شهدت الفترة الأخيرة بعض المتغيرات المهمة ذات الصلة بتطورات القضية الفلسطينية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ويأتي في مقدمة هذه التطورات الدعوة الأمريكية لعقد مؤتمر المنامة في نهاية شهر يونيو الجاري، وكذا الدعوة لعقد لقاء ثلاثي أمني “أمريكي-إسرائيلي-روسي” بالقدس في الشهر نفسه، ثم تطورات الموقف الداخلي في إسرائيل، وأخيرًا عقد القمة العربية الطارئة والقمة الإسلامية في مكة.
وهذه التطورات تفرض ضرورة تقييم مواقف الأطراف الرئيسية، وصولًا إلى بلورة رؤية واضحة حول متطلبات التحرك العربي المفترض خلال المرحلة المقبلة.
أولًا: الموقف العربي
لا يزال الموقف العربي يعاني من تبعات الأزمات المثارة في المنطقة منذ فترة، ومن بينها الأوضاع في كلٍّ من ليبيا وسوريا واليمن. ثم جاءت التهديدات الإيرانية الأخيرة لتضيف بُعدًا جديدًا يزيد من حدة هذه الأزمات باعتبار أن هذه التهديدات ورد الفعل الأمريكي السريع تجاهها قد تنبئ عن تطورات سلبية سوف تؤثر على الاستقرار في المنطقة، رغم أن كافة الأطراف لا تزال حريصة حتى الآن على عدم الوصول إلى مرحلة العمل العسكري.
ومن المؤكد أن هذه التطورات تسحب بشكل كبير من رصيد القضية الفلسطينية وطبيعة الاهتمام الإقليمي والدولي بها، ولذا لم يتضمن البيان الختامي الصادر عن القمة العربية الطارئة التي عُقدت في مكة في 30 مايو تفصيلات حول الوضع الفلسطيني، مكتفيًا بإعادة التأكيد على الموقف العربي من القضية طبقًا لمقررات القمتين الأخيرتين في الظهران وتونس. وفي رأيي، فإن هذا يُعد أمرًا طبيعيًّا في ضوء أن هذه القمة حاولت أن تكون أكثر تركيزًا على مسألة كيفية مواجهة التهديدات الإيرانية، وبالتالي، من المهم الرجوع إلى مقررات القمتين السابقتين اللتين تضمنتا كل المواقف المؤيدة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وخاصة إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، مع التمسك بمبادرة السلام العربية.
وفي الوقت نفسه، سوف يواجه الموقف العربي تحديات جديدة خلال المرحلة القادمة، خاصة بعد الإعلان عن مؤتمر المنامة الاقتصادي باعتباره إحدى مراحل “صفقة القرن”، وإعلان بعض الدول العربية عزمها المشاركة في أعماله. ولعل جوهر هذه التحديات يتمثل في كيفية الربط الموضوعي المطلوب بين هذا المؤتمر ذي الطبيعة الاقتصادية وبين الجانب السياسي من “صفقة القرن”، حتى لا يبدو الأمر وكأننا اكتفينا بهذا الجانب الاقتصادي دون الشق السياسي الأهم الذي لا يزال غامضًا ولم يتم طرحه رسميًّا، رغم أن كل المقدمات تشير إلى أنه لن يكون في مصلحة الجانب الفلسطيني. وفي رأيي، فإن الجانب العربي مدرك تمامًا لهذه المسألة، وسيحرص على معالجتها بالقدر المستطاع.
وبالتالي، إذا كانت الدول العربية سوف تشارك في هذا المؤتمر -وهذا من حقها طبقًا لرؤيتها وقناعاتها وحساباتها- فإن عليها أن تقوم بما يلي:
– التأكيد للولايات المتحدة أن هذا المؤتمر لا يجب أن يكون نهاية المطاف في ظل القناعة بأن السلام الاقتصادي وحده يُعد مسارًا غير مقبول وغير كافٍ.
– التأكيد للمجتمع الدولي أنه بدون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية فلن يكون هناك استقرار حقيقي في المنطقة.
– الاتجاه قبيل عقد المؤتمر إلى الإعلان عن أن حضورها ومشاركتها لا يعد تغييرًا في مواقفها الثابتة والمعروفة تجاه القضية الفلسطينية.
– أن تتم عملية تقييم لنتائج المؤتمر بعد انتهاء أعماله لتحديد مدى جدواه، وكذا تحديد شكل الخطوات العربية القادمة فيما يتعلق بصفقة القرن ككل.
ثانيًا: الموقف الفلسطيني
من الطبيعي أن يكون الموقف الفلسطيني جزءًا لا يتجزأ من الموقف العربي، خاصة بالنسبة للمبادئ الرئيسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية؛ إلا أن الموقف الفلسطيني بالنسبة لمؤتمر المنامة اتجه إلى اتخاذ موقف مضاد رافض للمشاركة في أعماله، بل ومناشدة الدول العربية عدم الحضور. وفي هذا المجال أود الإشارة إلى النقاط التالية:
– أن الموقف الفلسطيني تجاه ما يُسمى “صفقة القرن”، أو أية خطة سلام يطرحها أي من الأطراف، من المؤكد أنها سوف تبدو أكثر موضوعية بعد مرحلة الإعلان عنها رسميًّا وليس قبل ذلك. وما زلت أرى أنه من حق الفلسطينيين تمامًا رفض أية مبادرات سلام لا تلبي مطالبهم العادلة التي أقرها المجتمع الدولي، لكن النقطة التي أود التركيز عليها هنا أن يكون هذا الرفض لاحقًا لطرح الخطة وليس سابقًا عليها حتى يكون الأمر مقبولًا ومبررًا من المجتمع الدولي الذي لا يزال مؤيدًا لحل القضية الفلسطينية طبقًا لمقررات الشرعية الدولية.
– أن السلطة الفلسطينية التي كانت تعتبر أن الولايات المتحدة هي الشريك الكامل في عملية السلام قد فوجئت بمواقف الإدارة الأمريكية الحالية تجاه أهم قضيتين من قضايا الوضع النهائي، والتي لا يمكن لأي زعيم فلسطيني التنازل عنهما تحت أي مسمى، وهما قضيتا القدس واللاجئين. ومن ثم، لم يكن أمام السلطة الفلسطينية سوى التأكيد على أن واشنطن بهذه المواقف المتحيزة لإسرائيل قد أبعدت نفسها عن كونها الشريك الكامل في التسوية السياسية.
– أن موقف السلطة الفلسطينية تجاه مؤتمر المنامة لا يمكن لأحد أن يعتبره خروجًا على الموقف العربي، خاصة أن السلطة ترى أن هذا المؤتمر يُعد تنفيذًا عمليًّا لصفقة القرن التي تركز على الجانب الاقتصادي دون السياسي، ومن المستحيل على أية قيادة فلسطينية وطنية ومسئولة أن تتماشى مع نهج بهذا الشكل يفتقد لرؤية سياسية مستقبلية واضحة وشاملة وعادلة. ويبقى على الدول العربية المشارِكة في المؤتمر أن تُقدر هذا الموقف الفلسطيني، وتجد له المبررات المنطقية، وأن تكون هناك قنوات تواصل دائمة مع السلطة الفلسطينية لتنسيق المواقف والتحركات.
– من الضروري ألا تفقد السلطة الفلسطينية أية خطوط اتصال تراها مناسبة مع الولايات المتحدة رغم كل مواقفها المتحيزة لإسرائيل؛ ففي النهاية تظل واشنطن هي أكثر الأطراف التي يمكن لها التأثير على الموقف الإسرائيلي حتى ولو نسبيًّا.
ثالثًا: الموقف الإسرائيلي
من الواضح أن فشل “نتنياهو” في تشكيل حكومة جديدة كان أمرًا خارج التوقعات، ولا سيما بعد نجاح الأحزاب اليمينية والدينية في الحصول على 65 مقعدًا خلال الانتخابات الأخيرة. لكنّ هناك نقاطًا من المفيد الإشارة إليها في هذا الشأن، أهمها ما يلي:
– أن الفشل في تشكيل الحكومة لم يرجع لأسباب سياسية أو خلافات على القضية الفلسطينية، ولكنه ارتبط بقضايا خلافية داخلية وتوازنات محددة، وطبيعة العلاقة الشائكة بين “نتنياهو” و”ليبرمان”.
– أن اليمين الإسرائيلي لا يزال متفوقًا بشكل كبير في آخر استطلاعات الرأي، بل إنه قد يحصد مقاعد أكثر في الكنيست القادم، وبالتالي يظل اليمين المتطرف بأشكاله المختلفة هو المسيطر على الساحة السياسية الإسرائيلية لفترة طويلة قادمة، ولن يكون ذلك في صالح عملية السلام.
– يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن الحزب الرئيسي المنافس لليكود -وهو ائتلاف “أزرق أبيض”- يتبنى توجهات متشددة للغاية تجاه القضية الفلسطينية، تكاد تتطابق مع توجهات الليكود. ومن المؤكد أنه لن يغير هذه التوجهات خلال حملته الانتخابية القادمة.
– أن “نتنياهو” سيظل يتمتع بقوة تساعده على البقاء والمقاومة حتى يقود الليكود في المعركة الانتخابية المقبلة، كما أنه لا يزال يتمتع بالدعم الأمريكي المطلق. وحتى إذا سلمنا بأنه سوف يختفي من الحياة السياسية بفعل قضايا الفساد، وهو أمر غير مرجح حتى الآن، فإن الشخصية المرشحة بدلًا منه سوف تكون من القيادات الرئيسية في الليكود (“جدعون ساعر” على سبيل المثال) التي تتبنى سياسة ومبادئ حزبية لن تجرؤ على تغييرها تجاه الموضوع الفلسطيني، خاصة وأنها ستكون مضطرة للائتلاف مع أحزاب يمينية ودينية متشددة لتشكيل الحكومة الجديدة.
رابعًا: الموقف الأمريكي
حرصت الإدارة الأمريكية على الإعلان عن عقد مؤتمر المنامة تأكيدًا لجديتها في تنفيذ “صفقة القرن” مع محاولتها التأكيد أيضًا على أن الجانب السياسي من الصفقة سوف يُطرح في الوقت المناسب دون تحديده. ولا شك أن حل الكنيست سوف يدفع واشنطن إلى التريث في طرح المراحل الأخرى من الصفقة دون التراجع عنها أو عن عقد مؤتمر المنامة الاقتصادي. كما أن واشنطن سوف تتدخل مرة أخرى من أجل دعم “نتنياهو” في الانتخابات القادمة. ويتبقى أن نتابع عامل الوقت الذي قد يفرض على الرئيس “ترمب” مزيدًا من التريث ارتباطًا باقتراب إطلاق حملته من أجل إعادة انتخابه مرة أخرى.
ويبدو أن هناك متغيرًا جديدًا على الساحة السياسية تمثل في إعلان واشنطن عقد لقاء أمني ثلاثي إسرائيلي-أمريكي-روسي في القدس خلال شهر يونيو الحالي (على مستوى مستشاري الأمن القومي)، وهو ما أكده أيضًا “نتنياهو”، بل اعتبرها قمة ثلاثية، وأنه صاحب هذه المبادرة. وفي هذا المجال نشير إلى الأبعاد التالية:
– أن العلاقات الأمريكية-الروسية تدخل في مرحلة التفاهم والتنسيق فيما يتعلق بالوضع الأمني الإقليمي في المنطقة، مع التركيز على الدور الإيراني المتزايد في سوريا، والذي أصبح لا يروق كثيرًا للجانب الروسي، وهو ما يعكس أن العلاقات الثنائية بين القوتين العظميين تُمثل أحد أهم أسس تعامل الدولتين مع بعض الأزمات التي تعاني منها دول المنطقة أكثر من الحرص على مصالح هذه الدول نفسها.
– أن العلاقات الإسرائيلية-الروسية تسير بشكل جيد للغاية، خاصة فيما يتعلق بالوضع في سوريا وقبول الروس تمامًا بمبدأ إسرائيل الذي أقرته منذ البداية، ومفاده أنها لن تسمح بأن تكون سوريا نقطة انطلاق لإيران أو لغيرها لتهديد الأمن القومي الإسرائيلي.
– أن إسرائيل بهذا اللقاء الثلاثي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من منظومة الأمن الإقليمي، خاصة أنه اجتماع غير مسبوق سوف يناقش قضايا إقليمية على نطاق شامل.
– لا يمكن النظر لهذا اللقاء الثلاثي على أنه سوف يكون مؤثرًا على موضوع التسوية السياسية، حيث إن الموقف الروسي من القضية الفلسطينية يتعارض تمامًا مع كلٍّ من الموقفين الإسرائيلي والأمريكي اللذين لن يسمحا لروسيا بأن يكون لها تأثير حقيقي على مستقبل عملية السلام.
الخلاصة
في ضوء ما سبق يمكن طرح الاستنتاجات التالية:
– أن الولايات المتحدة لن تتراجع عن طرح “صفقة القرن” ارتباطًا بالسياسة التي ينتهجها الرئيس “ترامب” منذ توليه السلطة، والمتمثلة في تنفيذ كافة تعهداته. وستتم عملية الطرح على مراحل زمنية متفاوتة. أما مسألة تنفيذها على الأرض فسوف ترتبط بعامل الوقت وبمن يملك سياسة النفس الطويل، وكذا بمواقف الأطراف المعنية ومدى قدرتها على التعامل مع هذه الصفقة أو مع بعض مراحلها أو مواجهتها كلها. كما ستكون التهديدات الإيرانية في المنطقة إحدى أهم الأدوات الأمريكية لتسويق الصفقة.
– أن حل الكنيست الإسرائيلي لن يغير من التوجه اليميني المتشدد والمتصاعد بقوة والرافض لعملية سلام تتضمن مبدأ حل الدولتين، وهو الأمر الذي يهمنا، ولا بد من التفكير في كيفية التعامل معه. وقد يكون حل الكنسيت مبررًا لتأجيل طرح المراحل التالية من “صفقة القرن” ولكن دون إلغائها، وإن كان من المتوقع أن الائتلاف اليميني الديني القادم سوف تكون لديه تحفظات على الصفقة.
– أن الموقف العربي الراهن يعاني من وضعية صعبة، وهو ما يفرض ضرورة عدم تحميله أكثر مما يحتمل، ولكنه -في الوقت نفسه- أصبح مطالبًا بإعادة طرح “الكارت” الواقعي الذي لا يزال يملكه تجاه عملية السلام والذي يمكن توصيفه بأنه “أضعف الإيمان”، وهو التأكيد في مناسبات متقاربة على المبادئ المعروفة تجاه التسوية السياسية العادلة للقضية الفلسطينية، والتمسك بالمبادرة العربية للسلام، ورفض أية خطة سلام لا تلبي المطالب الفلسطينية المتوافق عليها.
– أهمية التعامل العربي الحذر مع مراحل “صفقة القرن” حتى لا نمنحها الشرعية دون أن نضمن تحقيق المتطلبات الفلسطينية العادلة.
– يجب على الدول العربية أن تكون حريصة على ألا يتم استثمارها كإحدى أدوات تنفيذ تسوية سياسية لا يقبلها الفلسطينيون مهما كانت الضغوط والمبررات، ولكن دون أن يصل الأمر إلى مرحلة الاصطدام مع الولايات المتحدة، وتلك هي المعادلة الصعبة التي لا بد أن ننجح فيها.
– أن الوضع الإقليمي الحالي يفرض على السلطة الفلسطينية أن تكون في حالة تنسيق متواصل مع الموقف العربي ككل. ومن الضروري أن تجد السلطة المبرر الموضوعي لهوامش الحركة العربية التي قد لا ترضى عنها كلها، ولكنها تبدو تحركات ضرورية ومطلوبة تفرضها طبيعة الظروف التي تمر بها المنطقة، في الوقت الذي يجب أن تتجه فيه السلطة إلى بذل مزيد من الجهد من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني، وسيكون ذلك أبلغ رد على الموقفين الأمريكي والإسرائيلي.