيار العديد من السياسيين والمدنيين، حيث يضع سبعة شروط مسبقة لعقد الانتخابات الرئاسية من وجهة نظره، تضمنت: رحيل رموز النظام، والقضاء على الفساد، وإطلاق سراح المعتقلين، وإيقاف المتابعات المختلفة، ورفع التضييق على المسيرات الشعبية، واحترام حق التظاهر، ودعوة الأطراف المؤمنة بمطالب الحراك إلى طاولة الحوار. ومنذ الإعلان عن عقد الانتخابات، يلعب هذا التيار دورًا كبيرًا في خلق حالة من الرفض الجماهيري للخيار الانتخابي على النحو الذي تجسد في مظاهرات الأول من نوفمبر.
2- موقف مؤسسات الدولة من العملية الانتخابية في ظل ما تشهده المؤسسة القضائية من أزمة داخلية قد تكون لها انعكاساتها الكبيرة على العملية السياسية في البلاد، وهي الأزمة التي نجمت عن قيام وزير العدل بإجراء الحركة السنوية لنقل القضاة والتي شملت نسبة كبيرة منهم أسفرت عن دخول أعداد من القضاة في إضراب أسفر عن بعض الاشتباكات مع قوات الأمن.
3- العزوف الانتخابي وعدم إقبال أعداد كبيرة من الناخبين على المشاركة في الانتخابات المقبلة، خاصة في ظل استمرار حالة عدم الثقة، والتشكيك في نوايا مؤسسات الدولة. الأمر الذي قد يسفر عن وصول رئيس جديد للحكم لا يتمتع بقدر كبير من الشعبية، مما سيؤثر على قراراته ومواقفه بصورة كبيرة.
ختامًا، فإن مشهد الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في ديسمبر المقبل يختلف تمامًا عن المشهد قبيل انتخابات أبريل ويوليو اللذين سبق تأجيلهما. فمن ناحية، مثلت السلطة الوطنية للانتخابات مصدرًا لثقة العديد من الناخبين في العملية الانتخابية. ومن ناحية ثانية، جاء الإقبال الكبير من عدد من الوجوه السياسية البارزة للترشح في الانتخابات ليعكس قدرًا كبيرًا من جدية العملية الانتخابية. ومن ناحية ثالثة، جاء خلوّ القائمة النهائية للمرشحين من أي اسم من الدائرة القريبة من الرئيس “بوتفليقة” ليؤكد القطيعة مع الماضي. لكن أمام هذه المؤشرات الإيجابية يبقى تجاوز تحديات المعارضة السياسية والعزوف الانتخابي أمرًا أساسيًّا لنجاح الانتخابات.