من المرتقب أن تُلقي عملية اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال “قاسم سليماني”، ومعه “أبو مهدي المهندس” نائب قائد “الحشد الشعبي” العراقي، وأربعة من كبار ضباط “فيلق القدس” في بغداد؛ بالعديد من التداعيات التي ستنعكس تباعًا وسريعًا على العلاقات الإيرانية–الأمريكية، باعتبارها تمثل خطوات تصعيدية خطيرة وغير مسبوقة. بل يمكن القول إنها لم تكن مدرجة كأحد السيناريوهات المحتملة لدى الطرفين وفقًا لخبرة وطبيعة مسار العلاقات فيما بينهما على مدار العقود الأربعة الماضية منذ الثورة الإيرانية عام 1979 والتي غلب عليها طابع التوتر.
كما يعكس هذا التطور العديد من الدلالات، في مقدمتها تغير قواعد الاشتباك التقليدية التي أرساها الطرفان طيلة تلك الفترة، لا سيما مرحلة تواجدهما معًا على الساحة العراقية منذ سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، حيث سيعتمد الطرفان عملية “شد الأطراف” إلى أقصى درجة ممكنة، وذلك بالنظر إلى المكانة التي كان يتمتع بها “سليماني” في موقعه القريب جدًّا من رأس الهرم في النظام الإيراني، والتي تعد مكانة استثنائية. كما أن غياب شخصية محورية مثل “سليماني” ستكون له انعكاساته على مشروع إيران الإقليمي التي ستحارب من أجل استكماله، بما سينعكس بالتعبية على مستوى الاستقرار والأمن داخل العراق وعلى المنطقة بصفة عامة.
في هذا السياق، من المتصور أن هناك عددًا من الملاحظات الرئيسية يجب وضعها في الاعتبار أولًا لتحليل المشهد الحالي، ومنها على سبيل المثال:
1- غياب الجنرال المؤسس لذراع طهران الطويلة في الخارج:
يُعتبر الجنرال “قاسم سليماني” هو المؤسس والقائد الفعلي لفيلق القدس (ذراع العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني)، وقد أصبح خلال العام الأخير شخصية سياسية تجاوزت المنصب العسكري الأمني، بحيث أصبح المسئول الأول سياسيًّا وعسكريًّا عن الملفات السورية والعراقية واليمنية واللبنانية، والذي يتولى الاستراتيجية الإيرانية في هذه الدول، ويعتبر بذلك مهندسًا للأذرع الإيرانية الخارجية، وتتولى قيادات أخرى العمل التنفيذي في تلك الملفات. وقد زادت مهام “سليماني” خلال الفترة الأخيرة، حيث تولى فيلق القدس مهام داخلية في مواجهة التظاهرات التي شهدتها إيران مؤخرًا وذلك بتكليف من “خامنئي” شخصيًّا، متجاوزًا كافة القيادات العسكرية في الجيش والحرس الثوري الإيراني.
2- خليفة “سليماني”.. تركة ثقيلة ومستقبل حافل بالتحديات:
الجنرال “إسماعيل قآني” كان بمثابة رئيس أركان حرب فيلق القدس، وكان نائبًا لقاسم سليماني منذ إنشاء الفيلق، وتولّى المهام التنفيذية للانتشار العسكري الإيراني المباشر أو من خلال الفصائل العسكرية العراقية والمجموعات الباكستانية والأفغانية في سوريا. ومع تصعيد “سليماني” للمهام السياسية زادت مسئولية “إسماعيل قآني” في تنفيذ المهام العسكرية في سوريا واليمن. وبالتالي، سيحاول “قآني” تعويض غياب “سليماني” بلعب الأدوار التي كان يلعبها، لكنه سيمنح أولوية للجانب العسكري.
3- “أبو مهدي المهندس”.. غياب “نائب الظل” ورجل طهران القوي في العراق:
“أبو المهدي المهندس” الذي تم اغتياله أيضًا كان عنصرًا أساسيًّا في الكتيبة العراقية التي أنشأتها المخابرات الإيرانية في فترة الصراع مع النظام العراقي السابق، وكان أحد كوادر حزب “الدعوة” العراقي الذي قام بمحاولة فاشلة لاغتيال أمير الكويت عام 1985، وشارك مع مجموعاتٍ عسكريةٍ في الحرب العراقية الإيرانية مع الجانب الإيراني، وأسس فيلق “بدر” التنظيم العسكري الأول الذي أنشأته إيران في العراق بعد سقوط النظام، ثم تركه لقيادة “الهادي العامري” أحد الكوادر المرتبطة بفيلق القدس، وأسس كذلك “حزب الله العراقي”، وبعد تكوينه تركه ليتفرغ لمنصب وكيل “قاسم سليماني” في العراق الذي يُشرف فعليًّا على كل ما يتعلق بفصائل “الحشد الشعبي” وخارطة انتشاره، سواء في العراق أو سوريا، وساعده “سليماني” في إرغام الحكومة العراقية على تمويل وتسليح تلك الفصائل. ومن المتوقع أن هناك عددًا من الشخصيات التي ستتنافس على ملء الفراغ الذي تركه “المهندس”، وهي الشخصيات التي كانت تدور في فلكه، مثل: “هادي العامري” رفيق دربه، و”قيس الخزعلي” زعيم ميليشيا “عصائب أهل الحق” الذي كان من أبرز المقربين له في الفترة الأخيرة، وآخرين.
أما على صعيد الدلالات ذات الصلة بتلك التطورات فهناك أربع دلالات رئيسية، هي:
1- ضربة استباقية نوعية: من المتصور أن الوفد الذي رأسه “سليماني” وتعرض للضربة الأمريكية كان عائدًا -حسب مصادر إسرائيلية وأمريكية- من زيارة ميدانية لدمشق، ولم يلتقِ خلالها أيًّا من كبار المسئولين السوريين، ولكنه التقى قادةَ الفصائل الميدانية التابعة لإيران في سوريا وذلك لإقرار إعادة هيكلة وانتشار لتلك التنظيمات في مناطق أكثر تحصينًا، والاتفاق على خطة عمليات خلال المرحلة القادمة. ويُرجح أن معلومات استخباراتية إسرائيلية تم تسريبها للولايات المتحدة، قرأت هذه اللقاءات على أنها استعداد لعمليات عسكرية ضد مصالح أمريكية في المنطقة، وهو ما استند إليه الرئيس الأمريكي في تبرير ضربته.
2- عرقلة خطة طهران المستقبلية لإعادة هيكلة أذرعها الخارجية مؤقتًا: حيث تزامن ذلك كله مع توجه جديد تبناه “سليماني” ومعه “أبو مهدي المهندس” لإعادة هيكلة وانتشار الفصائل العسكرية العراقية وفي المناطق المحيطة بالانتشار الأمريكي العسكري والسياسي في العراق، فضلًا عن اتخاذ إجراءات وترتيبات لإنشاء فصيلين عسكريين جديدين من مجموعات عراقية خارج التنظيمات الموجودة حاليًّا وتم تدريبها في إيران وبإشراف مباشر من قيادات في فيلق القدس و”أبو مهدي المهندس” شخصيًّا، حتى تكون غير مرصودة لدى الولايات المتحدة الأمريكية وتتولى مهام لا يُحاسب عليها “الحشد الشعبي” بصورة مباشرة.
3- توظيف إيران للحدث بإعادة اصطفاف الكتل الشيعية: على الرغم من خسارة إيران لقائد كبير بحجم “سليماني”، لكن من المؤكد أنها ستوظف غيابه من خلال استثمار إعادة ترتيب البيت الشيعي الذي شهد تصدعات عديدة خلال الفترة السابقة، حيث ستعيد تلك الفصائل اصطفافها مجددًا، وستتكاتف حول هدف واحد هو مواجهة التواجد الأمريكي في العراق. كذلك فإن موقف المرجعية العليا في العراق “آية الله علي السيستاني” من العملية الأمريكية جاء واضحًا وفي غير صالح الموقف الأمريكي، وهو ما سوف تستثمره إيران والقوى المعادية لأمريكا في العراق، وسيمثل ذلك فتوى يضغط بها “الحشد الشعبي” على الكتل السياسية الشيعية لاتخاذ موقف سياسي ضد الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
4- أولويات الردع: سبق هذه الضربة تبادل لعمليات عسكرية بين كل من إيران والولايات المتحدة على الساحة العراقية تصاعدت بشكل واضح في الشهرين الأخيرين، حيث تعرضت المنشآت العسكرية الأمريكية في العراق لـــ(11) هجمة صاروخية بصواريخ كاتيوشا وصواريخ عيار 200 مل بكثافة، وجاءت العملية الأخيرة للتأكيد على استعادة الردع الأمريكي في المواجهة مع إيران. وفي المقابل، ستعمل إيران من جانبها بعد امتصاص الضربات السابقة على توجيه ضربة أيضًا في إطار الردع المضاد كأولوية بالدرجة الأولى.
على صعيد التداعيات المرتقبة للعملية، من المتوقع أنها ستكون في إطار عدد من المسارات، منها على سبيل المثال:
1- زيادة حدة التوتر في الأزمة النووية الإيرانية والعلاقات الأمريكية الإيرانية بصفة عامة، بحيث لا يتصور معها أن يتجه أي مسئول إيراني لقبول التفاوض على عناصر تلك الأزمة في التوقيت الحالي، وهو ما يضع صعوبات أمام ما كانت تقوم به بعض الدول الأوروبية خصوصًا فرنسا على هذا المستوى.
2- أعادت العملية طرح قضية الوجود العسكري الأمريكي في العراق والإطار الاتفاقي الذي يحكمها، وسوف تُزايد القوى الشيعية السياسية على ذلك خلال المرحلة الحالية، ومن المُرجح أن تُطرح قوانين لاتخاذ قرار بطرد هذه القوات من العراق، إلا أنه لا يتصور أن يتوصل البرلمان لقرار بهذا الخصوص بسهولة، حيث تمثل الكتلة الكردية عنصر ترجيح، وسوف ترفض مثل هذا القرار، لكنه سيكون مجالًا للتجاذب السياسي لعناصر الأزمة القائمة في العراق.
3- من المرجح أن تؤدي هذه العملية إلى إعادة تماسك الكتل السياسية الشيعية الرئيسية، وتُعيد القوى التي حاولت اتخاذ مواقف أكثر استقلالية فيما يتعلق بالتبعية لإيران –مقتدى الصدر/ الحكيم- وهو ما يمكن أن يدفع إلى تشكيل حكومة عراقية وفقًا للضوابط السابقة، تحتفظ إيران داخلها بمستوى النفوذ السابق على حساب دعاوى تغيير هيكل النظام العراقي.
4- من المرجح أن تترك العملية بتفاعلاتها المختلفة تداعيات سلبية على الحراك السياسي الجاري في العراق، بحيث تكون المواجهة بين قوى الشارع المطالبة بالتغيير الجذري في هيكل النظام والقوى المرتبطة بإيران أكثر حدة وعنفًا، وهو ما يطرح سقفًا لهذا الحراك لا يشمل التغيير المطلوب ولكنه سيستجيب لبعض المطالب فيما يتعلق بمواجهة الفساد وأبعاد الشخصيات المحسوبة على التنظيمات الحالية من المشهد السياسي في العراق، كنوع من الترضية لا تنسحب على تغيير هيكل النظام الحالي.
5- من الطبيعي أن يكون هناك ردٌّ إيرانيٌّ على العملية العسكرية للمحافظة على الهيبة الإيرانية في مناطق الأذرع، بما يُرجِّح معه التعرض لبعض مناطق الوجود الأمريكي العسكري والسياسي في تلك الدول أو بعض الدول الخليجية، سواء بصورة مباشرة من إيران أو من الأذرع المرتبطة بها.
6- رغم استراتيجية الرئيس الأمريكي لتخفيف الوجود العسكري في الخارج؛ إلا أن هذه التطورات سوف تدفعه لزيادة الانتشار العسكري في العراق والخليج والدوائر التي ينتشر فيها الحضور الأمريكي، بما لا يتوافق مع ما أعلنه في حملته الانتخابية ويزيد من مناطق التعرض الأمريكي للعمليات الإيرانية، وهو ما يمكن أن يُمثل عاملًا على الإدارة الأمريكية في المواجهة الجارية مع إيران.
7- من المُرجح كذلك أن تؤدي مجمل هذه التطورات إلى تداعيات داخلية في إيران، حيث ترتفع أسهم المتشددين في مواجهة الأقل تشددًا (الإصلاحيين)، وكذلك على الحراك الداخلي في إيران، حيث سيركز النظام على تصاعد الخطر الخارجي، والتأكيد على أنه يهدد الدولة الإيرانية وليس النظام.
مجمل القول، إن الإدارة الأمريكية باتخاذها هذا القرار استهدفت مكاسب داخلية للرئيس الأمريكي الذي يواجه موقفًا داخليًّا صعبًا، ليبدو حريصًا على الأرواح الأمريكية ليجذب الانتباه الشعبي إليه، وهو ما يعكسه تأكيد كافة القيادات العسكرية والسياسية الأمريكية في تعليقها على العملية بأنه قرار مباشر للرئيس للحفاظ على أرواح الأمريكيين. كما يكشف ذلك عن توجه للرئيس الأمريكي بأنه أقر سياسة استباقية في مواجهة القوى التي يعتبرها مهدِّدة للمصالح الأمريكية، وذلك لمواجهة الاتهامات التي يوجهها الديمقراطيون إليه بالضعف، وعدم امتلاكه رؤية صائبة في مواجهة التهديدات الأمريكية.
كل ذلك لن يؤثر على الاستراتيجية الإيرانية في دول الأزمات التي تمثل الأذرع الإيرانية، وسوف تحرص إيران على تقديم أية تنازلات أو تفاهمات خلال المرحلة القادمة للتأكيد على امتلاكها أوراق ضغط، والقدرة على تهديد الاستقرار والأمن في مناطق المصالح الأمريكية والغربية.
تجري هذه الأحداث والتطورات في شكل ومستوى المواجهات بين أمريكا وإيران وميدانها الرئيسي هو الدول العربية التي تشتبك مع عناصر هذه المواجهة في ظل غياب موقف عربي جامع لتحديد مدى تأثيرها على المصالح العربية والأمن القومي العربي، واتخاذ ترتيبات أو مواقف تحدّ من سلبياتها عليه.