تتأهل الآلة العسكرية الإيرانية، ووكلاء طهران عبر الإقليم، للقيام بهجمات مضادة على أهداف أمريكية في إطار الأوامر التي أصدرها المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” انتقامًا لاغتيال الولايات المتحدة “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس الإيراني، بما يُنذر باحتمالات اندلاع حرب ربما لن تقتصر على المسرح العراقي، بل قد تمتد لتشمل دائرة أوسع في الإقليم وأهدافًا أخرى في مواقع متفرقة من العالم. وفي المقابل، رفعت الولايات المتحدة درجة التأهب الدفاعي إلى أقصى درجة ممكنة، حيث يسود الاعتقاد بأن قواعد الاشتباك بين طهران وواشنطن خرجت عن السيطرة مع تجاوزهما سقف “الخطوط الحمراء” الذي يمكن توقعه. كما أن محاولات العودة خطوة إلى الخلف يبدو احتمالًا ضعيفًا. فلا شك أن تاريخ العلاقات الإيرانية الأمريكية سيؤرخ له من الآن فصاعدًا بعملية “البرق الأزرق” كتاريخ فاصل.
كذلك، فإنه لا يجب إهمال باقي الشخصيات الأخرى التي تم اغتيالها مع “سليماني” من حسابات المواجهة، لا سيما “أبو مهدي المهندس” الشخصية الأقوى بين قادة “الحشد”، بعد أيام قليلة من استهداف أكثر من 25 من عناصر “الحشد”، أبرزهم “أبو علي الخزعلي” القيادي في ميليشيا “حزب الله العراقي”، وهو من أقرب الشخصيات لكل من “سليماني” و”المهندس”، إضافة إلى كونه أحد أبرز الكوادر الفنية التي تعتمد عليها إيران في العراق في تأمين الإمدادات العسكرية للعراق وسوريا. وبالتالي ستدفع الرغبة في الثأر العديد من ميليشيات “الحشد”، لا سيما “حزب الله العراقي” المدرج على قائمة الإرهاب الأمريكي، و”عصائب أهل الحق” التي تم إدراجها يوم العملية 3 يناير 2020 كحركة إرهابية، إضافة إلى الارتباط الهيكلي والعقائدي مع إيران؛ إلى الانتقام من الولايات المتحدة، فضلًا عن انضمام قوى شيعية أخرى في المواجهة المحتملة في العراق أبرزها: “سرايا المهدي” التي أعاد إحياءها رجل الدين الشيعي “مقتدى الصدر” لـ”حماية العراق”.
كيف يفكر الطرفان الآن؟
الضربة الرابعة
في هذا السياق، من المتصور أن الضربة الرابعة في مسار الضربات التبادلية بين الطرفين هي التي سترسم ملامح وطبيعة سيناريو المواجهة القادم (الضربة الأولى شنها “حزب الله العراقي” على قاعدة K1 قرب كركوك، وردت واشنطن باستهداف قواعده في العراق وسوريا، فردت طهران على الرد بدفع “الحشد” إلى اقتحام السفارة الأمريكية)، لكن مع الوضع في الاعتبار أن الضربة الرابعة ستعتمد على نتائج الرسائل المتبادلة على الجانبين عبر الخارجية السويسرية، فربما يكون أحد الاحتمالات هو أن تلجأ إيران إلى القيام بضربة “انتقامية” فقط ضد هدف أمريكي، في حال كان هناك رد أمريكي إيجابي، ثم تذهب إلى “صفقة” جيدة لصالحها، لا سيما في ضوء مقولة الرئيس “ترامب” بأن إيران يمكن أن تكسب بالمفاوضات كالعادة، بينما لن تكسب الحرب. كما أن إيران ستُبقي على الميليشيات العراقية لضمان هذا المسار لاحقًا في حال تعثر. لكن في المقابل أيضًا ربما تغامر إيران بعملية تشكل كلفة غير محسوبة تضع الرئيس أمريكي أمام قرار الحرب.
حرب الإطاحة برؤوس الهرم
ربما يكون التفكير الإيراني -في ضوء ما سبق- هو شن ضربة كبيرة تُطيح بالرئيس الأمريكي، لتكرر سيناريو عام 1979 حيث أطاحت أزمة الرهائن بالرئيس “جيمي كارتر”، بينما أفرجت عنهم بمجرد إعلان فوز الرئيس “رونالد ريجان”. وفي المقابل، فإن الإدارة الأمريكية التي تكرر أنها لا تفكر في تغيير النظام الإيراني؛ ستستمر في حصد الرؤوس التي تشكل لها تهديدًا، وستمرر هذا الاتجاه كنوع من الضربات الاستباقية والردع الدفاعي.
الحشد وتحصين الجبهات
لا شك أن كلا الطرفين يسعى إلى تحصين وتعزيز الجبهات التي يقف عليها كل منهم، لا سيما الجبهات المشتركة التي تجمعهما معًا، فالولايات المتحدة التي كانت في مسار تخفيض تواجدها العسكري في الشرق الأوسط، أصبحت في مسار معاكس بحاجة لتعزيز تلك القوات، حيث قررت إرسال 3 آلاف جندي إضافي إلى الشرق الأوسط في أعقاب العملية، لتأمين تواجدها ومصالحها، ولم تذكر إلى أين ستتجه تحديدًا، لكن من المتصور أن العراق سيكون له النصيب الأكبر من تلك القوات، وهو ما يُمثل تحديًا جديدًا لأي حكومة عراقية، خاصة في ظل الضغوط السياسية التي ستمارسها الميليشيات عبر الكتل البرلمانية لإنهاء اتفاق التحالف الدولي ضد الإرهاب المبرم عام 2014.
وعلى الجانب الآخر، فإن طهران بصدد إعادة تأهيل البنية العسكرية لميليشيات “الحشد” التي تضررت في العراق، فضلًا عن حشد باقي الوكلاء في سوريا ولبنان واليمن، وربما أيضًا خلاياها النائمة في مواقع أخرى من العالم. وفي هذا السياق، أصبح لدينا معطى آخر، وهو أن نظرية الردع الإيرانية تعرضت لضربة قاضية من أبعاد عديدة. فهناك انكشاف في تأمين دفاعات لحماية بنية الوكلاء في الخارج، فبعد شهور من انتهاء حملة القصف الإسرائيلية على قواعد “الحشد الشعبي”، كان هناك حديث متواتر عن وضع دفاعات لتأمين تلك القواعد، إضافةً -وربما هو الأهم- إلى الضربة القاضية التي تعرضت لها الاستخبارات الإيرانية في عملية تأمين الرجل القوي في المنظومة الأمنية الإيرانية.
العراق لا يحتمل القوتين
لفترة طويلة، ومنذ سقوط النظام العراقي السابق في 2003، لم يكن التنسيق الأمريكي–الإيراني خفيًّا، بل على العكس يسود الاعتقاد بأن واشنطن هي من سلمت العراق لإيران بدون أي تحديات تذكر، وبالتالي فإن واشنطن تدفع ثمن ذلك الآن، لكن وبخلاف هذا المُعطى، فإن المرونة التي ظل الطرفان يُظهرانها في التعامل معًا في العراق، بشكل مباشر أو عبر الحكومة العراقية كوسيط، لم تعد ذات جدوى حاليًّا. ومن المتصور أن كلا الطرفين يفكر الآن في أن بقاء الآخر على النحو السابق لم يعد محتملًا، فإيران تفكر في إنهاء التواجد الأمريكي في العراق. وفي المقابل، تفكر الولايات المتحدة في إبعاد إيران عن العراق، لا سيما أن وجودها في العراق يُشكل مصدر قوة رئيسيًّا في المواجهة مع واشنطن.
إجمالًا، يمكن القول إن هناك ضربة مرتقبة من طهران تجاه واشنطن في إطار “تبادل اللكمات” على حلبة المصارعة العراقية، سترسم مسار العلاقة بين إيران والولايات المتحدة من الآن فصاعدًا، وستحدد طبيعة قواعد الاشتباك بين الطرفين على مسرح الشرق الأوسط، وما إذا كانت تلك التطورات ستقود إلى حرب إقليمية جديدة أم إن دورة الصراعات وصلت إلى ذروتها، فلا يزال من الصعوبة التهكن بمستقبل المغامرات التي تشهدها المنطقة، ولا توجد ضمانات للقدرة على التحكم فيها وعدم خروجها عن السيطرة.
كذلك فإن أحد المعطيات المهمة في الدروس المستفادة من هذه التطورات أن مفتاح التحولات في مصير مساحة كبيرة من المنطقة العربية ليس بيد العرب، وإنما بيد الطامحين لفرض مشاريعهم الإقليمية على تلك المنطقة. ويدفع بلدٌ عربيٌّ مثل العراق كلفة ذلك، حيث أصبح مجرد حلبة للصراع بين مختلف القوى الطامعة فيه. وبالتالي، يمكن القول إن المسار الحالي لن يحدد فقط مسار العلاقة بين إيران والولايات المتحدة، ولكن مسار تفاعلات كبيرة في الشرق الأوسط.