يسير تحرير أسعار الكهرباء في مصر وفقًا لخطة واضحة تم تصميمها بالتعاون مع المؤسسات المالية (صندوق النقد الدولي)، بل إن تلك الخطة بدأت قبل تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، حيث إنها بدأت في العام المالي 2014/2015 بعد صدور قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1257 لعام 2014 الذي يتضمن خفض الدعم الموجه للكهرباء من خلال تطبيق زيادات سنوية على أسعار الشرائح المختلفة للكهرباء بداية من العام المالي 2014/2015 وتنتهي في عام 2018/2019، والتي تكون فيها أسعار الكهرباء قد تم تحريرها (رفع الدعم من على أسعار الكهرباء). لكن ونظرًا للظروف المختلفة التي مر بها الاقتصاد المصري منذ ذلك القرار، والتي تخللها إصلاح منظومة سعر الصرف الذي جاء ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي في نوفمبر 2016، الذي ترتب عليه انخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، الأمر الذي تسبب في ارتفاع معدل التضخم وزيادة الأعباء على المواطنين، وهو ما ترتب عليه إعادة العرض على مجلس الوزراء بمد مدة برنامج إعادة هيكلة أسعار بيع الكهرباء لثلاث سنوات أخرى تنتهي في العام المالي 2021/2022، في محاولة لتخفيف الأعباء على المواطنين. لكن وللمرة الثانية لم تسر الأمور كما هو مخطط لها حيث ضرب وباء كورونا العالم وتسبب في إغلاق اقتصادي جزئي وتوقف جزئي لعجلة الإنتاج، الأمر الذي ترتب عليه زيادة الأعباء على المواطنين، وهو ما ترتب عليه إعادة عرض خطة هيكلة الأسعار على مجلس الوزراء للموافقة على مد أجل خطة خفض الكهرباء للقطاع المنزلي لتنتهي في العام المالي 2024/2025 بدلًا من العام المالي 2021/2022. وقد أعدت وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة استراتيجية إعادة الهيكلة لمجلس الوزراء وتمت الموافقة عليها، لكن وللمرة الثانية على التوالي وبتوجيهات رئاسية يتم تأجيل تلك الخطة نتيجة للوضع الاستثنائي الذي يمر به العالم جراء الحرب الروسية الأوكرانية.
خطة الحكومة
بدأت الدولة خطتها لإعادة هيكلة الدعم وترشيد استهلاك الكهرباء منذ عام 2014/2015، وكان من المخطط أن تستمر تلك الخطة لخمس سنوات تنتهي في عام 2018/2019، لكن في عام 2016/2017 نتيجة لتصحيح منظومة سعر الصرف المصرية التي كانت ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي للحكومة المصرية، ترتب على تلك القرارات التصحيحية بعض الأعراض الجانبية التي تتمثل في ارتفاع معدل التضخم، وحيث إن الدولة المصرية تضع دائمًا اهتمامها على البعد الاجتماعي للإصلاح الاقتصادي مع الحرص على تخفيف أثر الإصلاح الاقتصادي على المواطنين، فقد تم مد خطة رفع الدعم إلى ثماني سنوات حتى تنتهي في العام المالي 2021/2022. لكن نتيجة لجائحة كورونا التي كان تأثيرها على العالم كله، قررت الدولة في يونيو من العام الماضي 2021 أن يتم مد برنامج إصلاح منظومة دعم الكهرباء مرة أخرى إلى ثلاث سنوات لحين العام المالي 2024/2025، وهو ما ترتب عليه توجيه 10 مليارات جنيه من احتياطيات الموازنة العامة للدولة التي تقدر بـ 84 مليار جنيه إلى تحمل تأجيل زيادة أسعار الكهرباء لمدة 6 شهور حتى رفعها بالكامل في عام 2025.
وتعد النقطة الإيجابية الأولى هو الموافقة على مد فترة إعادة هيكلة أسعار الكهرباء (رفع الدعم) لثلاث سنوات إضافية لتنتهي في العام المالي 2024/2025 بدلًا من العام المالي 2021/2022، ونتيجة لذلك القرار سيتم توزيع الأعباء على خمس سنوات بدلًا من سنتين. لكن قرار العام الحالي يطيل من أمد تلك المدة ليصبح الانتهاء منها في العام 2025/2026. وعلى الرغم من أن ذلك القرار سيكلف وزارة المالية فاتورة تقدر بحوالي 26.7 مليار جنيه، فإن الدولة وافقت على تحمل ذلك العبء لتقف بجانب المواطن. أما الأمر الثاني الذي تضمنته الاستراتيجية فيتمثل في تثبيت أسعار بيع الطاقة الكهربائية على الجهود (الفائق، العالي، المتوسط) للخمس سنوات القادمة 2021/2025. ولمواكبة توجه الدولة في دعم القطاع الصناعي في البلاد فقد تقرر خفض سعر أسعار بيع الطاقة الكهربائية للقطاع الصناعي للجهود (الفائق، العالي، المتوسط) ووافقت الموازنة العامة للدولة على تحمل ذلك الدعم للخمس سنوات القادمة، ومن المتوقع أن يكلف ذلك القرار زيادة عبء وزارة المالية بمقدار 22 مليار جنيه.

يوضح ذلك القرار التوجه العام للدولة من حيث حرصها على تخفيف أثر الموجة التضخمية العالمية على المواطنين، وتحسين الرفاه الاقتصادي، وهو ما يمكن وصفه بالسياسات الإيجابية المرنة التي تضع البعد الاجتماعي للقرارات الإصلاحية موضع أهمية خاصة، لكن هناك ضرورة لزيادة الحملات التوعوية نحو الاستهلاك الرشيد للكهرباء، وهو ما يمكن الدولة من الحفاظ على مواردها وتخفيف أعباء الدعم قدر الإمكان.
تضخم عارم
يأتي الارتفاع في أسعار الكهرباء في ضوء الارتفاعات الكبيرة في أسعار الطاقة العالمية، حيث وصل سعر برميل النفط خام برنت إلى 120 دولارًا للبرميل، وحيث إن مصر تستورد حوالي 120 مليون برميل سنويًا، فقد كان لتلك الارتفاعات أثر سلبي على الموازنة العامة للدولة. لكن تلك الزيادات في أسعار النفط لها تأثير محدود على عملية توليد الكهرباء في مصر، إذ إن معظم الكهرباء التي يتم توليدها في مصر، يتم من خلال الغاز الطبيعي الذي تحقق مصر الاكتفاء الذاتي منه، لكن وحتى مع تلك الفرضية فإن تكلفة الفرصة البديلة للغاز الطبيعي تعني أن سعر الغاز الذي يتم توليد الكهرباء به يتم قياسه بالسعر العالمي، وهو ما يترتب عليه إعادة تسعير الكيلووات من الكهرباء، وهو ما يترتب عليه ارتفاع في معدلات التضخم في مصر، وزيادة الأعباء على المواطنين. ومن أجل التخفيف على المواطن قررت الحكومة خفض سعر بيع الغاز الطبيعي المورد لمحطات الكهرباء إلى 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، من 3.25 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. ومن الجدير بالذكر أن معدل التضخم في مصر قد ارتفع للشهر السادس على التوالي إلى 13.5٪ في مايو 2022 مقابل 13.1٪ في الشهر السابق له، لكنه أقل من توقعات السوق البالغة 14.2٪.
ذلك المستوى المرتفع من التضخم هو الأعلى منذ مايو 2019، ويعد تجاوزًا لمستهدف التضخم المحدد من جانب البنك المركزي بنسبة من 5 – 9٪، وقد تجاوز التضخم ذلك المعدل للشهر الثالث على التوالي، وتعود تلك الزيادة في معدلات التضخم إلى أزمة الغذاء العالمية وارتفاع أسعار السلع الأساسية خاصة الزيت والقمح والنفط بسبب الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على التجارة العالمية، وهو ما ترتب عليه الضغط على موارد الدولة من العملات الأجنبية وانخفاض قيمه عملتها والتي ساهمت في تلك المعدلات من التضخم نتيجة لاستيراد مصر لعدد كبير من السلع.
ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على مختلف الملفات الدولية، سياسية كانت أو اقتصادية، لكن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء الناجم عن تلك الحرب تسبب في موجة تضخمية عالميًا، استوجبت إعادة النظر في الخطط والسياسات الاقتصادية التي وضعتها الدول خلال مسيرة إصلاحها الاقتصادي، كانت مصر ضمن تلك الدول التي اتسمت سياساتها بالمرونة إذ إنها أعادت النظر في العديد من الملفات والسياسات التي كان من المخطط تطبيقها، ويأتي من ضمنها برنامج إصلاح منظومة دعم الكهرباء. وعلى الرغم من أن تأجيل ذلك القرار يكلف الموازنة العامة للدولة تكاليف إضافية؛ إلا أن الدولة فضلت التخفيف عن المواطنين وتأجيل تلك القرارات لتطبيقها في الوقت الأكثر مناسبة.